السودان: مخاوف متصاعدة من الانحلال الشامل

انعقدت مطلع شهر كانون الثاني /يناير الجاري اجتماعات في أديس أبابا بين حميدتي، قائد "الدعم السريع"، وتحالف القوى المدنية بقيادة عبد الله حمدوك، هدفت لبحث حل لوقف الحرب. لكن الفكرة أجهضت حيث انتهت بالتوقيع المشترك بين "الدعم السريع" وتحالف حمدوك على إعلان سياسي لوقف الحرب، وهو الأمر الذي وضع هذا الجسم المدني في موضع الحليف لحميدتي وليس الوسيط بين الجيش و"الدعم السريع".
2024-01-14

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
حميدي وحمدوك يجتمعان في اديس أبابا

كان المشهد بالغ الاستفزاز: حينما ظهر قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو – حميدتي - في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا مطلع الشهر الجاري، خلال اجتماعات مع تحالفات مدنية يقودها رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، وقوى "الحرية والتغيير"، وهي تحالفات نبتت من قلب "ثورة ديسمبر 2018".

ظهر دقلو وكأنه ثائر لا زعيم لمجموعات من المجرمين واللصوص والقتلة أذاقت السودانيين كؤوس المُر، إذ مارست انتهاكات منقطعة النظير ضد المدنيين، وارتكبت من البشاعات ما يجعل قائدها لا يحق له رفع عينه أمام الناس.

لكن دقلو ظهر مزهواً وكأنه في احتفال نصر مؤزر، بينما كانت مدن السودان في تلك الساعات تتقلب في جحيم قواته، وكان يبدو غير آبه بالانتهاكات الواسعة لتلك القوات والتي جعلت السودانيين هائمين على وجوههم بحثاً عن موضع آمن. ما دخلت هذه القوات مدينة أو قرية إلا وهجرها سكانها فراراً، حيث لا جيش يحمي حتى نفسه، بل أن الجيش بات لا يستحي من الانسحاب قبل المواطنين تاركاً إياهم في مواجهة صنيعه، "الدعم السريع".

فرص الحل السياسي تتراجع

اجتماعات أديس أبابا التي انعقدت مطلع هذا الشهر بين حميدتي، قائد "الدعم السريع"، وتحالف القوى المدنية بقيادة عبد الله حمدوك، هدفت لبحث حل لوقف الحرب، لكنها الفكرة أجهضت حيث انتهت بالتوقيع المشترك بين قوات الدعم السريع وتحالف حمدوك على إعلان سياسي لوقف الحرب، وهو الأمر الذي وضع بكل وضوح هذا الجسم المدني في موضع الحليف وليس الوسيط بين الجيش والدعم السريع.

اعتذر مجلس السيادة السوداني رسمياً عن تلبية دعوة لعقد قمة تنظمها دول "الإيغاد" في الثامن عشر من الشهر الجاري في أوغندا، ورفضت وزارة الخارجية السودانية قبلها مخرجات قمة جيبوتي، وهو ما يشير الى تراجع واضح لفرص الحل السياسي، ويؤكد أن الإرادة لم تتوافر بعد لدى الطرفين.

من المعلوم بالضرورة أن الوسيط لا يتعجل التوقيع مع أي طرف قبل طرح ما أتفق عليه على الطرف الثاني لإبداء رأيه وملاحظاته. وما اجهض هنا لم يكن فحسب أول محاولة للحل السياسي عبر هذا التحالف المدني، ولكن فرصه في لعب دور فاعل.

وأول ردة فعل من الطرف الثاني، القوات المسلحة، هو الرفض المطلق للاتفاق، وتجريم هذا التحالف السياسي. وفعلياً اتخذت بعض المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش إجراءات رسمية للتضييق على تحالف "الحرية والتغيير".

واعتذر مجلس السيادة السوداني رسمياً عن تلبية دعوة لعقد قمة تنظمها دول "الإيغاد" في الثامن عشر من الشهر الجاري بدولة أوغندا، ورفضت وزارة الخارجية السودانية قبلها مخرجات قمة جيبوتي، وهو ما يشير تماماً الى تراجع واضح لفرص الحل السياسي، ويؤكد أن الإرادة لم تتوافر بعد لدى الطرفين.

يحدث هذا بينما قوات الدعم السريع تواصل حشد مقاتليها بإقليم كردفان وتحاول التقدم شرقاً من ولاية الجزيرة بعدما أحكمت سيطرتها عليها، بينما لم يحقق الجيش حتى اليوم أي تقدم منذ تفجّر هذه الحرب في 15 نيسان/ أبريل 2023، لا عسكرياً ولا سياسياً ولا دبلوماسياً، وبدأ يفقد التعاطف الشعبي مع تكرار انسحاباته من المدن.

بعد سقوط ولاية الجزيرة في يد "الدعم السريع"، تصاعدت دعوات التسليح الشعبي لمواجهة انتهاكات هذه القوات التي يبدو أنها خرجت فعلياً عن السيطرة.

وتواجَه دعوات التسليح الشعبي بانتقادات واسعة من قبل تحالف "الحرية والتغيير" لأن عناصر نظام البشير الاسبق يتبنون هذه الدعوات. لكن ومع تمدد رقعة الانتهاكات وعجز الجيش البائن وجدت هذه الدعوات استجابة في عدد من المناطق.

