عن العشوائيات في مصر: عساكر وفقراء وعصابات وعمران

وصل عدد سكان العشوائيات إلى 15 مليون نسمة في 2008 أي أنهم 40 في المئة من سكان المدن في مصر. وأغلب المناطق العشوائية هي امتداد لبعض المناطق الشعبية.
2019-09-12

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
| en
رائد شرف - لبنان

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

يرفض بعض الباحثين والباحثات استخدام مصطلح "العشوائيات" لما يحمل من مدلولات سيئة، وخطرة أحياناً، إذ تمت شيطنة هذه المناطق، وأصبح اللفظ نفسه مبرراً لتنكيل الدولة وللسخرية من سكان هذه العوالم الجديدة. كما أنه يصعب وصف أكثر من 39 في المئة (بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء) من الحيز المديني في مصر بالعشوائيات. ولكن استخدام التعبير هنا يهدف إلى تفكيكه، وإلى فهم سبب تشكّله عبر عقود مختلفة، وكيفية تحوّل بعض المناطق الشعبية إلى مناطق عشوائية. بل قد يصح استخدام المصطلح نفسه لوصف ما يمكن تسميته بـ"العشوائية المترفة". فواقع العمران المصري المديني في أغلبه عشوائي!

في 2008، بعد حادث سقوط صخرة الدويقة على سكان الحي، تم تأسيس صندوق تطوير العشوائيات بقرار رئاسي ليتبع الصندوق مجلس الوزراء، وفي العام نفسه خرج "قانون البناء الموحد"، وقامت السلطة بتقسيم المناطق العشوائية إلى ثلاثة تصنيفات: مناطق خطرة وغير آمنة (وداخل هذا التصنيف تنقسم المناطق الخطرة إلى أربع درجات من الخطورة)، ومناطق غير مخططة، ومناطق غير صحية. وقد وصل عدد سكان العشوائيات إلى 15 مليون نسمة في 2008 (1) أي أنهم 40 في المئة من سكان المدن. وتحتل محافظة الإسكندرية المركز الأول من حيث انتشار العشوائيات، حيث بلغت مساحة المناطق العشوائية فيها 20.1 ألف فدان بنسبة 12.5 في المئة من إجمالي مساحتها.

وطبقاً لتقرير "المفوضية المصرية للحقوق والحريات" (2):

- يوجد بمصر 24 منطقة مهدِّدة لحياة الإنسان (خطورة من الدرجة الأولى) فيها ما يقارب 23 ألف وحدة سكنية، وتقع على مساحة تتجاوز 575 فداناً.

- بلغ عدد المناطق غير الآمنة (خطورة من الدرجة الثانية) 247 منطقة، فيها أكثر من 114 ألف وحدة سكنية، وتقع على مساحة تتجاوز 2163 فداناً.

- بلغ عدد المناطق غير الآمنة (خطورة من الدرجة الثالثة) 60 منطقة، فيها ما يزيد على 48 ألف وحدة سكنية، وتقع على مساحة تتجاوز 1127 فداناً.

- يوجد 16 منطقة (خطورة من الدرجة الرابعة) فيها أكثر من 25 ألف وحدة سكنية، وتتجاوز مساحتها 624 فداناً.

-إجمالي نسبة مساحة المناطق العشوائية 38.60 في المئة من إجمالي مساحة الكتلة العمرانية.

-إجمالي عدد المدن المحتوية على مناطق عشوائية 226 مدينة مصرية من أصل 234 مدينة، أي أنه لا يوجد سوى 8 مدن خالية من العشوائيات.

-إجمالي مساحة المناطق العشوائية غير المخططة 156 ألف فداناً، بينما إجمالي المناطق العشوائية غير الآمنة 4500 فدان.

I- كيف يمكن أن نفهم العشوائيات في مصر؟

لمصر تاريخ طويل مع العشوائيات يعود إلى بدايات القرن العشرين. ولكن ما نعرفه اليوم وما نراه في الحيز المديني هو نتاج أواخر الستينات منه، وأما تبلوره الجاد فكان مع الثمانينات والتسعينات. يقول عالم الاجتماع آصف بيات أن العشوائيات بشكلها الحالي ليست نتاج هجرة من الريف إلى المدينة في المقام الأول، ولكنها هجرة من المدينة إلى المدينة (3). فطبقاً للاحصائيات التي اعتمدا عليها، فمعدلات الهجرة من الريف إلى المدينة انخفضت، وهو ما يفسِّر ظهور وانفجار العشوائيات داخل المحافظات الريفية المختلفة في الدلتا والصعيد. وبالتالي فالعشوائيات ليست جزءاً دخيلاً على المدينة أو جزءاً خارجاً عنها، ولكنها تمدد طبيعي لعموم السكان من الفقراء ومتوسطي الدخل.

مصر بلد كبير وفقير، ولهذا "نجت" 8 مدن فقط من حضور المناطق العشوائية، وهي موزعة كالتالي: مدينتان بمحافظة السويس، ومثلهما بالشرقية، وثلاثُ مدن بكفر الشيخ، ومدينة واحدة بمحافظة الجيزة.

تمدد المناطق الشعبية

المطرية وعين شمس وإمبابة وباشتين ودار السلام بالقاهرة، وكذلك أبو سليمان والعوايد والحضرة الجديدة بالإسكندرية، بكل ما تحمله هذه المناطق من عزب ("العزبة" تشبه قرية صغيرة لتجمع سكاني، ولكن بعض هذه العزب داخل العشوائيات أو المكونة لمنطقة عشوائية يمكن أن تكون ضخمة المساحة والعدد السكاني) وعشوائيات داخل العشوائيات، كلها نتاج للتمدد الطبيعي للحيز المديني، سواء على أراضٍ صحراوية أو زراعية أو خليط من الأراضي الزراعية و"الهيش" و"الخوص" (أشبه بالأشواك والنباتات المؤذية التي تنتشر في الأرض الزراعية). والنقلات الكبرى لتضخم هذه المناطق جاء مع الثمانينات الفائتة بسبب الهجرة داخل المدينة نفسها.

