من هم البلطجية؟

قابلت في منطقة شعبية تراثية أخرى شاباً فقد إحدى عينيه في جمعة الغضب (28 كانون الثاني/ يناير 2011). بعدها بَنا على جانب الطريق كشكاً خشبيّاً صغيراً بمساعدة من عائلته ليبيع فيه الحلويات والسجائر، وعندما جاء وقت شهادته في القضية المرفوعة على الدولة لفقده عينيه، جاءت حملة من قسم الشرطة وقبضوا عليه وساوموه لكيّ يتخلى عن المحضر، الذي يتهمهم فيه الشاب بإطلاق النّار عليه والتسبب بفقدان عينه، وإلا سيغلقون الكشك. وبالفعل بعد أيام، هُدم الكشك!
2016-05-19

أمنية خليل

معيدة واستاذة مساعدة في جامعة مدينة نيويورك CCNY، من مصر


شارك

"بيقولي هاتي بوسة.. يا مصيبتي ويا دي الحوسة.. الواد فاكرها كوسة.. اديلوه ولا إيه؟".

هذا مقطع من أغنية شعبية تسمَّى "المهرجانات". سمعت تلك الأغنية لأول مرة في إحدى المناطق الفقيرة والمُتهمة بالعشوائية، عندما قررت سيدات المنطقة أن يختبرن قدراتي في الرقص الشعبي والبلدي. أغلقوا باب البيت علينا كي نرقص جميعاً. بالتأكيد أصيبوا بالحسرة لقدراتي الضئيلة، وأخذت إحداهن وكانت في التاسعة عشرة من عمرها، تتمايل وترقص بمهارة وهي متمكّنة من كل جزء من جسدها. بعدها حكت لي أنه خلال تصوير أحد الأفلام في منطقتهم، أراد المنتج أن "يتزوجها" ثم أوضحت أنه كان يريد أن "يحظى بها في الفراش" ولكنها رفضت.
 
تذكرت كلمات الأغنية، وهذا الموقف، عندما رأيت السيدات والبنات "المؤيدات للسيسي" أو المدفوع لهم ولهن من قِبل السُلطة لأن يتظاهروا ويحتفلوا بعيد تحرير سيناء في 25 نيسان / ابريل بوجه التظاهرات المعارضة للنظام والمطالبة بوقف التنازل عن الجزيرتين المصريتين "صنافير وتيران" إلى المملكة العربية السعودية، ثم تواجدهم/ن أمام نقابة الصحافيين لسباب وضرب المعتصمين والمعتصمات لاعتراضهم على اقتحام قوات الأمن للنقابة والقبض على صحافيين كانا أعلنا عن اعتصامهما بالنقابة قبلها بيومين، اعتراضاً على مداهمة بيتهما وعلى تعسّفات قوات الأمن. تحول اعتصام نقابة الصحافيين إلى مظاهرة ضخمة مستمرة، وعقدت الجمعية العمومية للنقابة اجتماعاً طارئاً، حضره الآلاف من الصحافيين، توصلوا الى قرارات منها المطالبة بإقالة وزير الداخلية، والإفراج عن المعتقلين، بجانب استمرار الاعتصام..

كتب ميشيل فوكو عن مفهوم "Biopower" أو السياسة الحيوية ليشرح علاقة القوة بالجسد، وكيف يتأثر الجسد ويتحرك من خلال مفاهيم القوة المختلفة الصادرة من مؤسسات عدة. كتب فوكو عن انضباط الجسد والعقل وكيف أننا منذ نشأتنا وفي المؤسسات المختلفة مثل المدرسة والسجن والمستشفى نبدأ في تعلم الانضباط بكل قوانين المجتمع، بل ونحول تلك المنظومة لشيء مقبول وحاكم لكل تصرفات حياتنا. لم يتحدث فوكو عن الدولة على الأخص في منظومة القوة، ولكن آخرين مثل جورجيو أغامبين كتب أن الدولة هي المصدر السيادي للقوة وللتحكم في منظومة السياسة المرتبطة بالجسد وتحركاته في المجال المجتمعي.

وَجدت بنفسي، ولمست، كل تلك المعاني للسياسة الحيوية وتداخل القوى مع الجسد في عملي مع سكان المناطق الشعبية ومناطق بُنى الأهالي، حيث يتعامل السكان مع تلك السياسات المرتبطة بالقوة والجسد بشكل يومي، وتتشكل حركة جسدهم ومفاوضاتهم مع المجال العام داخل تلك المنظومة. حكت لي سيدة من إحدى المناطق أن النساء في المنطقة (وهي منهن) يضطررن لإذلال أنفسهن وأجسادهن لضباط الشرطة وأمنائها حتى يطلقوا سراح أولادهن أو أزواجهن من الحبس. وأثناء تواجدي في المنطقة، هجم عدد من العساكر والضباط على أحد البيوت وقبضوا على شخصين بدون أي تهم، وأثناء توقيفهما نظر الضابط بشكل وقح وذو مغزى إلى إحدى السيدات قائلاً: "ابقي تعالي بقه عشان ابنك يطلع".

من هنّ إذاً تلك السيدات اللاتي يقفن أمام النقابة للتشهير بالمعتصمين/ات أو الاعتداء عليهم/ن؟ ومن هن البنات اللاتي اشتركن في مظاهرات مؤيدة لنظام السيسي ولماذا يرقصن؟ ومن هم هؤلاء الرجال الذين اشتركوا في الأحداث نفسها؟ من هم الذين نطلق عليهم وعليهن لفظ "بلطجية" بدون أدنى تفكير.

