السودان: أن تندلع الحرب في المركز لا في "الهامش"

"الأهوال" التي بات الناس يُصبِحون ويمْسون عليها، هي ليست "المرة الأولى" بالنسبة للسودانيين. فقد شهدت أقاليم دارفور، النيل الأزرق، وجنوب كردفان الفظائع ذاتها، بل وأشد منها في بعض الأحيان. لكنها طبعاً المرة الأولى بالنسبة لسكان العاصمة، الخرطوم. والحرب في الخرطوم مغايرة تماماً من حيث دوافعها، وتداعياتها ونتائجها، وقبل كل ذلك "دلالاتها".
2023-06-26

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
الفرار من الخرطوم مستمر

إن كان ثمة توصيف مناسب وفق المتاح في قواميس اللغة، فإن ما جرى في الخرطوم - ولا يزال جارياً – يصح فيه نعت "الأهوال العظيمة". وربما لا يكون هذا التوصيف كافياً للتعبير بدقة عن واقع الحال، حيث طال الخراب كل شيء. كل شيء بمنتهى البشاعة.

أن يموت أحد أفراد أسرتك بشظايا القصف العشوائي ولا تتمكن من إكرامه بالدفن بما يليق بآدميته، لأن الاشتباكات تحاصرك من كل صوب، وتضطر أن تحفر له قبراً داخل بيته، أن تُواري الثرى أجساد أربعة إخوة في لحظة واحدة، أن تنجو من الرصاص سيدة مُسنة لكنها تموت بسبب انعدام الخدمة الطبية كما حدث مع مرضى غسيل الكلى الذين ماتوا بالجملة...

ومع ذلك، هناك من يحمد الله على هذه الميتة. فالكثيرون مع ساعات الانفجار الأولى صباح 15 نيسان/ أبريل، تشتتت جثثهم في الشوارع وتعفنت ونهشتها الكلاب ولم تجد حتى من يواريها الثرى، ولا تزال الجثث تتساقط في الشوارع، في الخرطوم ومدينة "الجنينة" غربي البلاد التي تشهد هي الأخرى أبشع صنوف الوحشية ذات الطابع الإثني، وإن كانت "الجنينة" خاضت تجارب حرب سابقة ضمن مدن إقليم دارفور المأزوم، إلا أن ما يجري فيها الآن أشد وأعنف وله من التبعات أثقلها.

هذه "الأهوال" التي بات الناس يُصبِحون ويمْسون عليها، هي ليست "المرة الأولى" بالنسبة للسودانيين. فقد شهدت أقاليم دارفور، النيل الأزرق، وجنوب كردفان الفظائع ذاتها، بل وأشد منها في بعض الأحيان. لكنها طبعاً المرة الأولى بالنسبة لسكان العاصمة، الخرطوم. والحرب في الخرطوم مغايرة تماماً من حيث دوافعها، وتداعياتها ونتائجها، وقبل كل ذلك "دلالاتها".

لماذا الحرب في الخرطوم؟

ظلت الخرطوم على الدوام ومنذ استقلال البلاد في 1956 قابضة على حكم البلاد بمركزيتها الجغرافية، التنموية والإثنية. وبلغت هذه المركزية ذروتها خلال حكم عمر البشير (1989 - 2019)، ما جعلها تبقى على الدوام في موضع اتهام وطني بتجييش المليشيات من سكان الأطراف وإشعال الحروب فيها وتحصين نفسها من كل أذى يلحق بتلك الأطراف، منفصلة الوجدان كلياً عن مآسي السودانيين. بل كان إعلامها الرسمي أكثر تعاطفاً مع غزة من دارفور في أشد سنوات نزيف دمها.

و"الخرطوم" هنا طبعاً لا يُقصد بها العاصمة الإدارية أو الوطنية في مركز البلاد، بل الدولة المركزية التي نشأت في أعقاب الاستقلال.

... الموت لانعدام الادوية أو بالرصاص داخل المنازل. ومع ذلك، هناك من يحمد الله على هذه الميتة. فالكثيرون مع ساعات الانفجار الأولى صباح 15 نيسان/ أبريل، تشتتت جثثهم في الشوارع وتعفنت ونهشتها الكلاب ولم تجد حتى من يواريها الثرى، ولا تزال الجثث تتساقط في الشوارع، في الخرطوم ومدينة "الجنينة" غربي البلاد.

هذه الوضعية كانت حجة نشوء حركات التمرد المسلحة في جنوب السودان وغربه، وجميعها أُسست على فلسفة "المركز والهامش". وهذه الإشكالية لا تقتصر فقط على التفاوت الطبقي بين الخرطوم المستأثرة بالثروة والسلطة، وغالبية مناطق السودان المهمشة، بل تتجاوز ذلك إلى "اختلال إثني" يخاطب هوية الدولة بين عربية وزنجية، في بلد متعدد الإثنيات والثقافات.

تصاعد الخطاب ضد الخرطوم

الذين تابعوا المشهد السياسي جيداً خلال الأشهر القليلة التي سبقت حرب 15 نيسان/ أبريل رصدوا بلا شك خطاب كراهية واسع النطاق ضد الخرطوم كمركز يعبِّر عن الدولة القديمة، أي دولة الاستقلال. وعلى الرغم من أن هذا التنظير موجود أصلاً في كل أدبيات الحركات المسلحة، إلا أنه تجلى بشكل صارخ مع اشتداد الصراع السياسي عقب سقوط حكم البشير الذي استمر أكثر من ربع قرن.