وقد بدأت مجموعات سياسية قبلية من شرق السودان وغربه بحشد مقاتلين لأغراض التدريب الحربي في ثلاثة معسكرات داخل إريتريا، تحسباً لوصول الدعم السريع إلى شرق البلاد.

بعد سقوط ولاية الجزيرة في يد "الدعم السريع"، تصاعدت دعوات التسليح الشعبي لمواجهة انتهاكات هذه القوات التي يبدو أنها خرجت فعلياً عن السيطرة. وتواجَه دعوات التسليح الشعبي بانتقادات واسعة من قبل تحالف "الحرية والتغيير" لأن عناصر نظام البشير الأسبق يتبنونها. لكن، ومع تمدد رقعة الانتهاكات وعجز الجيش البائن، وجدت هذه الدعوات استجابة في عدد من المناطق.

اضطرت المئات من الأسر للعودة الى الخرطوم، وهو ما لم يحدث فقط بسبب احتمال اتساع رقعة الحرب في كل المناطق الآمنة، بل وأيضاً بسبب نفاد مخزون الناس من الأموال والذهب، حيث استنزفت الإيجارات الباهظة في الولايات كل مدخراتهم بينما الوضع الاقتصادي منهار تماماً وكامل مصادر الدخل متوقفة. 

والمخاوف من دعوات التسليح الواسعة تبدو منطقية لأنها لا تأتي تحت قيادة وسيطرة الجيش الذي لم يعد موجوداً في غالبية مناطق السودان، مما يجعل الأمر سائباً تماماً. فحمل السلاح لن يتوقف عند حد حماية الأنفس والممتلكات بل قد ينزلق إلى تشكيل عصابات فوضوية. غير أنه ليس بالإمكان ولا من العدل أن تقاوَم دعوات التسليح بينما عناصر الدعم السريع تمارس أفعالها الإجرامية بلا رادع حيث لم ينقطع تحشيدها للمقاتلين ولا إمدادها بالسلاح.

بالمقابل، تخلو الساحة السياسية تماماً من أي مبادرات أو جهود لإيجاد حل سياسي شامل وفعلي. وحتى الفاعلين الرئيسيين الرافضين لتحالف حمدوك و"الحرية والتغيير" لم يطرحوا أي مبادرات، باستثناء مبادرة واحدة، لم تُحدِث أثراً بائناً.

العودة للخرطوم اضطراراً

بعدما ضاقت الأرض بالسودانيين داخل وخارج بلدهم، اضطرت مئات الأسر للعودة إلى الخرطوم بعد تمدد قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة واحتمال تمددها أكثر. ويبدو أن البعض اختار العودة للجحيم القديم بحجة أن الخرطوم امتصت الصدمة وهي على الأقل لن تعيش جحيماً جديداً.

قدّرت دراسة أجراها "المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية" خسائر الاقتصاد السوداني خلال فترة الحرب بـ 15 مليار دولار، ما يعادل 48 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وخسارة 5.2 مليون وظيفة، وهو ما يقرب من نصف القوة العاملة في البلاد. وقد انخفض دخل الأسر الحضرية بنسبة 51 في المئة بينما وصل الانخفاض لدى الأسر الريفية الى 44 في المئة. 

وعلى الرغم من أن الوضع في الخرطوم كارثي خدمياً، حيث تكاد تنعدم الخدمات الطبية مع تذبذب متواصل في خدمات المياه والكهرباء والاتصالات، علاوة على انتشار الجثث في الطرقات وداخل بعض المنازل... هذا طبعاً إذا استثنينا مسألة الأمن.

واضطرار هذه الأسر إلى العودة يحدث فقط بسبب احتمال اتساع رقعة الحرب في كل المناطق الآمنة بل وأيضاً بسبب نفاد مخزون الناس من الأموال والذهب، حيث استنزفت الإيجارات الباهظة في الولايات كل مدخرات الناس بينما الوضع الاقتصادي منهار تماماً وكامل مصادر الدخل متوقفة. فمنذ تفجر الحرب، التي أكملت شهرها التاسع، لم يتمكن الاقتصاد من استرداد ولو جزء طفيف من نشاطه، على الرغم من محاولات عديدة للقيام ببعض النشاط في المناطق الآمنة.

وقدرت دراسة أجراها المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية خسائر الاقتصاد السوداني خلال فترة الحرب بـ 15 مليار دولار، أي ما يعادل 48 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتوقعت خسارة 5.2 مليون وظيفة، وهو ما يقرب من نصف القوة العاملة في البلاد، وهذا بناء على خسائر قطاعات الصناعة والخدمات والزراعة، وقد انخفض دخل الأسر الحضرية بنسبة 51 في المئة بينما انخفض عند الأسر الريفية بنسبة 44 في المئة.

وخلاصة الدراسة أن معدل الفقر سوف يزيد أربع نقاط ونصف ليصل الى 65 في المئة.

ولأن وضع الحرب جعل جمع البيانات شبه مستحيل فهذه الدراسة اعتمدت التقريب، بينما يقدر خبراء محليون خسائر الاقتصاد بأكثر من 20 مليار دولار.

يجري كل هذا في بلد كأنه ليس جزءاً من العالم الذي يتفرج على مأساة السودانيين! 

مقالات من السودان