تذمر في الجيش السوداني.. رسائل إلى القيادة أم سيلان غضب؟

فقدت قيادة الجيش بدرجة كبيرة ثقة الضباط والجنود، وربما تعكس انسحابات الجيش من عدد من المدن تراجع الرغبة في القتال لدى هؤلاء، بينما لم تفلح القيادة في تقديم خطاب يحتوي هذا التذمر المتمدد يوماً بعد يوم، ولم تقدم إجابات شافية حول مسائل جوهرية، كما أنها لا مضت إلى التفاوض بجدية ولا هي قادرة على التقدم عسكرياً.
2024-02-13

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
تمردات داخل الجيش السوداني؟

كان المشهد صادماً ويشير إلى أن ما خلفه أكبر من مجرد حديث غاضب، حينما ظهر ضابط في الجيش السوداني برتبة نقيب وبكامل بزته العسكرية، يتحدث أمام جمع من الناس عن ضعف قيادة الجيش في إدارة العمليات العسكرية، التي يخوضها ضد قوات الدعم السريع منذ 15 نيسان/ أبريل الماضي، وشكا الضابط بشكل صريح من نقص السلاح والدعم اللوجيستي لوحدات الجيش.

ثم مضى أكثر من ذلك حينما تكلم بلهجة شديدة موجهاً حديثه إلى قائد الجيش عبد الفتاح البرهان قائلاً: "إما أن تقود هذا الجيش كما ينبغي أو افسح الطريق لغيرك"، وتوعد الضابط ب"محاسبة كل من تسبب في ضعف الجيش، إن كان في السابق أو حالياً".

حدث هذا وسط احتفاء لافت من الحضور، حتى أن أحدهم نهض واحتضن هذا الضابط الذي غطت ملامح الغضب وجهه.

ثم أعقب هذا الضابط الذي انتشر مقطعه المصور في وسائل التواصل الاجتماعي ضابط آخر بالرتبة ذاتها، في منطقة أخرى من إقليم كردفان، ومضى في الحديث الغاضب ذاته الموجه ضد قيادة الجيش.

مثل هذا الخطاب لا يحدث حتى في تنوير عسكري في غرفة مغلقة، وهذه حال تقتضيها اللوائح والانضباط في المؤسسات العسكرية القائمة على الصرامة وإنزال الأوامر وفقاً للتراتبية، فكيف به وهو يحدث في الهواء الطلق وفي ظل حرب.

للوهلة الأولى، ربما يقول قائل إن هذه الأصوات طبيعية في ظل الضغط النفسي الذي تفرضه الحروب، خاصة أن قوات الجيش ظلت منذ اليوم الأول محاصرة وفي وضع دفاع.

غير أن هذه الأصوات المناهضة لقادة الجيش بشكل علني لم تبرز فجأة، فهي محصلة تراكم. والذي يدعو إلى الاستغراب هو أن هذه الحوادث مرت مرور الكرام، فلم يتم وضع هؤلاء الضباط في الإيقاف كما درجت عليه اللوائح ولم يخضعوا لأي نوع من المحاسبة. بل حتى حادثة تصفية جندي بالجيش السوداني في جنوب كردفان من قبل زملائه، بعدما اتهموه بالتعاون مع "الدعم السريع" لأسباب إثنية مرت مرور الكرام، من دون تحقيق أو محاسبة، وهي حادثة بشعة وغير مسبوقة. وهناك غيرها من القضايا شديدة الحساسية، كتلك التي تتعلق بصفقات السلاح، مرت كذلك من غير محاسبة.

سقوط متتالٍ…استفهامات ماثلة!

