السودان: حول الحرب وخفض سقف التغيير

ارتبك التحالف السياسي الحاكم ("الحرية والتغيير") بين "شرعية ثورية" و"تسوية سياسية"، فكان خطابه الثوري لا يقابله فعل ثوري، لأن صلاحياته محكومة بتسوية سياسية. وأصبح يواجه ضغطاً عدائياً من الشارع. فاستغل العسكر هذا للانقلاب على المدنيين، ما وسّع دائرة الغضب عليهم بعكس ما كانوا يتوقعون، وصار المطلب هو إزاحة العسكر كلياً من المشهد. أما الانقلاب نفسه فكان بلا رؤية ولم يتمكن قائداه من تشكيل حكومة حتى اندلعت حرب 15 نيسان/ أبريل.
2023-09-07

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
الدمار في الخرطوم، السودان.

بين ليلة وضحاها، تبدل المشهد السياسي في السودان. من مواكب سلمية لم تتوقف منذ 2019 لتحقيق مطالب "ثورة ديسمبر" وعلى رأسها "العسكر للثكنات"، "حل قوات الدعم السريع"، و"السلطة للشعب" الذي أصبح الشعار الأوحد عقب انقلاب تشرين الأول/ أكتوبر 2021، إلى حرب بين طرفي المكون العسكري (الجيش و"الدعم السريع") الذي لم تتوقف مؤامراته للفتك بالثورة، بدءاً من مجزرة القيادة العامة في حزيران/ يونيو 2019.

بل أنه انخرطت في القتال بعض المجموعات الشبابية النشطة التي كانت تعمل تحت تكوينات "لجان المقاومة" وتسيّر المواكب السلمية وتتخذ موقفاً حاداً تجاه "المكون العسكري" منذ مجزرة القيادة البشعة، وبدلاً من أن يذهب العسكر للثكنات لحقت هي بالعسكر الى داخل الثكنات ووضعت جانباً الأعلام البيضاء وحملت السلاح. طبعا جرى ذلك باسم مبررات كثيرة، ربما تكون مقنعة للبعض، خاصة بعد الغضب الشعبي تجاه "قوات الدعم السريع" جراء ما ارتكبته من انتهاكات على نطاق واسع ضد المواطنين.

سوف يكون لعسكرة المجموعات الشبابية السلمية حصاده المر على مستقبل الحركة السياسية والمطلبية في البلاد، خاصة إذا توسعت دائرة الحرب وطال أمدها.

هل انطوت صفحة "ديسمبر"؟

تراجع تماماً إن لم يكن اندثر، صوت "ديسمبر" وغرقت بعض قوى الثورة في الاصطفاف العسكري مع الطرفين، وانتعشت بشكل لافت أصوات عناصر النظام السابق الأكثر تطرفاً، واستيقظت خلايا نامت لفترات طويلة، وانغمس الجميع في أتون الحرب التي لها خطابها القادر على تمديد الخراب.

والحقيقة أن ما يجري الآن، أي الحرب، فرض سؤالاً ملحاً: هل الثورة وتجربة إدارة الدولة خلال فترة الانتقال هي ما قادت الى الحرب؟ أم أن الحرب أداة فتاكة تم توظيفها بخبث لقتل الثورة وخفض سقف التغيير الذي بلغ عنان السماء مع ديسمبر؟ أم أن الحرب لا تعدو كونها مرحلة في التغيير لا بد منها في الحالة السودانية بالذات؟ جميع هذه الأسئلة تبدو مكملة لبعضها ومتصلة غير منفصلة.

بعد فترة وجيزة جداً من إسقاط نظام البشير، وقبل إعلان تشكيل حكومة انتقالية، بدأ يظهر جلياً أن القوى القائدة ل"ديسمبر" وكل القوى المنخرطة في معسكر معارضة نظام البشير، كان يدفعها الحماس، ولم تكن لديها أية رؤية للتعامل مع إدارة الدولة بعد ثلاثين عاماً من حكم ديكتاتوري، واستسهلت لدرجة اللامبالاة أن نظام البشير العقائدي الذي حكم لنحو ثلاثة عقود تغلغل في كل مفاصل الدولة عبر منظومات أمنية وعسكرية ظاهرة وباطنة. وهذه حقائق كانت مكشوفة ومعلومة.