ولكن الأصول الريفية والصعيدية والعرباوية مهمة جداً، ليس من منطلق أن تضخم العشوائيات نتاج هذه الهجرة، ولكن لأن هذه الخلفيات ستصوغ طبيعة العلاقات الاجتماعية بهذه المناطق الجديدة. فجانب كبير من المناطق العشوائية تشكّل من مجموعات من العرب تمّ الحكم عليها بالتهجير من مناطقها الشعبية القديمة، أو تمّ خلعها أو "تشميسها" (التشميس والخلع هما مرادفان يشيران إلى تخلي القبيلة عن أحد أفرادها أو عائلاتها، ورفع الحماية والأمن والنسب عنهم، بمعنى إمكانية استباحتهم من الآخرين دون أن تكون القبيلة ملزمة بالدفاع عنهم أو التوسط لهم أو التفاوض بالنيابة عنهم)، وكانت فرصة لبعض الغجر ويسمون أيضاً بالهناجرة (بعض القبائل الرحل الذين يستقرون على أطراف المدن وتنحدر أصولهم من مناطق مختلفة مثل الهند وإيران وآسيا وبعض مناطق أوروبا الوسطى)، أو مجموعات ما يعرف ب"الهجانة "(وهي تمارس السرقة كنشاط رئيسي لها وتسطو على المنازل) وكثير من الأشقياء والبلطجية الذين تمّ التضييق عليهم أمنياً واجتماعياً داخل مناطقهم، وأرادوا فتح منافذ جديدة للحياة وللتجارة لهم بعيداً عن العالم القديم.

جدل تريّيف المدينة أو تمدين الريف لا معنى له. فالعشوائيات ليست ظاهرة ريفية، هي ظاهرة مدينية نمت على الأطراف الزراعية للمدن، وهذه الأطراف في أغلبها لم تكن ريفية بمعنى كونها تجمعات كبرى للفلاحين

كذلك انضمت إلى هذه التنويعات الأثنو-اجتماعية أعداد ضخمة من الشباب الذين يحاولون إيجاد سكن وتكوين أسر جديدة. ولذلك فأغلب المناطق العشوائية هي امتداد لبعض المناطق الشعبية. فمثلاً في الإسكندرية تشكلت أبو سلمان بهذه الطريقة، وكذلك أغلب عزب ومناطق خط ترعة المحمودية، فكل ما هو شمال الترعة هي مناطق شعبية قديمة. والاعتماد على العصبيات، مثل تكتل عائلات الصعايدة أو أبناء الدلتا في شوارع بعينها هو أمر مألوف حتى في المناطق الشعبية. وتحاول كل مجموعة تحصين نفسها من خلال هذه العصبيات لترسيخ النفوذ والهيبة وحماية التجارة المشروعة وغير المشروعة، وتأمين النساء، وتأمين الأراضي التي وضعوا أيديهم عليها. ومع تزايد الكثافة السكانية لهذه المناطق الجديدة، بدأت بعض العلاقات الاجتماعية تتشكل وتتمحور حول "الشارع"، أي تكوين عصبيات على أساس الشارع المشترك لمجموعة من السكان. بل أن هذه الفكرة في حد ذاتها أصبحت مصدراً للصراع والعنف، حيث تُمثِّل في حد ذاتها رابطة لتجسيد النفوذ والسطوة داخل المنطقة بشكل عام.

العصبية

إلى اليوم، يظل الصراع القائم على أساس الخلفيات العصبية هو الأعنف والأشرس. وهذه سمة لا تتعلق فقط بالمناطق العشوائية، بل هي قائمة حتى في المناطق الشعبية القديمة، ومناطق التخوم التي تجمع العرب مع الصعايدة بأعداد كبيرة مثل الهانوفيل والكيلو 21 في الإسكندرية، وحتى في المناطق الصحراوية التي تمت زراعتها مثل النوبارية. هناك، تبقى معارك العصبيات هي الأخطر. ففي 2012 قامت معركة طاحنة بين تجمعات الصعايدة والعرب بمنطقة باكوس بالإسكندرية، امتدت لأسبوع كامل، وفشل التدخل المتكرر للقوات البحرية الخاصة في احتوائها. كذلك كان حال بعض المعارك بين العرب والصعايدة في الكيلو 21.

وبجوار هذه المجموعات المتنوعة، تمددت الجماعات الإسلامية المختلفة، سواء السلمية أو المتطرفة والداعية لحمل السلاح. فالمطرية وعين شمس وإمبابة بالقاهرة شهدت حضوراً مكثفاً ل"القطبيين" (جماعة إسلامية تنسب نفسها إلى فكر سيد قطب، وعلى الرغم من قلة عددهم، فهم يتسمون بشراسة عالية وانتهاج العنف كوسيلة للتغير السياسي والاجتماعي، وهي جماعة مختلفة عن مجموعات ما يعرف بالقطبيين داخل جماعة الإخوان المسلمين)، و"الجماعة الإسلامية" و"السلفية الجهادية"، بينما شهدت المنيب حضوراً أكبرَ ل"السلفية المدخلية" أو "القوصية". وشهد أبو سلمان وبعض مناطق سيدي بشر والمندرة في الإسكندرية حضوراً أكبرَ لـ"السلفية العلمية" ("حزب النور" حالياً) - بحكم وجودها الأكبر وأصولها السكندرية – ول"الإخوان المسلمين".

ترييف أم تمدين؟

جدل تريّيف المدينة أو تمدين الريف لا معنى له. فالعشوائيات ليست ظاهرة ريفية، هي ظاهرة مدينية نمت على الأطراف الزراعية للمدن، وهذه الأطراف في أغلبها لم تكن ريفية بمعنى كونها تجمعات كبرى للفلاحين، بل كانت أراضِ زراعية أو خوص أو أراضٍ تابعة للأوقاف أو الإصلاح الزراعي، وانتفى دورها الزراعي. لكن لا يمكن اعتبارها انقضاضاً من الريف على المدينة. فمثلاً في الإسكندرية، لا يمكن القول أن "المعمورة البلد"، التي كان أغلبها مناطق تابعة للإصلاح الزراعي أو الأوقاف، تقوم بترييف المدينة. فهي كانت امتداداً زراعياً داخل مدينة الإسكندرية، تحوّل مع الوقت لمناطق سكنية يهاجر إليها إسكندريون من أحياء مختلفة مثل السيوف وجانب من المندرة القديمة، وأغلب سكانها الآن من المناطق الشعبية، أو أبناء الطبقة الوسطى الذين يسعون لخلق أسر جديدة، وهي خليط من البناء غير المخطط والمخالِف والبناء شبه القانوني والبناء المرخص.

لم يكن الفقراء هم من استغلوا لحظة الثورة لبناء الأبراج الشاهقة والمخالِفة لجميع لوائح وقواعد البناء والمضرة بالبنية التحتية، بل كان المتمولون هم من فعلوا.

أما بقاء العصبيات وحفاظها على هويتها فلا علاقة له بالترييف أو التمدين، بل هو مرتبط بضرورات الصراع الاجتماعي وعدم تطور قوى الإنتاج وعلاقاتها، وإلا فعلينا اعتبار أغلب الإسكندرية منطقة صعيدية بسبب الهجرة الكثيفة إليها من الصعيد في الأربعينيات الفائتة.