بعد سقوط مُدوٍّ لمدن دارفور في تشرين الأول/ أكتوبر - تشرين الثاني/ نوفمبر من 2023، قبل أن تلحق بهذا السقوط ولاية الجزيرة وسط السودان في كانون الأول/ ديسمبر، والتي انسحب جيشها انسحاباً مريباً، برزت إلى السطح عشرات الاستفهامات حول وضع الجيش الحقيقي على الأرض. ومن جهة أخرى برز صوت واضح يوجه سهام التخوين إلى قيادات الجيش، ويطلب إجابات واضحة حول هذا السقوط المتتالي... لكن كل ذلك ظل بلا إجابة حتى الآن.

منذ سقوط مدن دارفور حتى سقوط الجزيرة، ساد اعتقاد واسع داخل الجيش أن القيادة تتعمد إبطاء العمليات ضد "الدعم السريع"، وهو اعتقاد بدأ يتشكل منذ شهور الحرب الأولى، وقد ثبّت السقوط المتتالي هذا الاعتقاد لدى كثيرين، وحجج هؤلاء كثيرة وتبدو متماسكة، وهي تتعلق بإدارة العمليات الميدانية، وبترتيبات الإمداد، وبالسقوط المريب للمدن، وبغياب المحاسبة، بل وقبل ذلك بالاستعداد للحرب نفسها.

كان الضباط يخططون مع مجموعات أخرى في بقية المناطق العسكرية الرئيسية لاعتقال قيادات الجيش. صحيح قد لا تكون خطّتهم مكتملة لانقلاب عسكري، لأن نسبة نجاحها تكاد تكون صفراً في ظل الوضع المعلوم للجميع، لكن يبدو أن هؤلاء الضباط أرادوا إرسال رسالة قاسية اللهجة إلى قياداتهم، بعد تذمر مُعلن وصريح.

أحدث سقوط مدينة نيالا في جنوب دارفور، هزة عنيفة جداً وكان سقوطها بمثابة لفت انتباه إلى الوضع الحقيقي للجيش في الميدان، خاصة بالنسبة إلى الغالبية العظمى، التي كانت على يقين أن ساعة حسم عسكري لصالح الجيش آتية ووشيكة.

سقطت نيالا بعد معارك حامية بين الطرفين استمرت لأسبوع، واضطرت فرقة نيالا في نهاية الأمر للانسحاب بعد نفاد الذخيرة كما أشيع، وتحول قائد فرقة نيالا إلى بطل يُحْتفى به كونه صمد إلى آخر رصاصة عنده، بينما كان رفقاؤه ينسحبون بصمت. وبعد نيالا لم يستغرق سقوط بقية مدن دارفور، باستثناء "الفاشر"، إلا أياماً معدودة، ليكمل مشهد الغضب سقوط الجزيرة وسط البلاد، ومعه الخيبة والوجوم الذي خيّم على الجميع.

وفي محاولة لامتصاص السخط، شكل الجيش لجنة تحقيق خاصة بالانسحاب من مدينة مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، لكن اللجنة لحقت ببقية اللجان التي سبقتها، فتوقف التحقيق بسبب غياب متهم رئيسي بحسب ما نقلت تقارير صحافية محلية، بينما تشير المعلومات غير المعلنة إلى أن إفادات بعض المتهمين حمّلت هيئة قيادة الجيش المسؤولية كاملة.

ومنذ سقوط مدن دارفور حتى سقوط الجزيرة، ساد اعتقاد واسع داخل الجيش أن القيادة تتعمد إبطاء العمليات ضد "الدعم السريع"، وهو اعتقاد بدأ يتشكل منذ شهور الحرب الأولى، وقد ثبّت السقوط المتتالي هذا الاعتقاد لدى كثيرين، وحجج هؤلاء كثيرة وتبدو متماسكة، وهي تتعلق بإدارة العمليات الميدانية، وبترتيبات الإمداد، وبالسقوط المريب للمدن، وبغياب المحاسبة، بل وقبل ذلك بالاستعداد للحرب نفسها.
وبغض النظر عن صحة ودقة هذا الاعتقاد أو عدم واقعيته، إلا أنه أصبح مؤثراً على نحو ظاهر.

