كيف فتّتت طاحونة الحرب مقدرة السودانيين على مجابهة الحياة

كانت الخرطوم تحتضن أكثر من 10 ملايين من سكانها الأصليين والوافدين إليها من كل ولايات السودان. ومع اشتداد العمليات الحربية التي ولّدت حركة نزوح واسعة، تحولت العاصمة إلى موطن غريب، تبدلت ملامحه من ضجة الحياة إلى وحشة الخراب بعدما فعل فيها الهمج ما فعلوا. تعرضت منازلها لعمليات سرقة لا مثيل لها. الآن الخرطوم يقطنها قلة، يتشاركون الطعام عبر ما بات يُعرف بالمطابخ الخيرية.
2023-11-16

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
مطبخ خيري في الخرطوم

ما كان السودانيون يمدون أياديهم طلباً للمساعدة لسد رمقهم، وذلك تعففاً وأنفة عُرفوا بهما، وليس كفاية ومقدرة. لكن الحرب التي لا تزال تطحن ما تبقى من مقدرة، أجبرت كثيرين على فعل ذلك، وهو يبدو غريبا عليهم. حقاً لقد نالت منهم الفاقة. إنها الحرب إذاً، لا تنتصر إلا للمزيد من سحق الضعفاء.

مئات الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تحولت إلى خدمة تطوعية لجمع المساهمات المالية والمواد الغذائية والأدوية وحليب الرُضَّع. يحشدون الدعم المالي والإنساني على قلته ويحاولون توزيعه على المحتاجين، بينما على الأرض يحشد طرفا الصراع ما أوتيا من سلاح ورجال لتحقيق حسم عسكري متوهم، على حساب كرامة جميع السودانيين، بل على حساب حياتهم.

ويبدو أن الحاجة التي تمددت في كل بقاع هذه البلاد الشاسعة المضرجة بالدماء، لا تهم الأطراف المتحاربة ولا هي من أولوياتهم، فكلٌ يسعى إلى طحن الطرف الآخر وهو في الواقع لا يطحن إلا الذين لم تكن الحرب خيارهم.

غابت الحكومة وتلاشت معالم الدولة

فعلياً لم يعد أحد يشعر بوجود دولة أو حتى حكومة. الجميع يُسيّر أموره بشكل أهلي محض، وما هي بمسيَّرة على النحو الذي يحفظ للإنسان كرامته. ولأن نظام الحكم في السودان يقوم على مركزية قابضة فإن الحرب في مركز البلاد، الخرطوم، وهي تقترب من إكمال شهرها السابع، تمكنت من شلّ البلاد شللاً كاملاً، فكل شيء توقف.. فعلياً توقف على النحو الذي لا يُمْكن تصديقه.

توقفت المدارس والجامعات، ومن لديه مقدرة مالية انتقل لمواصلة دراسته في العواصم القريبة ومن لا يملك، استمسك بالانتظار. تعطلت المنظومة العدلية وأفرغت السجون تماماً وعمّت الفوضى، وتوقفت الخدمة المدنية وتراجعت الواردات بشكل رهيب حيث فقد السودان 85 في المئة من وارداته، وفقد على مستوى صادر الذهب وهو المورد الرئيسي في البلاد، حصائل صادر بقيمة 760 مليون دولار خلال الأشهر الأربعة ونصف الأولى في عمر الحرب، وفقاً للتقارير الرسمية، وأصبح المورد الرئيسي عرضة للتهريب أكثر من أي وقت مضى، وكذلك الحال في الموسم الزراعي الذي تأرجح بين تعثر توفير مدخلات الإنتاج من جهة وتوغل العمليات العسكرية في بعض المساحات الزراعية من جهة أخرى.