عشوائيات مترفة

لا يمكن حصر العشوائية بالفقراء. هم فقط الأكثر عدداً في مصر، ولكن المترفين أيضاً قاموا بالتوسع العشوائي وشبه القانوني. لعل أبرز مثال على ذلك العديد من مخالفات البناء والتحايل والانخراط في الفساد مع المحليات والمحافظة في مناطق شاسعة في الإسكندرية مثل سيدي بشر وميامي والعصافرة وشارع النصر وهيلتون بسموحة. والعرف المتداول بين المقاولين هو أنه لا إمكانية للربح بدون مخالفة لوائح البناء. ومع ذلك، تتمتع هذه المناطق المخالفة بجميع الخدمات. وبالتدقيق في داخل علاقاتها، فهي مزيج من تحالفات السلطة والبلطجة أيضاً.

فمثلاً، إذا أخذ أحد المقاولين تصريحاً ببناء بناية مكونة من خمسة طوابق، وقام ببناء عشرة طوابق (أو أزيد في بعض الحالات)، يقوم أحد البلطجية الكبار بشراء طابق كامل بسعر السوق الطبيعي، ثم يقوم بمساومة المقاول على طابق آخر بربع سعر قيمة السوق، مقابل توفير الحماية وعلاقات الفساد مع القسم (مركز الشرطة) والحي (وهي بشكل ما البلدية المصغرة)، أو يقوم ببيع إحدى شقق الطوابق العليا بسعر بخس لأطراف من السلطة في مناصب رفيعة. لم يكن الفقراء هم من استغلوا لحظة الثورة لبناء الأبراج الشاهقة والمخالِفة لجميع لوائح وقواعد البناء والمضرة بالبنية التحتية، بل كان المتمولون هم من فعلوا.

الأرض والمساحة هي مصادر الثروة

العشوائيات طبقاً لكثير من الباحثين من علوم مختلفة، هي نتاج واضح لفشل سياسات الإسكان، وغياب رؤية متكاملة للعمران في مصر عبر الأنظمة المتعاقبة لـ"دولة يوليو". فنظام جمال عبد الناصر يتحمل عبء تعطيل السوق العقاري بسبب تثبيت القيمة الإيجارية، بينما يتحمل السادات ومبارك فشل إقامة علاقة متوازنة بين دور القطاع الخاص في عملية الإسكان الشعبي ودور الدولة. ويشار إلى أن سياسات الانفتاح ثم السياسات النيوليبرالية، وتخلّي الدولة عن أدوارها الاجتماعية، هي سبب انفجار العشوائيات في مصر.

المسألة الأساسية أن الأرض والمساحة هي مصادر رئيسية للثروة في مصر، وهو ما يجعل الصراع الاجتماعي متمحوراً حول الأرض، ويجعل أن أضمن استثمار لمشروع هو الاستثمار العقاري. ومع عدم تطور قوى الإنتاج في مصر، فالصراع على الحيز العام والخاص هو الأقرب للمخيلة العامة، ولهذا فالتناحر والنزاع هو حول أراضي وضع اليد، أو النواصي والمساحات المشتركة، مثلما هو الحال في المناطق العشوائية أو مواقف الميكروباصات والتكاتك، أو فرض أتاوات على مساحات ركن سيارات النقل... قادت علاقات الإنتاج القائمة وتخلّف قواها إلى قمع حق الفقراء في المدينة وإمكانية تمددهم المخطط والمنظم، حيث يحتكر أصحاب الأموال والبيروقراطية والأجهزة الأمنية والجيش هذا التوسع لأنه يمثل ثروات مهولة.

الأرض والمساحة هي مصادر رئيسية للثروة في مصر، وهو ما يجعل الصراع الاجتماعي متمحوراً حول الأرض، ويجعل أن أضمن استثمار لمشروع هو الاستثمار العقاري. ومع عدم تطور قوى الإنتاج في مصر، فالصراع على الحيز العام والخاص هو الأقرب للمخيلة العامة

ومنذ 2005 يشتد الصراع مع السكان على أراضيهم وطرفاه هما الدولة والمستثمرون من جانب، والسكان من جانب آخر. ولعل أبرز هذه الصراعات مؤخراً هو صراع السلطة مع سكان "جزيرة الورّاق" في قلب النيل في القاهرة، حيث مارست السلطة كافة أشكال القمع لإجبار السكان هناك على التخلي عن أراضيهم.

II- العشوائيات بين خطاب السلطة والإدارة البوليسية

العشوائيات وحدها أو اختلاطها بالمناطق الشعبية أو وجودها في داخلها، كانت سؤالاً ملحاً مطروحاً على عدة أجهزة داخل الدولة مثل وزارة السياحة والإسكان، وعلى المستثمرين العقاريين. وتشير بعض الدراسات في كتاب "القاهرة مدينة عالمية" (4) إلى محاولات دائمة لعزل السكان المحليين (يطلق عليهم المسؤولون أحياناً "الرعاع" أو "الناس البلدي") عن المناطق الأثرية، وبالأخص في مشروع مبارك الطموح لتطوير القاهرة القديمة. كذلك كانت هذه المناطق همّاً بوليسيّاً للداخلية المصرية في الجانب الذي يخص إدارتها، التي لم تختلف كثيراً عن إدارة المناطق الشعبية. فالعنف والإرهاب والتعذيب والمرشدون والدوريات والحملات الأمنية والعلاقات الزبائنية كانت استراتيجية الداخلية في إخضاع تلك المناطق، أي إخضاع عموم السكان في مصر وفصل الفضاءات الاجتماعية عن بعضها البعض وعزلها قدر المستطاع.

كيف يمكن قمعها؟

يقول تقرير للبي بي سي (5): "عندما عمل المهندس حسين صبّور مستشاراً للحكومة في الثمانينيات، تم التخطيط لإزالة العشوائيّات في وسط المدينة، ونقل سكّانها خارج نطاق الطريق الدائري الذي كان يتم إنشاؤه آنذاك. أخبرنا أنّ ذلك كان سيسهل على الحكومة احتواء أية احتجاجات شعبية محتملة (..) فقد يتمرّد سكّان العشوائيّات لأيّ سبب، وسيكون من السّهل احتواؤهم عندما يكونون خارج الطريق الدّائري." كان التفكير في التخلص من العشوائيات بعزلها خارج المدينة حاضراً منذ بداية توسعها، وكان السبب الدافع وراء ذلك استثماري طامع في هذه المناطق من جهة، وأمني وبوليسي من جهة ثانية يسعى لمزيد من عزل هذه المناطق وإحكام القبضة الأمنية عليها.

