بعد أربعة أشهر: حرب الخرطوم تدخل مرحلة رمادية

هل من حل عسكري؟ لا يزال السؤال مطروحاً بعد أربعة أشهر من القتال، خاصة مع غياب أفق للحل التفاوضي الذي ترعاه الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية تحت ما يُعرف بـ "منبر جدة". والسؤال يرتبط بالانتشار والسيطرة في الشوارع، إذ يقيس البعض معايير السيطرة العسكرية بناء على حجم الانتشار العسكري فيما يرفض البعض الاخر هذه المعايير ولا يعتبر أن مجرد الانتشار العشوائي في الشوارع يعكس سيطرة عسكرية.
2023-08-23

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
مستشفى الاطباء في الخرطوم مدمراً تماما

حال من الجمود الحربي تسود مدينة الخرطوم. فمنذ استيلاء "قوات الدعم السريع" على مصنع اليرموك التابع لمنظومة الصناعات الدفاعية للجيش في حزيران/ يونيو المنصرم، وعلى "معسكر الاحتياطي المركزي" جنوبي الخرطوم نهاية الشهر نفسه، لم تشهد العمليات العسكرية أحداثاً كبرى تذكر، وما يجري يومياً هو مجرد محاولات وعمليات روتينية. بالمقابل تتوسع دائرة القتال يوماً بعد يوم في إقليم "دارفور" غربي السودان لكن أيضاً دون تحقيق مكاسب عسكرية جديدة لأي من الطرفين.

لا تزال "قوات الدعم السريع" محتفظة بمواقعها القديمة التي سيطرت عليها منذ البداية، فيما لا يزال الجيش صامداً في وحداته الأربع (القيادة العامة وهي مقر "البرهان"، سلاح المدرعات، سلاح المهندسين و"وادي سيدنا"). وبين الفينة والأخرى تدور معارك ضارية في محيط سلاح المدرعات جنوبي الخرطوم، ومناوشات هنا وهناك حول المطار الحربي ب"وادي سيدنا" في مدينة أم درمان، وكذلك في محيط سلاح المهندسين بأم درمان، إذ تحاول "قوات الدعم السريع" إرسال رسائل بأنها قادرة على إسقاط هذه الوحدات بالغة الأهمية والتي يبدو جلياً أن الجيش أحكم تحصينها، حيث يدير عملياته من داخلها.

لكن تقارير صحافية أشارت إلى تدخل إقليمي-دولي لإثناء "قوات الدعم السريع" وتحذيرها من إسقاط مواقع الجيش الأربعة. ويتطابق هذا مع المعلومات الواردة من "قوات الدعم السريع" نفسه التي تشير إلى أن قرار الهجوم النهائي وإسقاط المواقع الأربعة لم يصدر بعد من قيادتها، وكذلك القبض على قائد الجيش الذي ربما يمثّل نهاية العمليات بالنسبة ل"الدعم السريع". وتتوارد معلومات عن تدخل دولي نجح في الحيلولة دون ذلك لما للخطوة من تبعات وارتدادات معنوية هائلة قد تعرقل مسار أي حوار أو حل سياسي مع استطالة أمد الحل العسكري.

هل ثمة حل عسكري؟

بعد أربعة أشهر لا يزال السؤال مطروحاً، خاصة مع غياب أفق للحل التفاوضي الذي ترعاه الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية تحت ما يُعرف بـ "منبر جدة"، والسؤال يرتبط بجدلية الانتشار والسيطرة في الشوارع، إذ يقيس البعض معايير السيطرة العسكرية بناء على حجم الانتشار العسكري فيما يرفض البعض هذه المعايير ولا يعتبرون أن مجرد الانتشار العشوائي في الشوارع يعكس سيطرة عسكرية.

