الحرب تتمدد والسودانيون يبحثون عن النجاة!

تقترب قوات الدعم السريع من الانتشار في كل أنحاء البلاد: تسيطر على الأرض تماماً وتوجه نيرانها المختلفة ضد المواطنين. ومع انسحابات الجيش من مقاره في دارفور ثم الجزيرة، يُتوقع أن تتقدم قوات الدعم السريع وسط البلاد وجنوبها. كل السودانيين يصرخون مستغيثين لإنقاذ أرواحهم، ولا يبدو أن أحداً يستجيب أو حتى يسمع. لقد صم العالم آذانه تماماً وتخلى حتى عن مجرد النظر إلى ما يجري في السودان.
2023-12-26

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
الفرار من أمام تقدم قوات الدعم السريع

ليست مثل بقية الحروب! الحرب في السودان لا تشبه إلا نفسها، وهي انتقام أو عقاب جماعي، كما هي الحال في غزة من قبل الأعداء. الحرب في السودان لا تعرف أي سقوف أخلاقية تجعل للمدنيين حساباً.

بعد 9 أشهر من الحرب، لم يعد السودانيون يفرون من كثافة نيران المعارك بل بات الرصاص مستوى من الرحمة يتمنى الناس أن تتوقف الحرب عنده. لكن الجميع الآن يواجهون واقعاً أقرب إلى أفلام الخيال التي نشاهدها في السينما، صنوف من العذاب وليس المعاناة التي تجاوزها السودانيون منذ الأيام الأولى من هذه الحرب ليدخلوا جماعياً مرحلة عذاب لم يسلم منه أحد ولا يزال يتمدد.

سقوط "مدني" يُحوّل البلاد إلى حجيم

بعد هدوء عملياتي قصير، في أعقاب سقوط مدن دارفور على يد قوات الدعم السريع في الفترة بين نهاية تشرين الأول/أكتوبر وبداية تشرين الثاني/نوفمبر من هذا العام الجاري، سقطت مدينة مدني عاصمة ولاية الجزيرة الواقعة وسط البلاد في 19 كانون الأول/ ديسمبر، بعد أربعة أيام فقط من محاصرتها، حيث انسحبت الفرقة الأولى بالكامل مخلِّفة عتادها دون معرفة السبب، على الرغم من أن الجيش قال في بيان أن تحقيقاً حول الأمر سوف يجري، لكن كما سبقتها نيالا، زالنجي والجنينة في غرب البلاد... لم يعد الأمر مستغرباً.

وتمثل مدني صُرة البلاد اقتصادياً وخدمياً وكذلك أمنياً وعسكرياً، وتضم مشروع الجزيرة الزراعي، أكبر مشاريع القارة الأفريقية حيث يمتد على مساحة مليوني فدان.

تحولت ولاية الجزيرة وبشكل خاص مدينة مدني إلى واحدة من أهم المناطق الآمنة بعد "حرب 15 أبريل" حيث لجأ إليها أكثر من 80 ألف نازح مع بداية الانفجار في الخرطوم، وتحولت إلى مركز تجاري يغطي احتياجات وسط البلاد علاوة على انتقال كافة الخدمات الصحية والعلاجية إليها، وأصبحت مقرا لمنظمات الإغاثة. لكن بعد السقوط نزح منها نحو ربع مليون مواطن وتوقفت كافة الخدمات وتعطلت الحياة تماماً. 

الآن هذه الملايين من السكان والنازحين بلا أمن ولا خدمات علاجية ولا اتصالات مستقرة، بل حتى الغذاء سوف يصبح أمره عسيراً بعد حين. ووفقاً لتقارير برنامج الغذاء العالمي، فإن البلاد بلغت مستويات جوع غير مسبوقة، وتوقعت المنظمة الأممية حدوث مجاعة بحلول شهر أيار/ مايو القادم.

وأشار البرنامج إلى أن نحو 18 مليون شخص في جميع أنحاء البلاد يواجهون الجوع الحاد، 5 مليون منهم في وضع الطوارئ، وهو ضعف الرقم الذي تمّ تسجيله في الوقت نفسه من العام الماضي.

وقد تصاعد الرقم بشكل مذهل خلال فترة وجيزة مع احتدام الصراع واتساع رقعته، حيث كانت توقعات التقييم السابق تشير إلى 15 مليون إنسان يهددهم الجوع. وأما تقرير برنامج الغذاء العالمي فقد بدأت ملامحه تظهر على الأرض.

تحولت ولاية الجزيرة وخاصة مدينة مدني إلى واحدة من أهم المناطق الآمنة بعد "حرب 15 أبريل" حيث لجأ إليها أكثر من 80 ألف نازح مع بداية الانفجار في الخرطوم، وتحولت إلى مركز تجاري يغطي احتياجات وسط البلاد كما انتقلت اليها كافة الخدمات الصحية والعلاجية، وأصبحت مقراً لمنظمات الإغاثة، وتضم مشروع الجزيرة الزراعي، أكبر مشاريع القارة الأفريقية الممتد على مساحة مليوني فدان.

