السودان… هل وقع الجميع في براثن العجز؟

مثلما تتلاشى يومياً فرص تقدّم الانقلاب إلى الأمام مستعيناً تارة بالقوى السياسية التي شاركت نظام البشير وتارة بالإدارات الأهلية، تتلاشى أيضاً فرص الوصول لمركز موحّد لمناهضة الحكم العسكري، وهو الأمر الذي ينتهي كما نراه يومياً إلى معادلة ضعف بائنة تتحكم بالعملية السياسية.
2022-09-17

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
كريم رسن - العراق

أسابيع قليلة ويكمل انقلاب قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، عاماً كاملا دون أن يتقدم خطوة لتشكيل حكومته. الانقلاب الذي أزاح الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك - وهي أتت بعد شراكة عسكرية-مدنية بين الجيش وقوات "الدعم السريع" وتحالف أحزاب "الحرية والتغيير" –وُلد هشاً، إلا أنه لم يسقط ولم تنته تداعياته بشكل كامل، على الرغم من استمرار الحراك الثوري المناهض له. وكما تتلاشى يومياً فرص تقدّم الانقلاب إلى الأمام مستعيناً تارة بالقوى السياسية التي شاركت نظام البشير وتارة بالإدارات الأهلية، تتلاشى أيضاً فرص الوصول لمركز موحّد لمناهضة الحكم العسكري، وهو الأمر الذي ينتهي كما نراه يومياً إلى معادلة ضعف بائنة تتحكم بالعملية السياسية.

مبادرات مستمرة بلا قبول

لم تتوقف المبادرات السياسية من الطرح المستمر منذ صبيحة انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر، سواء كانت مبادرات وطنية أو بواسطة سفارات دول عربية وغربية. ويمكن القول إن جميع المبادرات المطروحة - تلك التي يدعمها العسكر من وراء ستار أو تدعمها قوى "الحرية والتغيير" - لا تحظى بالقبول الكافي، وسرعان ما تتحول إلى مادة للتندر والسخرية في مواقع التواصل الاجتماعي. وقد باتت كلمة "مبادرة" ذات حمولات سلبية وتدل على تسويات سياسية عديمة الجدوى تُخرج المواطن من دائرة اهتمامها. وأصبحت كلمة "تسوية" لا تعني إلا الخيانة الكبرى، لأن المحصلة النهائية لهذا الكم الهائل من المبادرات والإعلانات السياسية هو تقاسم للسلطة قائم على التنافس المستند على عناصر القوة، وليس التنافس على ما هو مطروح من رؤى وبرامج وخطط لإدارة الدولة، ولا حتى تحقيق الحد الأدنى من استقرار الجهاز التنفيذي المعني من توفير الخدمات اليومية للمواطنين، دع عنك "الانحياز للثورة".

بدأت نتائج هذا العجز تبرز بوضوح في حالة التفكك والسيولة التي لحقت بكل قطاعات ومؤسسات الدولة والتي أصبح بعضها يعمل في جزر معزولة تماماً عن الأخرى، وفي غياب كامل عن رقابة حركة موارد الدولة التي تتقاسمها القطاعات العسكرية بفرض الأمر الواقع، وهو الأمر الذي يعبّد الطريق أمام استشراء الفساد على نحو لم يخطر ببال، ويُحوّل ما تبقى إلى دولة غنائمية. 

جميع المطروح من مبادرات أو مواثيق أو إعلانات لا يجيب على الأسئلة المهمة والملحة التي تتطلب - قبل الاتفاق على تقاسم السلطة - إجابات قطعية وواضحة والتزامات صارمة. قضايا حيّة مثل العدالة، الاقتصاد والجيوش المتعددة لا تجد حداً أدنى من الاهتمام مثلما تجده كيفية المحافظة على امتيازات الطبقة السياسية والعسكرية.