من القول إلى الفعل

أصبح انتقاد القيادة سمة بارزة في المجالس، وما يحدث داخل الاجتماعات التي يطلبها الضباط مع قيادات الجيش يكاد يصل حد التمرد المعلن، حيث الاتهامات بالخيانة لم تعد خطاً أحمرَ.

ويبدو واضحاً أن قيادة الجيش فقدت بدرجة كبيرة ثقة الضباط والجنود، وربما تعكس انسحابات الجيش من عدد من المدن تراجع الرغبة في القتال لدى هؤلاء. بينما لم تفلح القيادة في تقديم خطاب يحتوي هذا التذمر المتمدد يوماً بعد يوم، ولم تقدم إجابات شافية حول مسائل جوهرية، كما أنها لا مضت إلى التفاوض بجدية ولا هي قادرة على التقدم عسكرياً.

تتردد منذ فترة أنباء عن مخالفة تعليمات في الميدان أو تنفيذ عمليات من غير انتظار التعليمات، وفي وضع الحرب قد يكون هذا الأمر طبيعيّاً، أن يأخذ القائد الميداني قراره حسب تقديره اللحظي من غير الرجوع إلى القيادة، لكن أن تتكرر هذه الأفعال وسط حال متمددة من الغضب والتذمر والشكوك في القيادة فهو ما لا يمكن حسبانه مجردَ تقديرات ميدانية وقتية.

ومؤخراً تحول هذا التذمر والغضب إلى محاولة فعل شيء، حيث نقلت تقارير صحافية متطابقة، أن الاستخبارات العسكرية ألقت القبض على عدد من الضباط في منطقة وادي سيدنا العسكرية، ينشط هؤلاء الضباط في عمليات عسكرية في مدينة أم درمان، التي تشهد هجمات متتالية من الجيش لأول مرة منذ تفجر الحرب التي أكملت شهرها العاشر من دون أي تغيير في خارطة السيطرة على الأرض.

الضباط كانوا يخططون مع مجموعات أخرى في بقية المناطق العسكرية الرئيسية لاعتقال قيادات الجيش. صحيح قد لا تكون خطّتهم مكتملة لانقلاب عسكري لأن نسبة نجاحها تكاد تكون صفراً في ظل الوضع المعلوم للجميع، لكن يبدو أن هؤلاء الضباط أرادوا إرسال رسالة قاسية اللهجة إلى قياداتهم، بعد تذمر مُعلن وصريح. والذي لا يبشر بخير، هو أن سيلان الغضب بين ضباط وجنود الجيش قد يصبح خارج السيطرة تماماً مما ينتج عنه تفلتات غير محسوبة العواقب إذا غضت القيادة طرفها عنه..

وتتردد منذ فترة أنباء عن مخالفة تعليمات في الميدان أو تنفيذ عمليات من غير انتظار التعليمات، وفي وضع الحرب قد يكون هذا الأمر طبيعيّاً، أن يأخذ القائد الميداني قراره حسب تقديره اللحظي من غير الرجوع إلى القيادة، لكن أن تتكرر هذه الأفعال وسط حال متمددة من الغضب والتذمر والشكوك في القيادة فهو ما لا يمكن حسبانه مجردَ تقديرات ميدانية وقتية.

الراجح أن يُغلق ملف هؤلاء الضباط المعتقلين ويلحق بما سبقه من لجان وملفات، وجدت طريقها إلى الأدراج، لكن المؤكد أن حال التذمر والغضب التي بدأت تظهر في شكل تفلتات لن تتوقف عند هذا الحد إن لم تتدارك قيادة الجيش هذا الوضع شديد الخطورة والذي لم يحدث من قبل. الأهمية القصوى الآن هي تحاشي أي احتمالات انشقاقات أو انقسامات في هذا الجيش، الذي تتنازع مجموعات النظام السابق القرار العسكري والسياسي فيه.

مقالات من السودان