تلخيص ما يدور الآن بين الجيش و"الدعم السريع" - إذا ما جرّدناه من كونه تمرد قوة عسكرية ضد القوة الأم، وجرّدناه كذلك من التنافس السياسي بين "الجيش" و"الدعم السريع"، ومن أبعاده الإقليمية – هو أنه صراع قوى قديمة (الجيش) مع قوى جديدة صاعدة (الدعم السريع) تحاول أن تنتفض من كونها أداة في يد القوى القديمة إلى أن يعترف بها كصاحبة السلطة، في إرباك مذهل لفلسفة المركز والهامش

بجانب قيادات عسكرية وبعض قيادات الحركات المسلحة، تبنى بعض المسؤولين الحكوميين خطاب كراهية ضد الخرطوم، ومما يُذكر جيداً أنه، إبان التصعيد والحرب الكلامية بين المكونات المدنية والعسكرية، تناول نائب حاكم إقليم دارفور الأمر فيما كان يخاطب حشداً جماهيرياً في مؤتمر للتعايش السلمي، إذ طلب من سكان دارفور أن يفتحوا ديارهم لنازحي الخرطوم إذا حدث مكروه، وختم حديثه الذي لم يخلُ من شماتة، بـ "لعلكم فهمتم الرسالة".

حديث نائب الحاكم هو امتداد لخطابات متصلة تفجرت بوضوح عقب "ثورة ديسمبر 2018" تهدد بالحرب في الخرطوم. ومع نقاشات تشكيل هياكل الحكومة الانتقالية، برزت جلياً هذه السمة بين الأحزاب السياسية التي يمكن وصفها بأنها تعبّر عن الدولة القديمة، والحركات المسلحة التي تعبّر عن قوى جديدة صاعدة ومنافسة للقوى القديمة بل ومناهضة بقوة السلاح للبناء القديم للدولة السودانية. ثم تحولت هذه النقاشات لاحقاً إلى خلافات واصطفاف قاد إلى انقلاب 25 اشرين الأول/ أكتوبر 2021. وبقي الأمر يتدحرج إلى أن وقعت الحرب. وكان واضحاً أن النهاية ستكون حرباً، لكن هذه المرة داخل "المركز" وكأن لسان الحال يقول "لابد أن تدفع الخرطوم الثمن وتشرب من الكأس ذاتها"، وأن تدفع ثمن سياسة "التمليش": صناعة المليشيات!

ومما يُذكر جلياً أيضاً في هذا الصدد، أنه وعقب مجزرة فض إعتصام القيادة العامة في حزيران/ يونيو 2019 هدّد قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي) بأن يحوّل عمارات الخرطوم إلى مساكن للقطط. وبالفعل هذا ما يحدث الآن.

تأسست حجة نشوء حركات التمرد المسلحة في جنوب السودان وغربه، على فلسفة "المركز والهامش". وهذه الإشكالية لا تقتصر فقط على التفاوت الطبقي بين الخرطوم، المستأثرة بالثروة والسلطة، وغالبية مناطق السودان المهمّشة، بل تتجاوز ذلك إلى "اختلال إثني" يخاطب هوية الدولة بين عربية وزنجية، في بلد متعدد الإثنيات والثقافات.

صحيح أن حديثه وقتذاك جاء في سياق صراع سياسي محض، لكنه عبّر عن هذه الإشكالية. وللمفارقة فإن دقلو نفسه كان أداة الدولة القديمة الباطشة في أعنف فتراتها، واكتسبت قواته سمعتها السيئة هذه من الفظائع التي ارتكبتها خلال حرب دارفور ضد الحركات التي كانت تدعو إلى إنهاء التهميش!

الفرصة الأخيرة

وتلخيص ما يدور الآن بين الجيش و"الدعم السريع"، إذا ما جرّدناه من كونه تمرد قوة عسكرية ضد القوة الأم، وجرّدناه كذلك من التنافس السياسي بين "الجيش" و"الدعم السريع"، ومن أبعاده الإقليمية، هو صراع قوى قديمة (الجيش) مع قوى جديدة صاعدة (الدعم السريع) تحاول أن تنتفض من كونها أداة في يد القوى القديمة إلى أن يعترف بها كصاحبة السلطة، في إرباك مذهل لفلسفة المركز والهامش.

على العموم، فإن حرب الخرطوم على بشاعتها وما خلّفته من خراب قاد إلى شلل كامل للبلاد، لعلها توفر فرصة لبناء دولة مواطَنة (في الحقيقة وليس بالشعارات)، تقوم ابتداء على عدالة اجتماعية تسد أبواب التهميش الذي أوصل البلاد إلى ما هي عليه الآن، ولعلها تتيح فرصة لمعالجة التفاوت الطبقي الفادح بين الأرياف والمدن، والذي يعايشه حياتياً اليوم سكان الخرطوم نظراً لموجات النزوح من الخرطوم إلى المدن الثانوية والأرياف، في هجرة عكسية تحدث لأول مرة في السودان. هجرة أفقرت الخرطوم وأحدثت بعض الانعاش في اقتصاد الولايات.

مركز البلاد، العاصمة التي كانت على مرّ سنوات حروب السودان المتعددة ملاذاً للفارين من ويلاتها، تعيش هذه الفترة تغييرات اقتصادية واجتماعية هائلة، لا بد أنها سوف تعيد التفكير في فرض معادلات تنمية تردم الهوة بين المركز والولايات، بين المدينة والريف أو على الأقل تضيّق المسافات الشاسعة بينهما، وتتصدى في الوقت نفسه لمشكلة التفاوت في الوصول إلى الثروة والسلطة بحسب الإثنيات.

وتلك قد تكون الحسنة الوحيدة لحرب الخرطوم أو الفرصة الأخيرة لبناء دولة المواطنة والمساواة المنشودة.  

مقالات من السودان

للكاتب نفسه