كانت هذه المناطق همّاً بوليسياً للداخلية المصرية في الجانب الذي يخص إدارتها، التي لم تختلف كثيراً عن إدارة المناطق الشعبية. فالعنف والإرهاب والتعذيب والمرشدون والدوريات والحملات الأمنية والعلاقات الزبائنية كانت استراتيجية الداخلية في إخضاع تلك المناطق

ولكن تطوراً خطيراً طرأ على سؤال العشوائيات في 1992 بسبب وقوع كارثة الزلزال الذي راح ضحيته أكثر من 500 شخص، وتشردت نحو 10 آلاف أسرة، وهو العام نفسه الذي أعلنت فيه "الجماعة الإسلامية" سيطرتها على إمبابة، ثم اندلعت بعد ذلك اشتباكات عنيفة في عين شمس وتوغلت المجموعات الإسلامية المختلفة داخل المطرية. هنا انتقلت الدولة من الممارسة البوليسية إلى أمننة مسألة العشوائيات، وتحويلها لخطاب تهديد ومسألة أمنية وليست اجتماعية أو اقتصادية. ودارت الماكينة الإعلامية والسينمائية وتشكل خطاب متكامل لشيطنة العشوائيات واعتبارها أوكاراً للجريمة والإرهاب. ثم تطور الخطاب لاحقاً لتصويرها كخطر على الطبقة الوسطى، وأن سكانها سينقضون في أقرب لحظة انفلات على المناطق المترفة.

كانت تداعيات هذه الأحداث وهذا الخطاب ثقيلة للغاية على هذه المناطق. فتمّ حصار إمبابة، ووُضعت "كمائن" (نقاط تفتيش عسكرية) على أغلب مداخل ومخارج المطرية وهي قائمة حتى اليوم (كمين أسفل وفوق كوبري مسطرد، وكمين عبود، وكمين المرج وهو الوحيد الذي لم يعد موجوداً)، وكانت عين شمس تحت حصار دائم طيلة التسعينات الفائتة، ولم تتعافَ من شدة الوطأة الأمنية إلى الآن، وإنْ كانت القبضة الحديدية للداخلية قد صارت أقل ثقلاً. كما انعكست هذه الأحداث وهذا الخطاب على بقية المناطق العشوائية التي لا تضم إرهابيين وليس فيها "خطر إسلامي"، تحت ذرائع "تهديد القيم العامة للمجتمع المصري" وكونها تجسيد لانهيار "منظومة الأخلاق المصرية" وخطر داهم على بقية المجتمع. وعبّر أحد ضباط أمن الدولة عن ذلك تعليقاً على المطرية في مطلع الألفية الثالثة: "نريد بناء أسوار حولها ونحوّلها إلى سجن"، وتوحشت الأقسام الخاصة بإدارة هذه المناطق. وعلى الرغم من هذه الشيطنة الواسعة للمناطق العشوائية، فقد استغلت السلطة ورجال الأعمال هذه المناطق كفائض بشري في أعمال العنف والبلطجة والحشد الاجتماعي وقمع الخصوم السياسيين، كما استغلتهم في معارك متنفذيها الشخصية.

ليست "عششاً"!

المعضلة ببساطة في هذا الخطاب، هو تصور العشوائيات كغيتوهات من صفيح أو مجموعات من "العشش". هذا بالفعل واقع بعض العشوائيات. ولكن هذه النوعية من العشوائيات هي ما تعرّفها الدولة بـ"المناطق الخطرة وغير الصالحة للحياة". وإنما فالعشوائيات في مصر صارت مدناً كاملة يعيش بداخلها ملايين البشر، وأنتجت حياة متكاملة وأصبح أبناؤها في الجامعات ولها تجارة ممتدة وعمران كبير. وعلى الرغم من قسوة الواقع المادي للعديد من مناطقها، فهذه العشوائيات شهدت ملاحم لخلق أجيال متعلمة وبعيدة عن عوالم الجريمة والبلطجة في ظل ظروف شديدة الصعوبة في التنشئة، سواء بسبب عوامل الفقر وضعف البنية التحتية أو بسبب عوامل العنف وأشكال الانفلات المختلفة. مرة أخرى، العشوئيات ليست تعبيراً عن شيء استثنائي، بل هي تعبير عن عموم السكان في الحيز المديني.

كان التفكير في التخلص من العشوائيات بعزلها خارج المدينة حاضراً منذ بداية توسعها، والسبب الدافع وراء ذلك استثماري طامع في هذه المناطق من جهة، وأمني وبوليسي من جهة ثانية يسعى لمزيد من عزل هذه المناطق وإحكام القبضة الأمنية عليها.

ولا يمكن فصل المناطق العشوائية عن الاقتصاد بشكل عام. فبعض التقديرات تشير إلى أن نسبة الاقتصاد الموازي (غير المهيكل) في مصر تصل إلى 40 في المئة من مجمل النشاط الاقتصادي (وهذه النسبة لا تضم الاقتصاد المجرم، مثل البلطجة والمخدرات والسلاح والدعارة). ومن المنطقي أن يذهب الاقتصاد والعمران يداً بيد في الإتجاه نفسه.

المخدرات والتجارة غير المشروعة ووضع اليد كعوامل استقرار أو اضطراب

كانت المناطق العشوائية ملاذاً لأشكال مختلفة من الجريمة والتجارة المجرَّمة قانوناً وعلى رأسها تجارة المخدرات. عانت المناطق الناشئة حديثاً والتي تبلورت بشكل واضح كعشوائيات أو كمناطق شعبية، من منافسة العالم القديم في تجارة المخدرات. ففي الإسكندرية ظلت الغلبة - وربما ليومنا هذا - للمناطق الشعبية المستقرة مثل المنشية والحضرة وبحري ورأس التين وكرموز واللبان. حتى في عالم الجريمة والبلطجة، ظل غرب الإسكندرية له اليد العليا حتى بعد ظهور بعض الأسماء التي خرجت من رحم معارك طاحنة في مناطقها الجديدة، لتصبح نجوماً في عالم الجريمة مثل محمد الأحمر من أبو سلمان (وهذه بدأت كمنطقة عشوائية، وانتهت لتصبح أحد المناطق الشعبية الكبيرة في الإسكندرية. فقد تمكنت من الاستفادة من الخدمات الرسمية، ونالت التراخيص في الأبنية أو سوّت المخالفات، وأصبحت أغلب بيوتها تمتلك عدادات كهرباء ويتم تحصيل فواتير المياه والتليفون وجميع الخدمات. وهناك بعض الأسماء الأخرى من سيدي بشر والمندرة. ومع ذلك ظلت "القوة" بمعناها الواسع والعميق للكلمة في يد المناطق القديمة، على الرغم من التكتل البشري الكبير في المناطق العشوائية. فمهما بلغ عنف وقسوة أبناء العالم الجديد، وحتى لو تشكلت بعض مجموعاتهم من عصبيات وقبليات ريفية وصعيدية، فهي لا تستطيع منافسة العائلات المستقرة والممتدة في المناطق القديمة، بما لديها من قدرة على تنظيم العنف وتعبئة مواردها واستخدام السلاح وتوافره. فأبو سلمان القريبة من باكوس لا يمكنها بحال منافسة عائلات الصعايدة أو العرب الذين صاروا إسكندريين بحكم الوقت الطويل والتواجد والأجيال المتعاقبة بباكوس القديمة، كما لا يمكنها التغول على مساحات التجارة فيها، سواء المشروعة أو غير المشروعة. كذلك الحال مع حجر النواتية القريبة من الحضرة ووكالة الفاكهة والخضروات والتي لا يمكنها منافسة الحضرة القديمة في عالم الجريمة.

