هل يعجّل الصراع الأمريكي-الروسي بالتسوية السياسية في السودان؟

في خضم الاستعصاء السياسي في السودان، حققت بعض أطراف السلطة مكاسب جمة، ربما كانت أبرز علاماتها ذلك الاتساع في دائرة الوجود الروسي في البلاد. وخشية من ذلك، كثّفت الولايات المتحدة الأمريكية مساعيها للملمة شتات أطراف الأزمة، واستنفرت، لأن حلفاءها الأوروبيين بدأوا يفقدون نفوذهم لصالح روسيا، ليس فحسب في السودان بل وفي عدة دول أفريقية.
2022-06-30

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
شركة فاغنر الروسية في السودان

بعد ثمانية أشهر من انقلاب قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أمام طريق واحد لا ثاني له، وهو الضغط المضاعف على المجلس المركزي لتحالف "الحرية والتغيير" والذي انقلب عليه البرهان في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، حينما أطاح بالحكومة المدنية التي كانت برئاسة عبد الله حمدوك. كثّفت واشنطن اتصالاتها ولقاءاتها خلال حزيران/ يونيو الجاري مع كلٍ من تحالف "قوى الحرية والتغيير" و"المكوِّن العسكري" بغية دفعهما للقبول بالحوار المباشر لاستعادة المسار الانتقالي وصولاً لتشكيل حكومة مدنية بأسرع ما يُمكن، في سباق مع الزمن لكبح التمدد الروسي في السودان والذي يمثل نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) ركيزته الرئيسية.

مكثت السيدة "مولي في"، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية، خمسة أيام بالسودان، أجرت فيها اتصالات ومقابلات مكثفة، وهذه أطول مدة يقضيها مسؤول أمريكي رفيع - خارج دائرة المبعوثين – بالسودان. انتهت زيارة مولي بتحقيق اختراق واضح في قبول الطرفين الجلوس في حوار مباشر، بعد جهود حثيثة قادتها مولي والسفير السعودي بالخرطوم، فيما عُرف لاحقاً بالوساطة الأمريكية-السعودية. سحب الأمر البساط من عملية سياسية تتبناها بعثة الأمم المتحدة بالسودان والاتحاد الأفريقي والتي كانت قد انضوت تحتها كل القوى السياسية بما في ذلك القوى المؤيدة والداعمة للانقلاب، وتحفّظ عليها "المجلس المركزي للحرية والتغيير".

معالم مشروع التسوية الجارية الآن لم تتضح بعد، لكن يبدو أنها لن تأتي على هوى "حميدتي"، قائد "الدعم السريع"، الذي ذهب إلى دارفور مغاضباً أو ملوحاً بعدم رضاه بالتقدم الأمريكي المحرز فيها، وهو يعلم أنّ استعادة أمريكا لتأثيرها على المكونين المدني والعسكري سوف يكون خصماً من حلفه الروسي بل ومهدداً لمصير استقلالية قواته.

غادرت مولي السودان وتواصلت اللقاءات المباشرة بين الطرفين، حيث تشير بعض التسريبات إلى أنهما تفاهما حول أغلب القضايا. لكن المفاوضات محاطة بسياج من السرية، حيث يحتضن منزل السفير السعودي بالخرطوم هذه اللقاءات دون تقديم أي تفاصيل للإعلام باستثناء بيانات مقتضبة تصدر عن "المجلس المركزي للحرية والتغيير".

أمريكا…سباق الرياح

في مساعٍ لتضييق الخناق على سلطات الانقلاب، صعّدت الولايات المتحدة (والدول الغربية عموماً ) لهجتها ضد انقلاب البرهان وأظهرت دعماً لافتاً للحراك المقاوم لانقلاب قائد الجيش، واتخذت الدول الأوروبية إجراءات اقتصادية مشددة ضد سلطات الانقلاب، وعلّقت المساعدات التي كانت مخصصة للسودان. لكنّ الأمر استطال فلا سقط الانقلاب ولا استطاع المضي قدماً لتشكيل حكومته. في خضم الاستعصاء، حققت بعض أطراف السلطة مكاسب جمة، ربما كانت أبرز علاماتها ذلك الاتساع في دائرة الوجود الروسي في البلاد. وانطلاقاً من ذلك، كثفت الولايات المتحدة الأمريكية مساعيها مؤخراً للملمة شتات أطراف الأزمة في السودان، واستنفرت ورأت أنّ الأمر لا يقبل الانتظار لأن حلفاءها الأوروبيين بدأوا يفقدون نفوذهم لصالح روسيا، ليس فحسب في السودان بل في عدة دول أفريقية.