ويبدو أن البناء الهيكلي للفترة الانتقالية الذي أسست له الوثيقة الدستورية 2019 كان يمهد للوصول إلى نقطة الانفجار هذه، حيث قُسِّم الفاعلين لمعسكرات متضادة (مدني - عسكري) و (جيش - دعم) و (تسوويون - جذريون)، ثم اندفع الجميع إلى ساحة تنافس معبأة بنهم السلطة، دون امتلاك رؤية وبقدرات متواضعة بمقابل سقف ثوري عالٍ.

ما يجري الآن، أي الحرب، فرض سؤالاً ملحاً: هل الثورة وتجربة إدارة الدولة خلال فترة الانتقال هي ما قادت الى الحرب؟ أم أن الحرب أداة فتاكة تم توظيفها بخبث لقتل الثورة وخفض سقف التغيير الذي بلغ عنان السماء مع ديسمبر؟ أم أن الحرب لا تعدو كونها مرحلة في التغيير لا بد منها في الحالة السودانية بالذات؟

خلاصة ما نراه حالياً في السودان هو أن الحد الأدنى من متطلبات العيش بات صعب المنال، وأن العودة إلى الخرطوم ،حتى وإن كانت خراباً، باتت حلماً. وحين ستتم العودة فسيواجه الناس واقعاً مختلفاً سقف مطالبه في حدها الأعلى توفير الماء والكهرباء والأمن، على الأقل في المدى المتوسط. وسيواجه الناس واقعاً اقتصادياً جديداً أكثر مشقة وعنت، حيث تدمرت البنى التحتية.

ارتبك التحالف السياسي الحاكم ("الحرية والتغيير") بين "شرعية ثورية" و"تسوية سياسية"، فكان خطابه الثوري تجاه الشارع لا يقابله فعل ثوري، لأن صلاحياته محكومة بتسوية سياسية. وأصبح يواجه ضغطاً رهيباً من الشارع حتى تحولت العلاقة بينهما إلى عدائية بشكل كامل. واستغل العسكر هذا السخط للانقلاب على المدنيين الذي وسّع دائرة الغضب بعكس ما كان يتوقع العسكر، وارتفع سقف التغيير المطالب بإزاحة العسكر كلياً من المشهد. أما الانقلاب نفسه فكان بلا رؤية ولم يتمكن قائداه (البرهان - حميدتي) من تشكيل حكومة حتى اندلعت حرب 15 نيسان/ أبريل.

ولما غابت الرؤية ولم تكن هناك الخبرة الكافية لإدارة السياسة ولا إدارة جهاز الدولة بعد سقوط البشير، جاء الأداء محبطاً مما وسع دائرة السخط الشعبي ضد الحكومة التي واجهت هي الأخرى اقتصاداً متهاوياً لم تُجد التعامل معه. صحيح أن الحكومة الانتقالية حظيت بدعم دولي واسع لتأسيس انتقال ديمقراطي، لكن بالمقابل فإن المحيط الإقليمي القريب كان يضاعف نشاطه لوأد الانتقال الديمقراطي عبر حلفائه في الداخل.

الإرث الثقيل

لقد خلّف البشير بلداً غير قابل للحكم وفق المعايير العادية. "قوات الدعم السريع" التي أسسها البشير ووفر لها كافة الإمكانيات وجعل لها اقتصاداً عسكرياً مستقلاً، كانت ولا تزال معضلة رئيسية في طريق تأسيس دولة وفقاً لمتطلبات الانتقال الديمقراطي، وهي واحدة من معضلات عديدة. لم يكن هناك مجرد تصور للتعامل مع هذه القوة، لا من قبل الأحزاب ولا من قبل الحركات المسلحة، فانتهى بها الأمر إلى الصدام مع الجيش الذي خرجت من رحمه تنافساً على السلطة، واستطاعت أن تستميل أطرافاً رئيسية وفاعلة في "ثورة ديسمبر" بتفعيل سلاح الانشقاقات داخل الكيانات السياسية التقليدية والحديثة، وأصبحت الآن أكثر استقلالاً من ذي قبل.