على الرغم من الشيطنة الواسعة للمناطق العشوائية، فقد استغلت السلطة ورجال الأعمال هذه المناطق كفائض بشري في أعمال العنف والبلطجة والحشد الاجتماعي وقمع الخصوم السياسيين، كما استغلتهم في معارك متنفذيها الشخصية.

ولكن العالم الجديد كان لديه حظاً جيداً، لتواجده بعيداً عن عين الأمن وحضوره الكثيف بشكل يومي ومؤسسي.. بعيداً عن الحملات والدوريات الأمنية التي حكمت أغلب المناطق الشعبية والعشوائية لعقود طويلة. فغياب الحضور المؤسسي الكبير للدولة، سمح للمناطق الجديدة بأن تصبح مناطق للتخزين والإتجار تدريجياً. كذلك ساعد وقوع بعض المناطق الجديدة، مثل المطرية، على طرق تجارة كبيرة للمخدرات مثل طريق بلبيس الزراعي والصحراوي. ولكن أغلب المناطق الجديدة أخذت بعض الوقت حتى أصبحت مناطق بيع مستقرة لعدة أسباب:

1- المواصلات وعدم سهولة التنقل بين المناطق العشوائية والعالم القديم سواء بمناطقه الشعبية أو المترفة، وهذا لفترة طويلة، وكان يجري اعتبارها مناطق منعزلة.

2- الأمن والاستقرار، فمن غير المتوقع أن يعترضك أحد أبناء المنطقة أو يعتدي عليك التاجر نفسه في منطقة مثل بحري أو المنشية أثناء شراء المخدرات للاستهلاك الشخصي، كما أنها مناطق تتسم بالانضباط في إدارة حيز التجارة وأمن المستهلك. ففي أغلب الأحيان يخشى المستهلك من الأمن وليس من المنطقة الشعبية نفسها، وهذا على عكس المناطق العشوائية، فالمستهلك يخشى المنطقة نفسها لا أجهزة الأمن.

3- الجودة وتقدير المستهلك، فالأسواق القديمة الأكثر استقراراً تعمل على مراكمة الزبائن وكسب ودهم. على عكس بدايات المناطق العشوائية وغياب منطق تجاري واقتصادي مستقر في إدارة حيز البيع.

4- نادراً ما يتعاطى بائعو المخدرات في المناطق الشعبية هم أنفسهم أنواعاً عنيفة من المخدرات الثقيلة، والتي تخلق صعوبة في التواصل على مستوى اللغة، والخوف من البائع نفسه، كما هو حال الكثير من الشباب الذين يقومون بتوزيع المخدرات وبيعها في المناطق العشوائية. ولا يعني ما سبق إعطاء صورة وردية عن المناطق الشعبية وانضباطها.

5- قدرة التجار الكبار في الأحياء الشعبية القديمة على ضبط الشارع وعلى خلق أرضية طيبة مع بقية السكان، على عكس الكثير من المناطق العشوائية التي يتناحر فيها موزع شاب مع آخر في صراع، قد يصل إلى مستوى عالٍ من العنف والدم، للسيطرة على ناصية الشارع. كذلك يمكن لسكان الشارع نفسه مناوأة الموزع الشاب أو التاجر في حال وجود ضغائن ومشاكل مختلفة حول الجيرة والتحرش بالنساء والإفراط في استعراض العنف والقوة وتعريض الشارع للخطر الأمني والحملات الأمنية. ويمكن القول إن العامل الأول والعامل الخامس هما من أهم ملامح الفروقات التي رسمت ملامح اضطراب أو استقرار المناطق المختلفة.

.. والنساء في المجال!

اتسمت تجارة المخدرات والبلطجة بتنوع جنس القائمين عليها من الرجال والنساء. وفي هذا فحالها لم يختلف كثيراً عن حال المناطق الشعبية المستقرة. وإن كان يمكن ملاحظة أن البلطجة التي تقوم نساء على إدارتها موجودة أكثر في المناطق العشوائية، وذلك لعدة أسباب منها النشأة ذاتها في بعض المناطق التي اتسمت بالقسوة على النساء وغياب مصادر الدخل، والمساحات المتاحة لتوغل النساء في إدارة البلطجة والعنف (مثل كثرة مواقف الميكروباصات والتكاتك لاحقاً)، والحاجة إلى اللجوء للعنف اليومي للنجاة من الواقع المادي للحياة في هذه المناطق.. ما جعل للنساء دوراً مهماً في ملف العنف والجريمة.

وهناك بالطبع عوامل أخرى متنوعة حسب كل حالة ومنطقة، منها على سبيل المثال انخراط الزوجات مع أزواجهم في بداية تجارة المخدرات، أو وراثة تلك التجارة، أو التصورات المسبقة عن أدوار المرأة داخل بعض المجموعات الإثنو - اجتماعية مثل الغجر أو الهناجرة، حيث يتشارك تاريخياً الذكور والنساء في العمل في الموالد والمواسم المختلفة، وتقوم المرأة بإعالة الأسرة في الأغلب، أو بعض المناطق الشعبية المستقرة التي لا ترى غضاضة كبيرة في إدارة بعض النساء للمقاهي، أو تجارة المخدرات خلفاً لأزواجهم أو عائلاتهم، أو في اشتراك العائلة، نساء ورجالاً، في تجارة المخدرات وإدارتها. ولا بد من تسجيل أمر في غاية الأهمية هنا: فأغلب من يُعيل الأسر هن النساء! ولكن على الرغم من تجاوز هذا الواقع المادي للتصورات المسبقة (الحجب وعزلة النساء في المنزل والذكر المعيل)، تعود هذه الأفكار المهيمنة، فتجعل الواقع أكثر قسوة على النساء، حيث يضطررن لقبول العنف المنزلي، أو يخفن من الشكوى من التحرش والأذى اللفظي والجسدي، باعتبار المرأة ما زالت تعد "شرف الأسرة". وتتجنب الكثير من النساء الإفصاح عن تعرضهن للتحرش، حتى لا يضطر ذكور العائلة للدخول في معارك عنيفة مع أطراف أخرى. وليس صحيحاً أن النساء في المناطق الشعبية أو العشوائية لا يتعرضن للتحرش بحكم الجيرة والعصبيات وأخلاق المناطق الشعبية، فالتعرض للتحرش يومي، والفرق الجوهري بين امرأة وأخرى هو مستوى الحماية التي تحظى بها في المنطقة. وكثيراً ما تنشب معارك عنيفة بسبب تعرض إحدى النساء للتحرش.