إلا أن الواقع هو أن عناصر "الدعم السريع" انتشرت على الأرض وفرضت ارتكازاتها منذ الفترة التي تلت الانفجار، وتحكمت في حركة المواطنين، وأخلت الأحياء من سكانها، وحولتها إلى ثكنات عسكرية.

غير أن الأمر الذي يجب أن يوضع في الحسبان هو أن أعداد عناصر "الدعم السريع" في شوارع الخرطوم تناقصت بشكل ظاهر خلال الشهر الأخير، وهذا بشهادات بعض السكان في مناطق مختلفة.

كما تراجعت حركة الأفواج القادمة من شرق "دارفور" للقتال في صفوف "قوات الدعم السريع" بالخرطوم والتي كانت في وقت مضى تتدفق بالآلاف وبلغ عدد الملتحقين ب"الدعم السريع" أثناء الحرب نحو 15 ألف مقاتل بحسب معلومات الجيش فيما كان عدد المقاتلين في الخرطوم قبل انفجار الحرب نحو 80 ألفاً، وأصبحت حركة الأفواج عكسية من الخرطوم باتجاه الغرب محملة بالغنائم.

توقف تدفق المقاتلين يمكن تفسيره بأن الغنائم في الخرطوم نفدت حيث نُهبت الخرطوم بشكل شبه كامل فلم يسلم منزل أو مصنع أو مخزن أو سوق من النهب. ولأن العقيدة القتالية لغالبية هؤلاء المقاتلين هي عقيدة غنائمية فيبدو أنها لم يعد لديها دوافع للقتال. كما أنه في عرف المعارك يكلف الهجوم أضعاف ما يكلفه الدفاع حيث أن "الدعم السريع" استهلك موارد جبارة في الهجومات المتتالية والتي مكنته فعلاً من السيطرة على أهداف عديدة. وهذا يحتم عليه استهلاك المزيد من الموارد لحماية المكاسب التي حققها والدفاع عنها، علاوة على الهجوم على أهداف جديدة يبدو الوصول إليها أصعب.

يُفترض أن يوفر هذا الوضع للجيش وضعاً مريحاً خاصة وأنه في وضع الدفاع، مع تحوّله مؤخراً إلى وضع الهجوم على عدة محاور. مع العلم أن الجيش أسقط تماماً مسؤولية حماية المواطنين ووجه كل طاقته لحماية نفسه. فعلياً تتحدث بيانات الجيش وتصريحاته عن تحسن وتقدم للجيش ميدانياً لكن هذا غير محسوس بالنسبة للمواطنين باستثناء الانتشار النسبي لمشاة الجيش في بعض المناطق.

تراجعت حركة الأفواج القادمة من شرق "دارفور" للقتال في صفوف "قوات الدعم السريع" بالخرطوم والتي كانت في وقت مضى تتدفق بالآلاف وبلغ عدد الملتحقين ب"الدعم السريع" أثناء الحرب نحو 15 ألف مقاتل بحسب معلومات الجيش فيما كان عدد المقاتلين في الخرطوم قبل انفجار الحرب نحو 80 ألفاً، وأصبحت حركة الأفواج عكسية من الخرطوم باتجاه الغرب محملة بالغنائم.

كما أن الجيش لم يعلن حتى الآن عن استرداد أي من المواقع التي سيطرت عليها "قوات الدعم السريع"، والتي ظلت محتفظة بها منذ الاستيلاء عليها.

ويعتمد الطرفان على سياسة الإنهاك والاستنزاف وهو الأمر الذي يجعل الحسم العسكري مستحيلاً.

خيارات الراهن

سياسياً، وبدلاً من أن تحفز الحرب على وحدة القوى المدنية السياسية، انعكست تشظياً وانقساماً في صفوفها بل واستقطاباً حاداً لصالح طرفي الصراع! الجيش والدعم السريع. تحالف "الحرية والتغيير" - وهو تحالف رئيسي في البلاد، أعلن حياده في هذه الحرب – ولكنه يشهد اصطفافاً مكتوماً على الرغم من أن الظاهر للناس هو أن أطرافاً رئيسية فيه انحازت ل"الدعم السريع".