ويمكن تعداد أطراف معادلة الضعف التي أحكمت قبضتها على المشهد السياسي السوداني في ثلاثة مكونات رئيسية، أولاً: قوى عسكرية متورطة في فظائع وهي ليست على قلب مؤسسة واحدة، حيث بدا واضحاً أن هناك ما يشبه الصراع العلني على الحكم بين مؤسسة الجيش وقوات "الدعم السريع" التي يتزعمها نائب رئيس المجلس السيادي، محمد حمدان دقلو. وإذا ما احتد الصراع بين الطرفين وازدادت حدة الاستقطاب ساعتها يبرز سؤال مهم: في أي صف ستقف الحركات المسلحة بجيوشها وعتادها؟ وفي أي صف ستقف القوى السياسية بتشكيلاتها المختلفة، وما موقف لجان المقاومة والأحزاب المتوافق مع خطها؟

ثانياً: قوى سياسية قليلة الحيلة، مشتتة ومنقسمة، بعضها يسير مع صوت الشارع لكنه غير قادر على مجابهة الأسئلة الثائرة بالمنطق السياسي فاكتفى بالولاء للشارع هتافاً وشعارات بلا برنامج عمل صريح المعالم. والبعض الآخر، وهم الغالبية في القوى السياسية، تستعجل أي شكل تسوية سياسية ينتهي لحكومة، ولا تمانع بالضرورة في منح العسكريين الحكم مدى الحياة، والأمر بالنسبة لها ليس خيانة إنما هو "فن الممكن".

جميع المطروح من مبادرات أو مواثيق أو إعلانات لا يجيب على الأسئلة المهمة والملحة التي تتطلب - قبل الاتفاق على تقاسم السلطة - إجابات قطعية وواضحة والتزامات صارمة. قضايا حيّة مثل العدالة، الاقتصاد والجيوش المتعددة لا تجد حداً أدنى من الاهتمام مثلما تجده كيفية المحافظة على امتيازات الطبقة السياسية والعسكرية. 

في نهاية الأمر فإن جميع القوى السياسية، سواء تلك التي شاركت النظام السابق سنوات حكمه أو حتى القوى السياسية التي تنضوي تحت مسمى "قوى الثورة" جميعها تفتقد للثقة بينها والناس، وهو الأمر الذي أوصل إلى فقدان تأثيرها وفاعليتها الجماهيرية بالقدر الذي يمكّنها من أن تتقدم للقيادة دون خوف أو وجل.

أما الطرف الثالث وهو الأكثر تأثيراً - حتى الآن - في الفعل السياسي، أي "لجان المقاومة" وبعض القطاعات المهنية، فيدعمها على مستوى القوى السياسية "الحزب الشيوعي" و"الحركة الشعبية" بقيادة عبد العزيز الحلو و"حركة جيش تحرير السودان" بقيادة عبد الواحد محمد نور. هذه الكتلة التي تنعت بال"الجذريين"، تنادي بالتغيير العميق بدءاً من إخراج العسكريين من المشهد، وترفع شعار اللاءات الثلاث "لا تفاوض، لا شراكة ولا شرعية" وهي لا تزال ممسكة بجذوة الثورة متقدة، لكنها بالمقابل لا تجيب أيضاً على السؤال المحوري "كيف؟". 

هي تتبنى كل مطالب الثورة التي تنتهي إلى قيام دولة مدنية كاملة وتأخذ مواقف قاطعة وحاسمة في بعض القضايا الحيّة، لكن أيضاً لم تتمكن من التقدم في أي خطوة عملية.

جميع القوى السياسية، سواء تلك التي شاركت النظام السابق سنوات حكمه أو حتى القوى السياسية التي تنضوي تحت مسمى "قوى الثورة" جميعها تفتقد للثقة بينها والناس، وهو الأمر الذي أوصل إلى فقدان تأثيرها وفاعليتها الجماهيرية بالقدر الذي يمكّنها من أن تتقدم للقيادة دون خوف أو وجل. 

جميع الأطراف فقدت القدرة على الانتقال من محطتها، وأصبح كل طرف يرمق الآخر منتظراً ردة فعل ما. هذه المعادلة الضعيفة جعلت الجميع عاجزاً، مع تباعد شاسع في مساحات التلاقي بينها، وهو الأمر الذي سمح لقائد الجيش - على ضعفه – في البقاء في موقعه وفي انتظار أن تتوافق القوى السياسية لاستلام السلطة وفقاً لخطاباته الأخيرة.