البلطجة التي تقوم نساء على إدارتها موجودة أكثر في المناطق العشوائية ولكنها معروفة كذلك في المناطق الشعبية. وأغلب من يُعيل الأسر هن النساء! وهذا الواقع المادي يتجاوز التصورات المسبقة ولكنه يضاعف من الاضطهاد المحيط بالنساء..

والحقيقة أن المجالس العرفية، و"كبار" المناطق أو الشوارع أحياناً، لا يستطيعون إقامة علاقات مستقرة، وما زال دورهم الفعال، يتجسد بعد نشوب المعارك في الفصل في الأحكام والتعويضات. ولكن مثلما تشير سيدة عاملة في تصفيف الشعر والزينة للسيدات: لو كانت هذه المجالس فعالة حقاً كان يفترض أن يكون دورها استباقي. كذلك ترضخ الكثير من السيدات للعنف المنزلي حتى لا تصير مطلّقة (وهو ما زال وصماً كبيراً في العديد من المناطق)، وترجع مرة أخرى لاستبداد الأخوة الذكور والأب في أسرتها.

إدارة البلطجة والزبائنية

لا يختلف هيكل علاقات السلطة والقوة كثيراً بين المناطق العشوائية والمناطق الأخرى، سواء الريفية منها أو الشعبية. في ما يتعلق بإدارة البلطجة والمخدرات، فغالباً ما تتشكل علاقات زبائنية بين العائلات الكبرى والتجار وكبار أو متوسطي البلطجية، وبين "القسم" ونواب مجلس الشعب، وسابقاً أعضاء "الحزب الوطني"، كمؤسسة وشبكة مصالح. وجود هيكل ونمط لهذه العلاقات لا يعني ثبات الهيكل والاستقرار الكامل لبنيته، لا في المناطق الشعبية ولا في الأرياف ولا حتى في صعيد مصر ومدن الدلتا. فهناك علاقات شدٍّ وجذب دائمة، وتجدد في الفاعلين داخل هذه المصفوفة والشبكات سواء من "الميري" (يطلق على كل من الجيش والشرطة في مصر) أو المدنيين والوجهاء وكبار تجار المخدرات أو البلطجية. وكثيراً ما تقوم "الداخلية" متمثلة في المباحث الجنائية، أو أمن الدولة بضرب بعض الشبكات لأسباب متعددة، منها: نمو هذه الشبكات وتخطيها الحدود المتخيَّلة عند ممثلي الميري، أو الخوف من استقلالها، أو تورط بعض أفراد العصابات في مشاحنات أو اشتباكات مع ضباط آخرين من خارج هذه الترتيبات المحلية، أو الاحتكاك الذكوري والاختلاف على بعض المصالح في إدارة الحيز المشترك بين بعض أفراد الداخلية وهذه الشبكات، والتي قد تنتهي إلى انفجار كامل لهذه العلاقات، ونشوب صدام عنيف بين الميري من جهة والتجار أو البلطجية أو العائلات. ولا يقتصر الأمر على مستوى التجارة غير المشروعة أو الجريمة والبلطجة أو وضع اليد على الأراضي أو سرقة الأثار والإتجار بها. فالأمر في أساسه تجسيد للصراع الاجتماعي والسياسي وصعود وهبوط العائلات والوجهاء على مستوى النفوذ والقوة والاقتصاد. فأحياناً يقوم القسم أو المديرية (أو "الحزب الوطني" سابقاً) بإعادة ترتيب العلاقات داخل الشبكات الزبائنية، المشروعة وغير المشروعة، حسب القوة الاجتماعية للأفراد. فصعود عائلات جديدة اقتصادياً واجتماعياً يعطي لها أولوية على عائلات أقدم فقدت نفوذها وسطوتها، وهكذا.

1- والمميز في إدارة العلاقات الزبائنية في المناطق العشوائية، هو استباحة هذه الشبكات من قبل الداخلية. وذلك يعود للفائض البشري الكبير المتاح أمام الداخلية. فهناك الكثير من الأشقياء أو الذين يطمحون للعب هذا الدور، ومقدار كبير من الشباب على استعداد لممارسة العنف، سواء بالوكالة أو بسبب نزاعات تخص الفرد، كما يعجز تجار المخدرات والبلطجية الكبار في المناطق العشوائية عن إحكام سيطرتهم على الحيز الاجتماعي وإخضاع هذا العدد الكبير من الشباب القابل للعنف والجريمة لشبكات أكثر تنظيماً واستقراراً. ومن ثَمّ، فيمكن أن تكون الشبكات موسمية، مثلاً في وقت الانتخابات، أو عند الحاجة لضرب بعض الخصوم السياسيين.

2- أو قد يعود الأمر إلى عدم وجود حماية كافية للشبكة، مبنية على رأس مال رمزي واجتماعي وعلاقات خارج الحيز الضيق للمنطقة العشوائية نفسها، وهو ما يسهل استباحة أفرادها حتى لو تعاونوا مع الداخلية.

3- كما أن التعامل البوليسي المحض مع هذا الفائض البشري الكبير، جعل أساس العلاقة قائماً على الإرهاب والترويع. ولكن التسعينات الفائتة منحت هذه المناطق العشوائية فرصة نسبية لبناء بعض الشبكات الزبائنية المستقرة. فمع اشتداد الحرب على الإرهاب تحديداً، كانت هناك حاجة لدى الداخلية للاعتماد المكثّف على الشبكات الزبائنية القائمة على الجريمة، وذلك لاختراق الجماعات الإسلامية في هذه المناطق. ثم تبع ذلك الاستخدام المكثف من قبل "الحزب الوطني" والداخلية لاستغلال هذا الفائض البشري في العنف السياسي وترويع الخصوم، حتى داخل "الحزب الوطني" نفسه مثلما حدث في انتخابات 2010، حيث تقاتل أعضاء الحزب ضد بعضهم البعض.

لا يختلف هيكل علاقات السلطة والقوة كثيراً بين المناطق العشوائية والمناطق الأخرى. وبما يتعلق بإدارة البلطجة والمخدرات، فغالباً ما تتشكل علاقات زبائنية بين العائلات الكبرى والتجار والبلطجية، وبين "القسم" ونواب مجلس الشعب. والمميز في إدارة هذه العلاقات في المناطق العشوائية هو استباحة الشبكات من قبل الداخلية، ويعود ذلك للفائض البشري الكبير المتاح أمامها.

ظلت السمة الرئيسية عدم استقرار هذه العلاقات، على عكس المناطق الشعبية والأرياف ومدن الدلتا. وحتى الصعيد شهد تحولاً اجتماعياً كبيراً بعد إفراط الداخلية في الاعتماد على ما عرف بالروابط (المطاريد والفلاتية وبعض المجرمين المسيطرين على الممرات والدروب الجبلية لتسهيل تجارة السلاح) لضرب الجماعات الإسلامية التي كانت نجحت في تشكيل نفسها من بعض الوجهاء وأبناء كبار العائلات في الصعيد.

المناطق الحديثة التي تبلورت بشكل كبير في الثمانينات والتسعينات من القرن الفائت عانت، مثلها مثل بقية المناطق وبقية مصر بشكل عام - بما فيها أبناء الطبقات الوسطى - من العنف الواسع للداخلية والإفراط في التعذيب والترويع وإرهاب الدولة. وبالتالي فلا يجب التعامل مع المناطق العشوائية وكأن وضعها كان استثنائياً، خصوصاً أن تطور الحيز المديني والعمراني في مصر تمثّل في العشوائيات.

شرعي وغير شرعي متداخلان

لقد كانت المعادلة في العالم الجديد أكثر تعقيداً، وكان حجم السكان والمساحات المطلوب إدارتها شاسعين. وأما الأمر الأكثر صعوبة فهو في المناطق العشوائية المتداخلة مع مناطق شعبية قديمة مثل إمبابا بالقاهرة أو أبو سلمان بالإسكندرية (المتداخلة مع باكوس وغبريال)، أو الحضرة الجديدة المتداخلة مع عالم وكالة الفاكهة والخضروات التاريخية بالإسكندرية، أو عين شمس المتداخلة مع مصر الجديدة. فالمساحة نفسها كانت محل نزاع أكثر مما هي عملية تجارة المخدرات. والمساحة هي من زاوية أولى شاسعة ويصعب السيطرة عليها، ومن زاوية ثانية ضيقة وتجلب المزيد من التناحر. فلو أفترضنا وجود 20 "دولاب" مخدرات (حيز للبيع) - وهو رقم يتداوله الأهالي من المنطقة - وخمسة تجار كبار في إمبابة حتى نهاية الثمانينات الفائتة، فمع توسع الهجرة الداخلية إلى إمبابة، ومع القضاء على ما تبقى من مناطق زراعية فيها وامتدادها حتى باشتين، بدأ الشباب الجديد يتناحرون فيما بينهم على نواصي الشوارع، والاقتتال لأسباب مختلفة منها التجارة نفسها، ومنها مشاحنات ذكورية، أو مناطقية (أي "لا تقوم بالبيع في شارعنا") ما جعل القيادات المحلية أو كبار التجار، سواء في المخدرات أو في غيرها، يفقدون القدرة على السيطرة، وخلْق نسق من الانضباط حول التجارة والبيع، على عكس المناطق القديمة مثل المنشية في الإسكندرية. ولا تختلف إمبابة كثيراً عن أبو سلمان بالإسكندرية في هذا الشأن. يقول البعض من مناطق مختلفة من الإسكندرية والقاهرة أنه كانت هناك محاولات للضبط ولكنها باءت بالفشل، فهذه المجموعات الجديدة لم ترَ جدوى من الانصياع لأحد، والحجم الداخلي للاستهلاك كبير، ودخول أنواع البرشام المختلفة قادت إلى مزيد من التوحش، وفي الوقت نفسه يستطيع الشاب الحصول على ما يقرب من 200 جنيه صافي للربح يومياً، أو وفي الوقت الحالي ما يقرب من 400 جنيه، أي ما يمكن أن يتحصل عليه الشاب في عشرة أيام من العمل الشاق في أعمال مختلفة وغير مستقرة أيضاً. فصار هناك استثمار في هذا الفائض البشري الكبير، وهي "أجساد" منفلتة بالنسبة للتجار والبلطجية الكبار والداخلية، وتتسم بالجرأة والشراسة، وفي الوقت نفسه هي منخفضة التكلفة.

قاد هذا الوضع إلى مزيد من التوتر الداخلي بين الشباب الموزِّعين والسكان. ويصل الصراع أحياناً إلى حد الاقتتال الدموي بين سكان الشارع والموزِّع الشاب وعصابته. وبالطبع كان هذا يجلب المزيد من التوتر الأمني، ليس فقط على صعيد مكافحة تجارة المخدرات، ولكن بسبب انفجار النزاعات العنيفة بشكل متكرر.

ووجود تجارة المخدرات أو البلطجة في المناطق العشوائية، لا يعني أن كل المنطقة متواطئة على هذا الوضع. فهناك أهالي يريدون إنهاء يومهم بسلام، حتى ولو كان بعضهم من مستهلكي المخدرات، فلا أحد يريد اقتتالاً وتناحراً تحت شرفة منزله أو تعريض أطفاله لخطر هذه الاشتباكات أو استدراج حضور الأمن الكثيف. كما أن العلاقة بين بيع المخدرات وتعاطيها من قبل الموزعين الشباب - وبالأخص أنواع البرشام ذات التأثيرات العنيفة مثل "الأبتريل" - يجعل هناك صعوبة في عمليات التفاوض، حيث تصير "اللغة" بحد ذاتها عائقاً... ليست اللغة بمنطق اللهجة أو الطريقة الشعبية، بل اللغة ذاتها كوسيط للتواصل.

ومع ذلك، نجحت بعض المناطق الجديدة في خلق أسواق أكثر استقراراً، وحتى البلطجة ووضع اليد على الأراضي تسببا بخلق اضطراب وصراع من ناحية، ونجحا في توفير استقرار من ناحية أخرى. فمثلما هو الحال في بقية مصر وقطاعاتها الاقتصادية المنظمة والمشروعة، فأفضل طرق للادخار والاستثمار هي العقارات. وقد نجحت بعض هذه الأموال في إعادة تعمير المناطق العشوائية بشكل عشوائي وغير قانوني، أو هو شبه قانوني، من خلال الاستثمار العقاري وفتح المحلات الجديدة، ما جعل بعض المناطق أكثر أمناً. وحسّن توسع شبكات الطرق من قدرة التواصل بين هذه المناطق ومناطق أخرى. ونجح بعض تجار المخدرات في خلق وضع مستقر في بعض المساحات داخل المناطق العشوائية الكبيرة. وكمثال، ففي التسعينات الماضية، نجح محمد الأحمر في السيطرة على جانب من أبو سلمان والحد من عنف عزبة "دنا"، وخلْق سوق مستقر نسبياً في حيز لا بأس به من منطقة كبيرة. كذلك نجح أصحاب رؤوس الأموال المتوسطة العاملون في التجارة الشرعية في إعادة تعمير هذه المناطق، وجعلها أكثر حيوية وأقل انعزالاً. وهناك أنماط من التجارة المختلطة، بين المشروع وغير المشروع، نجحت في خلق وضع جديد أكثر تطوراً من الناحية العمرانية والأمنية على المستوى اليومي، وجعلت هذه المناطق محل نظر للاستثمارات العقارية. ومع الوقت، نجح البعض في خلق علاقات ودية مع جيرانه، على غرار المنطق القديم القائم في تجارة المخدرات، وفي عدم افتعال المشاكل والمشاجرات، بل تحوّل بعضهم إلى مصادر للحماية والأمن، ونجحوا في خلق شبكات تضامن اجتماعي داخل مناطقهم. فروايات متعددة ما زالت تُسرد حول كيف قامت النساء بإلقاء مفارش المنزل على محمد الأحمر لكي يقوموا بستره حينما قامت الداخلية بالقبض عليه، والسير به عارياً داخل شارعه. لا يختلف الحال كثيراً في المطرية، ففي التحليل الأخير، فما نراه الآن من هذه المطرية الضخمة الشاسعة، بمناطقها المتنوعة التي أصبح بعضها مناطق للميسورين في داخلها، هي نتاج تداخل واسع بين تجارة المخدرات والآثار ووضع اليد على الأراضي والبناء المخالف الجديد، وبعض المصانع المحلية التي تم بناؤها بشكل مخالف وغير قانوني أو شبه قانوني في بعض جوانبه. فوائض هذه الثروات هو ما خلق جانباً كبيراً من الحيز المديني الذي نعرفه اليوم، وجعل هذه المناطق أكثر انفتاحاً على بقية المدينة، على عكس الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين.

السيسي والعشوائيات

من المبكر الحكم على إدارة السيسي لملف العشوائيات. وما يقوم به ليس جديداً بالكلية، ولكنه كان الوحيد الذي توفرت له الإمكانيات المادية للقمع والعنف الأمني المطلوب لممارسة عمليات الإخلاء القسري. لا يعني ذلك أن إدارة السيسي لملف العشوائيات قائمة فقط على العنف. فالدولة بالفعل تفاوضت مع عدد كبير من سكان ما يُعرف بـ"المناطق الخطرة"، والتي لها الأولوية في عملية النقل وإعادة الإعمار، مثل تل العقارب بالسيدة زينب، ونجحت في إخلائهم بمزيج من العنف والإقناع، وقامت بإعادتهم لمساكنهم مرة أخرى بعد إعادة بناء المنطقة من جديد. ولا تختلف استراتيجية السيسي وأهدافها عن المحاولات السابقة للحكومات المختلفة في عهد مبارك، وبالأخص حكومة نظيف ومجموعة رجال الأعمال التي التفّت حول جمال مبارك ومشروع التوريث.

هناك ثلاثة دوافع لنظام السيسي في تعامله مع العشوائيات:

1- الطمع في أراضي العشوائيات داخل المناطق الشعبية القديمة، حيث تشكل هذه الأراضي ثروات وكنزاً عقارياً واستثمارياً ضخماً. ويصاحب هذا تحوّل الدولة، وتحديداً الجيش، إلى مضارب في سوق الأراضي ومحتكر لها. ويجب النظر في هذا السياق إلى أن السلطة والمتمولين يحتاجون إلى التوسع والتمدد في المدن على حساب المناطق العشوائية وهو ما يعرف بـ"الإحلال الطبقي العمراني". تجلى ذلك بوضوح في الإسكندرية، في ردم ترعة المحمودية والتخلص من الكثير من العشوائيات على هذا الخط ونقل سكانها إلى مشروع بشاير الخير 1و2 و3.

2- إحكام القبضة والسيطرة الأمنية على الحيز المديني، وبالأخص في ظل هاجس تكرار "ثورة يناير" مرة أخرى.

3- وجود مناطق خطرة يجب إزالتها. ولكن المخيف فيما يقوم به السيسي ليس العنف أو القسوة فقط، ولا حتى الدخول في نزاعات عنيفة مع بعض السكان المستقرين في مناطق أصبح لها تاريخ طويل، مثل جزيرة الوراق. الخوف هو أن تصبح مشاريع مثل حي الأسمرات وبشائر الخير، محل إقامة دائمة لهؤلاء السكان، وعدم عودتهم لمناطقهم بعد إعادة إعمارها. فهذه الأحياء هي تجسيد لفكرة العزل والحصار الأمني لمجموعة من السكان، ووضعهم داخل مدن مسيجة، ووضع قوات دائمة من الداخلية والجيش لمراقبتهم على بوابات الدخول إليها والخروج منها. وقد قام بعض السكان بالفعل بالرجوع إلى مناطقهم مرة أخرى، وآخرون ما زالوا في انتظار النقل، سواء إلى هذه المشاريع أو العودة لمناطقهم.

لُبّ السؤال المطروح دائماً هو: ماذا نفعل بسكان العشوائيات؟ وأين سيسكن أغلب سكان الحيز المديني في مصر؟

محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________

1- HEGAZY, IBRAHIM (2016): Informal settlement upgrading policies in Egypt: towards improvement in the upgrading process, Journal of Urbanism, 2016 Vol. 9, No. 3, 254-275 , Routledge.
2- عز الدين، إبراهيم (2017): العشوائيات..مشكلات ملموسة وحلول منسية، المفوضية المصرية للحقوق والحريات
3- BAYAT, ASEF AND DENIS, ERIC (2000): Who is afraid of ashwaiyyat? Urban change and politics in Egypt, Environment &Urbanization Vol 12 No 2 October 2000.
4- سنجرمان، دايان وعمار، بول : القاهرة مدينة عالمية، المركز القومي للترجمة، 2015، القاهرة .
5- الماوي، رضا (2018): القاهرة: الحياة داخل العشوائيات، بي بي سي.

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...