انخرطت في القتال مجموعات شبابية نشطة كانت في "لجان المقاومة"، وتتخذ موقفاً حاداً تجاه "المكون العسكري" منذ مجزرة القيادة البشعة. وبدلاً من أن يذهب العسكر للثكنات لحقت هي بالعسكر الى داخل الثكنات ووضعت جانباً الأعلام البيضاء وحملت السلاح. المبررات كثيرة، وقد تكون مقنعة للبعض، خاصة بعد الغضب الشعبي تجاه "قوات الدعم السريع" جراء ما ارتكبته من انتهاكات واسعة ضد المواطنين.

تواجه القوى السياسية المدنية استقطاباً حاداً بين الطرفين المتحاربين (الجيش والدعم). لقد انقلبت الصورة تماماً، وأصبح العسكر هم الفاعلون السياسيون الرئيسيون وتحولت القوى المدنية إلى مجرد مؤيد أو رافض، ما ينبئ بأن الفعل الرئيسي سوف يتحول إلى أطراف الحرب، فإن حُسمت عسكرياً أو انتهت بتفاوض الطرفين، فسوف تكون السلطة الحقيقية عند حمَلة السلاح، وسوف يكون النفوذ بقدر حجم الجيوش والسلاح. 

ويبدو أن نظام البشير، حينما كان يلوح على الدوام بمصير ليبيا وسوريا في وجه من يجأر بالتغيير كان يدرك تماماً ماذا زرع وماذا سنحصد، وحينما كان جهاز أمنه يرمي بالسؤال ("من البديل؟") في وجه دعاة التغيير، كان على دراية بالوضع الحقيقي داخل الأحزاب السياسية والحركات المسلحة، ليتضح أن هذا السؤال الذي كان كثيراً ما يستفز الذين ينادون بالتغيير هو سؤال منطقي وواقعي جداً ويخص مسألة الرؤية والخطة لما بعد سقوط البشير.

هل تدنى سقف التغيير؟

خلاصة ما نراه حالياً في السودان أن الحد الأدنى من متطلبات العيش بات صعب المنال، وأن العودة إلى الخرطوم حتى وإن كانت خراباً باتت حلماً، وحين ستتم العودة إلى الخرطوم فسوف يواجه الناس واقعاً مختلفاً سقف مطالبه في حدها الأعلى توفير الماء والكهرباء والأمن، على الأقل في المدى المتوسط. سيواجه الناس واقعاً اقتصادياً جديداً أكثر مشقة وعنت، حيث تدمرت البنى التحتية. على سبيل المثال، فإن المنطقة الصناعية تحتاج لتأسيس من الصفر، وسوف تضاعف الدولة جباياتها على نحو مرعب. وظهر هذا الآن في رسوم استخراج جوازات السفر. ستتحول الدولة إلى وحش ينهش جسد المواطن المنهك أصلاً.

سياسياً، تواجه القوى السياسية المدنية استقطاباً حاداً بين الطرفين المتحاربين (الجيش والدعم). لقد انقلبت الصورة تماماً، وأصبح العسكر هم الفاعلون السياسيون الرئيسيون وتحولت القوى المدنية إلى مجرد مؤيد أو رافض، ما ينبئ بأن الفعل الرئيسي سوف يتحول بكليته إلى أطراف الحرب، فإن حُسمت عسكرياً أو انتهت بتفاوض الطرفين، فسوف تكون السلطة الحقيقية عند حمَلة السلاح، وسوف يكون النفوذ بقدر حجم الجيوش والسلاح.

الحرب يمكن أن تكون أداة لقتل الثورات وحدث هذا في تجارب شعوب في المنطقة وفي العالم، لكن حتى لا نستكين على وسادة المؤامرة، فالحرب فرصة ذهبية لتأسيس دولة مواطنة لا عودة منها إلى الوراء، لأنها تعمل على "تصفير العداد"، وهذا يتحول لواقع لا مجرد أحلام بشرط واحد فقط، إن أصبح الفاعلون الرئيسيون على قدر المسؤولية. 

مقالات من السودان

للكاتب نفسه