تراجعت، إن لم تكن توقفت، واردات الجمارك والضرائب بسبب توقف النشاط الاقتصادي وهربت رؤوس الأموال الوطنية الكبيرة والمتوسطة خارج البلاد. ولا تملك الحكومة حتى الآن إحصائيات تفصيلية عن خسائر الحرب، لأنه فعلياً لا توجد حكومة على الأرض، والأخطر على الإطلاق هي موجات الهجرة العنيفة لكل القطاعات المهنية.

لم تعد قرارات الإعفاء والتعيين في المواقع الرسمية تعني أحداً، تصدر قرارات يتيمة تكاد لا تُسمع مع دوي المدافع والسقوط المتتالي لمواقع الجيش.

مصائر الناس معلّقة بين الحل السياسي والحسم العسكري

كانت الخرطوم تحتضن أكثر من 10 ملايين من سكانها الأصليين والوافدين إليها من كل ولايات السودان. ومع اشتداد العمليات الحربية التي ولّدت حركة نزوح واسعة، تحولت العاصمة إلى موطن غريب، تبدلت ملامحه من ضجة الحياة إلى وحشة الخراب بعدما فعل فيها الهمج ما فعلوا. تعرضت منازلها لعمليات سرقة لا مثيل لها. الآن الخرطوم يقطنها قلة، يتشاركون الطعام عبر ما بات يُعرف بالمطابخ الخيرية، وهي فكرة خرجت من رحم المعاناة والمسغبة التي أحاطت بالجميع.

ففي كثير من أحياء الخرطوم التي فضّل سكانها البقاء تحت قصف المدافع وأزيز الطيران الحربي، أصبحت المطابخ الخيرية هي ملاذ لمن لا يملك قوت يومه؛ وما أكثرهم، معتمدين على مشاركة ما يملكون من طعام ودعم بعض الخيّرين والذين لديهم فائض في قدرتهم المالية، يعيشون في مركز البلاد بلا استقرار في خدمات المياه والكهرباء، والأمن طبعاً، وهم فعلياً على حافة الحياة.

توقفت المدارس والجامعات، فانتقل القادر الى مواصلة دراسته في العواصم القريبة، ومن لا يملك، استمسك بالانتظار. تعطلت المنظومة العدلية وأفرغت السجون تماماً وعمّت الفوضى، وتوقفت الخدمة المدنية وتراجعت الواردات بشكل رهيب ففقد السودان 85 في المئة منها، وفقد على مستوى صادر الذهب وهو المورد الرئيسي للبلاد، حصائل صادر بقيمة 760 مليون دولار خلال الأربعة أشهر ونصف الأولى في عمر الحرب، نهبت!

يجابه النازحون من العاصمة إلى الولايات وضعاً اقتصادياً فائق الصعوبة، حيث تضاعفت إيجارات العقارات بشكل مذهل، وتعاني الولايات أصلاً من هشاشة في البنى التحتية والخدمات الأساسية، زاد عليها اكتظاظ سكان الخرطوم. امتلأت المدارس والمساجد ودور الإيواء، ومعسكرات النازحين في دارفور، في ظل بطالة واسعة وشح في المساعدات الإنسانية ونيران لا تتوقف ومصادر دخل تكاد تكون معدومة إلا من تحويلات المغتربين.

أما السودانيون الذين نزحوا إلى الولايات القريبة أو البعيدة أو حتى العواصم المجاورة، فحالهم ليست بأفضل من أولئك الذين فضّلوا البقاء في الخرطوم إلا بأفضلية الوضع الآمن نسبياً، لأن قوات الدعم السريع بدأت تتمدد في عدد من الولايات دون أن يكون هناك شيئاً واضحاً ما إن كانت تنوي اجتياح تلك المدن أم هو مجرد استعراض قوة.

يجابه النازحون من العاصمة إلى الولايات وضعاً اقتصادياً فائق الصعوبة، حيث تضاعفت إيجارات العقارات بشكل مذهل، وتعاني الولايات أصلاً من هشاشة في البنى التحتية والخدمات الأساسية، زاد عليها اكتظاظ سكان الخرطوم. امتلأت المدارس والمساجد ودور الإيواء، واكتظت معسكرات النازحين في دارفور في ظل بطالة واسعة النطاق وشح في المساعدات الإنسانية ونيران لا تتوقف ومصادر دخل تكاد تكون معدومة إلا من تحويلات المغتربين.