"حركة العدل والمساواة"، وهي إحدى حركات "دارفور" الرئيسية، وموقفها المعلن هو الحياد، قررت إعفاء قيادات بارزة فيها بعد اجتماعهم مع "عبد الرحيم دقلو" وهو القائد الثاني في "الدعم السريع"، ثم انخرطت في اجتماعات "أديس ابابا" التي تجمع قادة من "الدعم السريع" مع قادة تحالف "الحرية والتغيير"، في نشاط يهدف إلى وقف الحرب حسبما تقول البيانات الرسمية. وما حدث داخل "حركة العدل والمساواة" يحدث في عدد من الأحزاب والحركات لكنه لم ينفجر بعد.

ووفقاً لهذا الوضع العسكري والسياسي، فالراجح أن تستغرق المرحلة الرمادية زمناً أطول: "الدعم السريع" ليس لديه مشروع سياسي يتوج به مكاسبه العسكرية، فتوقّفت به الحال هنا، أما الجيش فلا يبدو أنه سوف يرضخ لسياسة التفاوض قبل أن يحسّن موقفه الميداني خاصة وأن حماس جنود الجيش وصغار ضباطه بات عالياً، وبالمقابل فإن الجيش يحتاج زمناً ليس قصيراً لتحسين وضعه في الميدان بما يمكنه من وضع جيد على طاولة التفاوض، جراء ذلك يتمدد الخراب والانهيار الاقتصادي وسوء أوضاع الناس ومعيشتهم التي بلغت مبلغاً لا تستطيع الكتابة عكسه.

أما إن كان ثمة انقلاب في هذه المعادلة لإنهاء المرحلة الرمادية فهو لن يخرج عن ثلاثة خيارات:

إما أن يحدث تحرك داخل الجيش للانقلاب على قائده، عبد الفتاح البرهان، وذلك على خلفية اعتقاد واسع داخل الجيش أن القيادة باتت تعرقل الحسم العسكري، وهذا خيار لا يمكن التنبوء بتداعياته داخل الجيش.

يعتمد الطرفان على سياسة الإنهاك والاستنزاف وهو الأمر الذي يجعل الحسم العسكري مستحيلاً. وسياسياً، وبدلاً من أن تحفز الحرب على وحدة القوى المدنية السياسية، انعكست تشظياً وانقساماً في صفوفها بل واستقطاباً حاداً لصالح أحد طرفي الصراع! جراء ذلك يتمدد الخراب والانهيار الاقتصادي وسوء أوضاع الناس ومعيشتهم التي بلغت مبلغاً لا تستطيع الكتابة عكسه.

الراجح أن تستغرق المرحلة الرمادية زمناً أطول: "الدعم السريع" ليس لديه مشروع سياسي يتوج به مكاسبه العسكرية، أما الجيش فلا يبدو أنه سوف يرضخ لسياسة التفاوض قبل أن يحسّن موقفه الميداني خاصة وأن حماس جنود الجيش وصغار ضباطه بات عالياً، ولكنه بالمقابل يحتاج زمناً ليس قصيراً لتحسين وضعه في الميدان بما يمكّنه من وضع جيد على طاولة التفاوض.  

وإما أن تواجه قيادة الجيش ضغطاً دوليا وتذهب للتفاوض، دون تحسن في الميدان، وهذا قطعاً سوف يكون في صالح وقف الحرب لكن قد يحفز "الدعم السريع" لوضع شروط التفاوض، وهذا لن يكون مقبولاً.

أما الخيار الثالث فهو التصعيد العسكري من قبل "الدعم السريع" والاستيلاء على الوحدات الأربع. فإن حدث هذا، وإن كان يبدو مستحيلاً، فقطعاً سيكون السودان أمام مرحلة جديدة كلياً. 

مقالات من السودان