انتهت زيارة السيدة مولي، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية، إلى تحقيق اختراق واضح في قبول الطرفين - المجلس المركزي لتحالف "الحرية والتغيير" و"المكوِّن العسكري" - الجلوسَ في حوار مباشر، بعد جهود حثيثة قادتها مولي والسفير السعودي بالخرطوم، فيما عُرف لاحقاً بالوساطة الأمريكية-السعودية. سَحب الأمر البساط من عملية سياسية تتبناها بعثة الأمم المتحدة بالسودان والاتحاد الأفريقي.

مثلت زيارة "حميدتي" لروسيا في آذار/ مارس 2022 وإعلان دعمه لحربها على أوكرانيا خلطاً واضحاً للأوراق. استغرقت الزيارة ثمانية أيام حدثت خلالها تفاهمات غير معلنة. لم يوقع الطرفان أي اتفاقيات لكنهما اتفقا على تفعيل اللجان المشتركة بين البلدين وهي لجان تشكلت إبان حكم المخلوع، عمر البشير، ويبدو أن غير المعلن في تلك التفاهمات هو توسيع دائرة الوجود الروسي في بعض مناطق التعدين، وتمثل هذه الأنشطة عادة غطاء لتفاهمات أمنية وعسكرية.

أحدثت زيارة "حميدتي" ارتباكاً شديداً في المواقف الرسمية للسودان والتي بدا واضحاً أنّها منقسمة تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا. والسودان الذي خرج للتو من عزلة غربية استمرت ثلاثين عاماً ليس في مقدوره الانخراط في صراع مع قطبين عالميين رئيسيين بينما جبهته الداخلية تمر بحالة تشظٍ قصوى. والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تقدم نفسها داعماً رئيسياً للتغيير في البلاد عقب سقوط البشير، استشعرت خطراً محدقاً في ظل سيطرة العسكريين على زمام الأمور وبشكل خاص حيال نفوذ قائد قوات الدعم السريع الذي لا تعترف به واشنطن، وهو ما دفعها إلى سباق مع الزمن للضغط على كل الأطراف بهدف الوصول إلى حد أدنى من التفاهمات التي بإمكانها أن تجعل أمر تشكيل حكومة مدنية ممكناً، بحيث يصبح القرار عند الحكومة لا عند قادة الجيوش.

واشنطن تستفسر الخرطوم عن "الوجود الروسي"

استفسرت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل رسمي السلطات السودانية عن نشاط شركة "فاغنر" الروسية، وهي شركة مورّدة للمرتزقة، مؤسسها يفغيني بريغوجين المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين. ونقلت قناة "الشرق" السعودية أنّ واشنطن طالبت بإيضاحات بشأن وجود هذه القوات خاصة في مناطق التعدين عن الذهب.

مثلت زيارة "حميدتي" لروسيا في آذار/ مارس 2022 وإعلان دعمه لحربها على أوكرانيا، خلطاً واضحاً للأوراق. استغرقت الزيارة ثمانية أيام حدثت خلالها تفاهمات غير معلنة. ويبدو أنّ غير المعلن في تلك التفاهمات هو توسيع دائرة الوجود الروسي في بعض مناطق التعدين. وتمثل هذه الأنشطة عادة غطاء لحضور أمني وعسكري.

وسلطت وسائل إعلام غربية الضوء على نشاط "فاغنر" في عموم أفريقيا ولا سيما في السودان حيث استحوذت على بعض الامتيازات في مناطق التعدين في شماله. وتتواجد المجموعات المثيرة للجدل –بالضرورة - على الحدود مع أفريقيا الوسطى التي لم يعد نشاط "فاغنر" فيها خافياً على أحد.

في حزيران/ يونيو 2021 تحدثت مواقع إخبارية محلية عن نقل عتاد عسكري روسي من قاعدة طرطوس السورية إلى قاعدة "فلامنجو" السودانية على البحر الأحمر، دون إعلانٍ رسمي عن اتفاق لإقامة قاعدة عسكرية هناك. وخلال سنوات البشير الأخيرة بدا الاقتراب من روسيا محاولة يائسة للبحث عن حليف قوي منافس للولايات المتحدة الأمريكية يتمكن "البشير" من خلاله ضبط موازين القوة لصالحه. وهو زار موسكو في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 وسط جدل واسع حينما طلب الحماية من الرئيس فلاديمير بوتين.

الوجود الروسي في السودان جعل مواقف المملكة السعودية تتوحد مع الموقف الأمريكي، بعيداً عن الموقف السعودي - الإماراتي المشترك تجاه السودان. وباعتبار المملكة السعودية دولة مشاطئة في البحر الأحمر، فإنّ ما يقال له "أمن" هذه المنطقة دونه بالنسبة لها خرط القتاد. وبما أنّ روسيا بدأت تتحرك في هذه المنطقة، فللسعودية مصلحة كبيرة في وقف هذا المد، وهذا يفسر الوساطة "السعودية – الأمريكية" الضاغطة على كل الأطراف.

التسوية ماضية…الشارع يغلي.

وبينما تسابق الأطراف العسكرية والمدنية الزمن لإنجاز تسوية بدعم غربي، تعدّ "لجان المقاومة" عدتها لخوض ماراثون 30 حزيران/ يونيو، وهو ذكرى أضخم مليونية شهدها الحراك الثوري في السودان عقب فض اعتصام القيادة في حزيران/ يونيو 2019. وكانت تلك المليونية قد رفضت العودة للتفاوض مع المجلس العسكري آنذاك. وعلى الرغم من أنّ المعطيات الأولية حول الحوارات الجارية بين "الحرية والتغيير" و"المكون العسكري" تشير إلى احتمال عودة جزئية للشراكة، فما تزال "لجان المقاومة" تتمسك بشعار اللاءات الثلاث "لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية" وترفض كنقطة ابتداء وجود العسكر في السلطة.

صحيحٌ أنّ معالم مشروع التسوية الجارية الآن لم تتضح بعد، لكن يبدو أنّها لن تأتي على هوى نائب البرهان، "حميدتي" قائد الدعم السريع، والذي، فيما يبدو، ذهب إلى دارفور مغاضباً أو ملوحاً بعدم رضاه بالتقدم الأمريكي المحرز في هذه التسوية، وهو يعلم أنّ استعادة أمريكا لتأثيرها على المكونين المدني والعسكري سوف يكون خصماً من حلفه الروسي بل ومهدداً لمصير استقلالية قواته. والولايات المتحدة تردد كثيراً ضرورة الوصول لجيش وطني موحد، وهو الخط الذي تتبناه كذلك "قوى الحرية والتغيير" وهذا التوجه يجد قبولاً واسعاً وسط الجيش، لكنّ حميدتي لوّح مراراً بعدم قبوله دمج قواته في الجيش ومضى إلى التلميح بأكثر من ذلك حينما حذر من أي توجه من هذا القبيل.

في حزيران/ يونيو 2021 تحدثت مواقع إخبارية محلية عن نقل عتاد عسكري روسي من قاعدة طرطوس السورية إلى قاعدة "فلامنجو" السودانية على البحر الأحمر، دون إعلانٍ رسمي عن اتفاق لإقامة قاعدة عسكرية هناك.

الوجود الروسي في السودان جعل مواقف المملكة السعودية تتوحد مع الموقف الأمريكي، بعيداً عن الموقف السعودي - الإماراتي المشترك تجاه السودان. وباعتبار المملكة السعودية دولة مشاطئة في البحر الأحمر، فإنّ ما يقال له "أمن" هذه المنطقة دونه بالنسبة لها خرط القتاد. 

الأطراف المتفاوضة بضغط أمريكي تحاول إعلان خطوة عملية قبل تظاهرة "30 يونيو" المليونية في محاولة لتهدئة الشارع. لكنّ تهدئة الشارع مرتبطة بشكل وثيق بعلاقة العسكر بالحكومة المقبلة وهذا ما لم تجب عليه حتى الآن ما يبدو من التسوية الحالية، والتي إذا ما اكتملت باستمرار وجود قائد الجيش ونائبه في السلطة السياسية، فإنّ المؤكد أن يضاعف الشارع تصعيده ضد الجميع. 

مقالات من السودان

للكاتب نفسه