عاش السودانيون ضغطاً اقتصادياً هائلاً خلال سنوات حكم البشير الأخيرة، حينما قرر تطبيق حزمة اقتصادية بنصيحة من صندوق النقد والبنك الدوليين، ثم تضاعفت معاناتهم بعد سقوط البشير جراء مضي الحكومة الانتقالية في تطبيق الحزمة ذاتها التي قضت برفع يد الدولة كلياً عن أي دعم في الوقود أو الدواء أو القمح، دون وضع سياسات إسعافية لامتصاص الصدمات الهائلة، ليتضح أن كل ما فات كان نعيماً مقارنة بالوضع الذي فرضته الحرب في الخرطوم ومدن دارفور التي تشهد حالياً تصعيداً عسكرياً عنيفاً من قبل قوات الدعم السريع.

بعد سبعة أشهر من الحرب، لم يتغير ميزان القوة على الأرض لصالح الجيش الذي لا يزال مدافِعاً عن نفسه داخل ثكناته. وبالتزامن مع استئناف التفاوض في جدة، بدأت قوات الدعم السريع مرحلة جديدة من التصعيد العسكري في إقليم دارفور، حيث لم يتبق للجيش هناك إلا مواقع ضئيلة.

أزمة السودانيين اليوم، ليست فقط في حرب اشتعلت ولم يتمكن أحد من إطفاء نيرانها التي قضت على الأخضر واليابس. الأزمة الحقيقية في فقدان الإرادة والعزيمة لإيقاف هذا الدمار وكأنه يحدث في مكان لم ننتمِ إليه يوماً. 

كل هذه المعاناة هي فقط ملمح من مأساة متمددة، وكل الآمال الآن معلقة على مدينة جدة السعودية التي تحتضن منبراً للتفاوض بين الجيش وقوات الدعم السريع بوساطة أمريكية – سعودية، وسط مخاوف متصاعدة من عدم التزام الطرفين بأي اتفاق - إن تم -، ومخاوف أكبر من أن لا يتمكن المنبر من إجبار قوات الدعم السريع على الخروج من منازل المواطنين.

الآن أقصى مطالب السودانيين هي العودة إلى بيوتهم التي انتزعت قوات الدعم السريع بعضها عنوة وحوّلتها الى "مكاسب" عسكرية.

بعد سبعة أشهر من الحرب، لم يتغير ميزان القوة على الأرض لصالح الجيش الذي لا يزال مدافِعاً عن نفسه داخل ثكناته. وبالتزامن مع استئناف التفاوض في جدة، بدأت قوات الدعم السريع مرحلة جديدة من التصعيد العسكري في إقليم دارفور، حيث لم يتبق للجيش هناك إلا مواقع ضئيلة.

المستفاد من تجربة السبعة أشهر، هو ضرورة أن يتوقف هذا الخراب الآن، الآن وليس غداً، انحيازاً لحق الناس في الحياة وكرامتهم وحفاظاً على لُحمة ما تبقى من مؤسسة الجيش التي تتعرض لانهيار معنوي غير مسبوق. ولا يمكن التنبوء بتبعات انهيار مؤسسة الجيش، العسكرية والسياسية والاجتماعية، في بلاد مليشياتها المسلحة أكثر عدداً من أحزابها.

أزمة السودانيين اليوم، ليست فقط في حرب اشتعلت ولم يتمكن أحد من إطفاء نيرانها التي قضت على الأخضر واليابس. الأزمة الحقيقية في فقدان الإرادة والعزيمة لإيقاف هذا الدمار وكأنه يحدث في مكان لم ننتمِ إليه يوماً.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه