الدعم السريع: مكاسب "عسكرية" وخسائر "أخلاقية"

صارت سمة هذه الفترة من تاريخ البلاد هي الخسران المُبين، وبلا ثمن يُذكر. وهل ثمة ثمن مقابل هذه الخسارة؟ فالأمر تعدى كونه مجرد تقديرات طائشة أو خاطئة، إلى تحلل كامل للممارسة السياسية من أي منظومة قيمية تحكمها، فصار الوصول إلى السلطة يقبل كافة الوسائل.
2023-09-28

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
الحرب في الخرطوم، السودان.

لم تنفك الأطراف الفاعلة في السياسة السودانية - مدنية كانت أو عسكرية - من حصد الخسائر الأخلاقية والسياسية على التوالي، منذ سقوط البشير في نيسان/ أبريل 2019. خسائر فادحة في زمنٍ وجيزٍ، مقابل مكاسب سلطوية متواضعة، بدءاً من المكونات العسكرية التي ورثت حكم البشير ثم القوى السياسية والحركات المسلحة التي شاركتها الحكم وتحوّلت لاحقاً إلى ما يشبه المقطورة للمكونات العسكرية.

صارت سمة هذه الفترة من تاريخ البلاد، هي الخسران المُبين، وبلا ثمن يُذكر. وهل ثمة ثمن مقابل هذه الخسارة؟ فالأمر تعدى كونه مجرد تقديرات طائشة أو خاطئة، إلى تحلل كامل للممارسة السياسية من أي منظومة قيمية تحكمها، فصار الوصول إلى السلطة يقبل كافة الوسائل، بما يتجاوز تلك "الميكافيلية" المعلومة.

سيطرة عسكرية هائلة في زمن قياسي

منذ الأيام الثلاثة الأولى لحرب الخرطوم التي انفجرت في 15 نيسان/ أبريل الفائت، تمكنت "قوات الدعم السريع" من إحكام انتشارها في العاصمة الخرطوم. وقبل أن تكمل الحرب شهراً واحداً بالتمام، كانت أرض الخرطوم تحت سيطرة هذه القوات، بينما حصّن الجيش نفسه داخل وحداته العسكرية تاركاً المواطنين في مواجهة ويلات الحرب على يد أساليب الدعم السريع التي لم يسلم منها مدنيٌّ في الخرطوم، وبشكل خاص في مدينة الجنينة غرب البلاد والتي شهدت عمليات إبادة وبشاعة لا حدود لها.

وبعيداً عن السؤال العقيم حول "من أطلق الرصاصة الأولى؟" في هذه الحرب التي لم يتحلَ فيها أي طرف بالمسؤولية في حدودها الدنيا، فالواقع يقول بصراحةٍ فاقعة أنّ "قوات الدعم السريع" كانت أكثر استعداداً، ترتيباً وجاهزية لهذه الحرب، عسكرياً وإعلامياً، وهو ما جعل أفواه السودانيين لا تزال تسأل "أين الجيش؟". سؤالٌ يجرف معه سيلاً من الأسئلة التي تتصل بتآكل القديم.

لعل ما يهم هنا على وجه السرعة، هو محاولة تفسير لماذا كانت قوات "الدعم السريع" أكثر استعداداً من الجيش، على الرغم من أن الحرب الكلامية بين الطرفين استعرّت قبل نحو شهرين من الانفجار، وعلى الرغم من أنّ الطرفين كانا في حالة استعداد معلن لهذه الحرب، والجدار العظيم الذي بدأ الجيش بتشييده حول مقر القياد العامة يقف شاهداً على ذلك.

حصّن الجيش نفسه داخل وحداته العسكرية تاركاً المواطنين في مواجهة ويلات الحرب على يد أساليب الدعم السريع التي لم يسلم منها مدنيٌّ في الخرطوم، وبشكل خاص في مدينة الجنينة غرب البلاد والتي شهدت عمليات إبادة وبشاعة لا حدود لها.

التنظيم الذي أظهرته "قوات الدعم السريع" قبل وخلال هذه الحرب، ربما يعود بالفعل إلى حالة التهيؤ الكبيرة التي سيطرت على هذه القوات الطامحة للحكم منذ سقوط البشير، وربما يعود ذلك إلى الإمكانيات العسكرية الهائلة لهذه القوات التي بُنيت وتحولت تدريجياً من مليشيا قبلية إلى قوة نظامية، حتى صارت جيشاً موازياً للمؤسسة الرسمية للدولة.

الخلاصة أن "قوات الدعم السريع" أظهرت إمكانيات عسكرية هائلة في حرب الخرطوم واستعرضت سلاح مشاة يفوق المتوقَع ومهارات قتالية في حرب المدن، تمكنت عبرها من إحكام السيطرة على الأرض في زمن قياسي إلى حد مذهل، وحاصرت فعلياً الجيش في مخابئه ولا تزال، وهذا ما دفع قائد هذه القوات، محمد حمدان دقلو أن يقول لجنوده متباهياً "لقد درستموهم ما لم يدرسوه في الكلية الحربية".

ما جدوى المكاسب العسكرية؟

لو أنّ "قوات الدعم السريع" التزمت بمحاصرة وحدات الجيش واكتفت فقط بشنّ العمليات العسكرية في مواجهة مقاره مثلما حدث في الشهر الأول في هذه الحرب، لتقاسمت التأييدَ الشعبي مع الجيش، خاصة وأنها تعزف على فرية "محاربة النظام السابق"، علاوة على موقفها المتراجع عن انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 والذي أعلنه صراحة ومراراً قائد هذه القوات، وكان سبباً من بين سواه في تفجير الخلافات.