مع تفشي الفقر وفقدان مصادر الدخل وارتفاع أسعار النقل والغذاء، تصبح خيارات السودانيين إما العودة إللى الخرطوم باعتبارها امتصت الصدمة تماماً واللحاق بأولئك الذين خاضوا تجربة البقاء في العاصمة على الرغم من كل شيء، أو الخروج نهائياً عبر التهريب، وهذه رحلات فيها من المخاطرة والقسوة ما فيها، أو القبول بالأمر الواقع والبقاء تحت كل هذا الجحيم! 

منذ فترة تشكو المجموعات التطوعية من تراجع الدعم الشعبي للمطابخ الخيرية، التي تُطعم بشكل جماعي بعض المواطنين الذين فضلوا البقاء داخل العاصمة الخرطوم. وتضاعفت أسعار المواد الغذائية على نحو لا يُطاق، وتوقفت مصادر دخل الناس إلا باستثناء فئات بسيطة من العاملين في الخدمة المدنية، وأصبح الاعتماد الأكبر على المغتربين أو الإعانات التي تأتي من الدعم الشعبي، وتراجَع التفاعل الإنساني (الذي بلغ أعلى مستوياته مع بداية الحرب) لتلبية احتياجات الناس العاجلة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

بجانب الرصاص والمقذوفات الطائشة، فهناك أعداد مقدّرة من الأرواح راحت بسبب فقدان الرعاية الطبية في الوضع الأمني المنهار تماماً.

انتهاكات واسعة وانعدام الحد الأدنى من الحماية

أما الجانب الأكثر بشاعة هو الانتهاكات الواسعة التي يتعرض لها المواطنون من قبل قوات الدعم السريع التي ما دخلت مدينة أو قرية إلا واستباحتها بالكامل، بحثاً عن السيارات، الذهب والأموال. أموال الناس وممتلكاتهم هي ملك لعناصر الدعم السريع بقوة السلاح ومن يعترض لن يتطلب الأمر معه سوى رصاصة واحدة ترديه قتيلاً أو مصاباً يتركونه ينزف ويُكملون النهب.

يمكن القول إن كل السودانيين تقريباً يصرخون جماعياً مستغيثين من أجل إنقاذ أرواحهم، ولا يبدو أن أحداً يستجيب أو حتى يسمع. لقد صم العالم آذانه تماماً وتخلى حتى عن مجرد النظر إلى ما يجري في السودان.

المشهد بعد سقوط مدني لا مثيل له، حال من الهلع غير مسبوقة عمت بقية المناطق التي لم تصلها قوات الدعم السريع، وأي مدينة كبيرة في محيط ولاية الجزيرة اتبعت نهجاً وقائياً حيث فر العديد من السكان إلى القرى والأرياف ونقل التجار بضائعهم من الأسواق حفاظاً عليها من النهب وأُغلقت المستشفيات. الكل يبحث عن مخرج من البلاد أو محاولة النزوح إلى مكان يُحتمل أن يكون آمناً وبعيداً ولو لأيام معدودة يستعيد فيها الناس أنفاسهم.

وعلى الرغم من أن بعض قرى ولاية الجزيرة وسط البلاد حاولت التعايش مع بشاعات قوات الدعم السريع، حيث شكلت لجان لعقد اتفاق معهم، إلا أنه لم تسلم قرية ولا مدينة من الانتهاكات والنهب والترويع. يحدث هذا وسط دعوات واسعة للتسليح الشعبي، وجدت استجابة في بعض المناطق.

الجانب الأكثر بشاعة فهو الانتهاكات الواسعة التي يتعرض لها المواطنون من قبل قوات الدعم السريع التي ما دخلت مدينة أو قرية إلا واستباحتها بالكامل، بحثاً عن السيارات، الذهب والأموال. أموال الناس وممتلكاتهم هي ملك لعناصر الدعم السريع بقوة السلاح ومن يعترض لن يتطلب الأمر معه سوى رصاصة واحدة ترديه قتيلاً أو مصاباً يتركوه ينزف ويُكملوا النهب.

تقترب قوات الدعم السريع من الانتشار في كل أنحاء البلاد: تسيطر على الأرض تماماً وتوجه نيرانها المختلفة ضد المواطنين، ومع انسحابات الجيش من مقاره في دارفور ثم الجزيرة يُتوقع أن تتقدم قوات الدعم السريع بشكل أكبر وسط البلاد وجنوبها. لكن حتى إن لم ينسحب الجيش فهو لم يتقدم خطوة خارج مقاره لحماية الناس إلا في مساحات محدودة في بعض المناطق، ويبدو أن هذه قدرته تماماً ويتوجب على الناس أن يعوا هذا الواقع. والواقع هو باختصار أن مواطنين عزّل يواجهون ترسانة عسكرية وقوات عقيدتها النهب والانتهاكات ولا يرمش لها جفن لفعل أي شيء، أي شيء.

مع تفشي الفقر وفقدان مصادر الدخل وارتفاع أسعار النقل والغذاء، تصبح خيارات السودانيين إما العودة إلى الخرطوم باعتبارها امتصت الصدمة تماماً واللحاق بأولئك الذين خاضوا تجربة البقاء في العاصمة رغم كل شيء، أو الخروج نهائياً عبر التهريب، وهذه رحلات فيها من المخاطرة والقسوة ما فيها، أو القبول بالأمر الواقع والبقاء تحت كل هذا الجحيم، وأي جحيم! 

مقالات من السودان

للكاتب نفسه