صحيح أن اتساع الشقة بين القوى المدنية، وتحديداً بين القوى السياسية التقليدية ممثلة بالأحزاب، والقوى الحديثة ممثلة بلجان المقاومة والقطاعات المهنية، يمنح في ظاهره القوى العسكرية "شيكاً على بياض" للاستمرار في الحكم، لكن الواقع أن القوى العسكرية نفسها في وضع "قلة حيلة" ربما يفوق القوى السياسية، وفوق ذلك ليس في مقدورها خوض معارك القبول الشعبي كما تفعل الأحزاب السياسية على الرغم من الرفض الذي يحيط بها.

غياب الرؤية

حالة العجز التي بلغها الجميع وانتهت إلى جمود سياسي، تبدو نتيجة طبيعية باعتبار سنوات الاستبداد التي حكمت البلاد لثلاثين عاماً وحوّلت القوى السياسية إلى مجرد "صوت" معارض. كما أن "ثورة ديسمبر" 2018 علّت سقف المطالب والطموحات التي ضاق بها وعاء الأحزاب السياسية غير القادرة على التغيير داخل أجسامها. كما اتضح بلا مواربة أن القوى السياسية والمهنيين الذين قادوا الثورة، لم تكن لديهم الرؤية الواضحة ولا الخطة لإدارة الدولة بعد سقوط نظام البشير... ولا زالوا. ويبدو أنه لم يكن في الحسبان مدى تغلغل النظام السابق في جميع أجهزة الدولة، وعلى وجه خاص الأجهزة العسكرية والأمنية التي – فعلياً - تحكم البلاد منذ سقوط البشير في نيسان/ أبريل 2019.

بدأت نتائج هذا العجز البائن تبرز بوضوح في حالة التفكك والسيولة التي لحقت بكل قطاعات ومؤسسات الدولة والتي أصبح بعضها يعمل في جزر معزولة تماماً عن الأخرى، وفي غياب كامل عن رقابة حركة موارد الدولة التي تتقاسمها القطاعات العسكرية بفرض الأمر الواقع، وهو الأمر الذي يعبّد الطريق أمام استشراء الفساد على نحو لم يخطر ببال ويُحوّل ما تبقى إلى دولة غنائمية. وبالفعل شرعت السلطات في مضاعفة مهولة لضرائب الأعمال واتخذت قرارات مفاجئة ضد المستوردين في محاولة لسد العجز المستمر في موازنة الدولة، حيث اعتمدت آخر موازنة باكثر من 50 في المئة على المنح والهبات التي علّقتها المؤسسات الدولية بعد انقلاب قائد الجيش. والنتيجة الآن تنفيذ إضرابات متفرقة في عدد من مدن السودان، وهي المرة الأولي التي يتخذ فيها "التجار" موقفاً مناهضاً ضد السلطات، إذ كانت هذه الشريحة في موقف الحياد على الدوام.

كتلة "الجذريين" تنادي بالتغيير العميق بدءاً من إخراج العسكريين من المشهد، وترفع شعار اللاءات الثلاث "لا تفاوض، لا شراكة ولا شرعية" وتمسك بجذوة الثورة متقدة، لكنها بالمقابل لا تجيب على السؤال المحوري: "كيف؟". تتبنى كل مطالب الثورة التي تنتهي إلى قيام دولة مدنية وتأخذ مواقف حاسمة في بعض القضايا الحيّة، لكنها لم تتمكن من التقدم في أي خطوة عملية.

ومع تراجع النشاط التجاري وخروج قطاعات من دائرة الانتاج وفرض الضرائب المهولة والتردي المريع في الخدمات الأساسية والإضرابات المستمرة في قطاعات الدولة الحيوية لتحسين أجور العاملين، سينتهي الأمر - مع غياب الفعل السياسي - إلى حالة شلل كاملة تصيب عصب الدولة التي تعج الآن بالجيوش والميليشيات. وأي تسوية سياسية تقود لتشكيل حكومة سوف تواجه مسؤولية مضاعفة في إدارة الجهاز التنفيذي للدولة، ولن تستطيع بلا شك الصمود كثيراً إن لم تتحلَ بقوة مضاعفة لإحداث اختراق حقيقي، ابتداءً بملف الاقتصاد. 

مقالات من السودان

للكاتب نفسه