التنظيم الذي أظهرته "قوات الدعم السريع" قبل وخلال هذه الحرب، ربما يعود بالفعل إلى حالة التهيؤ الكبيرة التي سيطرت على هذه القوات الطامحة للحكم منذ سقوط البشير، وربما يعود كذلك إلى الإمكانيات العسكرية الهائلة لهذه القوات التي بُنيت وتحولت تدريجياً من مليشيا قبلية إلى قوة نظامية، حتى صارت جيشاً موازياً للمؤسسة الرسمية للدولة.

لكن مع دخول الحرب شهرها الثاني، رمت "قوات الدعم السريع" بثقل انتهاكاتها تجاه المواطنين، فاستهدفت منازلهم وممتلكاتهم بحثاً عن السيارات والذهب داخل البيوت: قتلاً، ضرباً، تنكيلاً وإهانة... قبل أن تتحول الخرطوم إلى مدينة لصوص بالكامل، بعدما أُفرغت غالبية أحيائها من السكان، وتحولت بعض مناطق العاصمة والولايات إلى أسواق للمسروقات، أُطلق على بعضها "أسواق دقلو".

ويمكن القول بدقة، أنه لم يسلم مدنيٌ من آلة "الدعم السريع" التي حصدت عدداً من الانتهاكات ضد المواطنين لا تُضاهى، وبذا اكتسبت عداءً شعبياً غير محدود، ربما يُستثنى منه بعض حواضنها القبلية. وهذا طبعاً لا ينفي انتهاكات يرتكبها جنود الجيش، لكن انتهاكات كل طرفٍ تأتي على قدر سيطرته!

مارست "قوات الدعم السريع" البشاعات ذاتها التي مارستها في إقليم دارفور خلال سنوات الحرب هناك، حتى بلغت ملفات تلك الحرب المحاكم الجنائية الدولية وصار رئيس البلاد -وقتها- مطلوباً للعدالة، ولا يزال. الفرق الكبير هو أنّها كانت تمارس انتهاكاتها تحت غطاء الجيش نفسه، لطالما هي أداة الجيش التي يمارس بها ما لا يستطيع فعله لكونه جيشاً نظامياً.

 وكان النظام السياسي لعمر البشير يتصدى مدافعاً عنها ويتحمل التكلفة الأخلاقية والسياسية لأفعالها. حتى في مجزرة فض اعتصام "القيادة العامة" في حزيران/ يونيو 2019، تشارك الجيش وذراعه، "الدعم السريع"، الانقضاضَ على الثورة في محاولةٍ لوأدها، ثم دخلا في شراكة مع المدنيين محفوفة بالغدر، حتى نفّذا انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 سوياً في محاولة ثانية لوأد الانتقال المدني.

أما وقد اقتتل طرفا "المكوِّن العسكري" حول السلطة، فـ"قوات الدعم السريع" ستضطر إلى تحمل التكلفة الأخلاقية والسياسية وحدها من غير غطائها التقليدي: الجيش. وهي خسائر لا تُعوض، وليست مثل سابقاتها التي أبدى فيها قائد هذه القوات، محمد حمدان دقلو، مساعي ومحاولات للتملص منها والسعي الحثيث إلى تحسين صورة قواته، وفي سبيل ذلك دُفعت مبالغ طائلة لشركات غربية تعمل في مجال تحسين الصورة. 

لم يسلم مدنيٌ من آلة "الدعم السريع" التي حصدت عدداً من الانتهاكات ضد المواطنين لا تُضاهى، وبذا اكتسبت عداءً شعبياً غير محدود، ربما يُستثنى منه بعض حواضنها القبلية. وهذا طبعاً لا ينفي انتهاكات يرتكبها جنود الجيش. فهل تتمكن هذه الاطراف من إعادة تقديم نفسها سياسياً، وأي ثمن ستدفعه؟ 

على سبيل المثال، لم تشارك "قوات الدعم السريع" في قمع المواكب الرافضة لـ"انقلاب 25 أكتوبر"، وتبنّى قائدها مواقف جادة أكثر من الجيش نفسه في تحسين صورته وخلق علاقات شعبية مع المجتمعات المحلية، وذلك عبر محاولات لتوفير الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء وتعليم في سبيل كسب شعبي قد يحتاجه كرصيدٍ انتخابيٍ. لكنّ كل ذلك ذهب مع ريح انفجار 15 نيسان/ أبريل 2023 وكأنّ قائد هذه القوات صاحب الطموح السياسي الجامح قد سيق إلى فخ الحريق الأخلاقي والسياسي في هذه الحرب، إذ من غير المعقول أن تكون صاحب مشروع سياسي ولا تأبه لمثل هذه الخسائر اللا محدودة.

على الأرض، لا تزال قوات الدعم السريع محتفظة بما سيطرت عليه منذ انفجار الحرب في 15 نيسان/ أبريل الماضي، وتحاول توسيع نفوذها في مناطق جديدة. ومناطق سيطرتها هي غالبية العاصمة الخرطوم ومناطق واسعة في إقليم دارفور غربي السودان وفقاً لتقرير بعثة الأمم المتحدة، الذي أشار إلى حجم الانتهاكات الواسعة في تلك المناطق. لكن ما جدوى كل هذا التوسع مع هذه الخسائر الهائلة؟ وهل بالإمكان أن تتمكن من إعادة تقديم نفسها سياسياً؟ وأي ثمن ستدفعه؟

مقالات من السودان

للكاتب نفسه