تمّ التشهير بصور أولئك النساء ومقارنتها بصور المتظاهِرات بعبارات تبرز تناقضاً في التحليل الثوري للموقف. ما فائدة أن نضع صورة إحداهن بجانب صورة لإحدى الناشطات المعروفات، ونقول "هذه مصرهم وهذه مصرنا"؟ أو "هذه سيدة معها جيشها وأخرى سيدة فقدت جيشها"؟ جزء من استخدام صور السيدات لطالما كان عادة، عنصراً جاذباً للإعلام الرسمي وغير الرسمي والشعبي..

قابلت في منطقة شعبية تراثية أخرى شاباً فقد إحدى عينيه في جمعة الغضب (28 كانون الثاني/ يناير 2011). بعدها بَنا على جانب الطريق كشكاً خشبيّاً صغيراً بمساعدة من عائلته ليبيع فيه الحلويات والسجائر، وعندما جاء وقت شهادته في القضية المرفوعة على الدولة لفقده عينيه، جاءت حملة من قسم الشرطة وقبضوا عليه وساوموه لكيّ يتخلى عن المحضر، الذي يتهمهم فيه الشاب بإطلاق النّار عليه والتسبب بفقدان عينه، وإلا سيغلقون الكشك. وبالفعل بعد أيام، هُدم الكشك!

كتب صحافيون عديدون شهاداتهم عن بعض تلك السيدات اللاتي تواجدن أمام النقابة لضربهم، منها شهادة للصحافي إسلام أسامة على صفحته فيسبوك: "امبارح لفت أنظارنا كلنا واحدة ست باين عليها التعب والفقر والجهل من ملامحها وهدومها وأسلوبها. أوّل ما شفتها كان شكلها مش غريب عليّا بس ماكنتش متذكر شفتها فين، لحد ما لقيت زميل مشير صورة ليها فافتكرت. الست دي من سكان منطقه تل العقارب بالسيدة زينب، والمنطقه دي صدَر قرار من محافظة القاهرة بإزالتها، وتوفير سكن تاني للسكان في "مدينة 6 اكتوبر". إحنا بدورنا كصحافيين كنا في موقع الحدث عشان ننقل الحقيقة، وكان من السهل بكل بساطة أننا نصوّر الإزالات ونصور المسؤولين، وناخد منهم كلمتين حلوين وشكراً، بس الضمير والمهنية تحتّم علينا نقل وجهة النظر الأخرى. الصدفة البحتة خلتنا نقابل الست دي، واتكلّمت وقالت إنها ضد الإزالة واعترضت وشتمت المسؤولين. المهم يعني لفّت الأيام والست دي قررت تيجي قدام النقابة تشتم الصحافيين اللي وصّلوا صوتها. طبعاً حبايبنا وعدوها بقرشين عشان تيجي، أو يمكن وعدوها إنهم ما يزيلوش بيتها. الفقر والجهل يعملوا أكتر من كده!

لا أحاول هنا أن أظهر هؤلاء الرجال والنساء بصورة الضحية المجتمعية، أو بشكل رومانسي، لأنّ ما هو حقيقي هو أنّ ليس كل هؤلاء السكان يقبلون بالموقف الموصوف، ولا ينفي هذا قبول أشخاص من طبقات وشروط حياة أخرى ارتكاب الأفعال نفسها. ولكن ما دقة تهمة "البَلطَجة"؟ بعضهم قبض بعد الأموال، مثلما يقبضها ليذهب للانتخابات لتسمية مُرشح بعينه، وبعضهم مُهدَّد من قسم الشرطة التابع لمنطقة سكنه بالحبس أو بفتح قضايا ملفقة لهم ولهن، أو بحبس أزواجهن أو أولادهن. تلك الأسر التي توصف بأنّ "دائماً ظهرهم للحائط"، ولا يملكون أي قوة للدفاع عن أنفسهم، يبذلون قصارى جهدهم حتى لا يُجرح وجه أولادهم ويترك علامة، فيصبح شكله بلطجي أو بلطجية بنظر المجتمع. ألم نحتفي بهؤلاء حين تم حرق الأقسام في جمعة الغضب؟ ألم نمجّدهم حين ساعدونا في الصفوف الأولى في الاشتباكات مع قوات الأمن؟ ألا نستوعب أنّ النظام والدولة والمجتمع قد ساهم في جعلهم ما أصبحوا عليه.. سواء المنظومة المجتمعية أو الاقتصادية أو السياسية التي تخلق منهم كائنات مختلفة حسب الموقف وحسب المصلحة؟

قابلت العديد من الشباب والرجال الّذين اعترفوا بشكل شخصي بمشاركتهم في أحداث العنف المرتبطة بأحداث الثورة المختلفة، إنّ مشاركتهم جاءت بعد طلب من قسم الشرطة، أحياناً بتهديدات وأحياناً من أجل الأموال ويختلف الأجر والأوامر، فأحياناً بالقتل وأحياناً فقط بالضرب. وجميعهم كان يعلم بتأييدي للثورة ومشاركتي بها. رغم هذا قرروا مشاركتي تجربتهم وحكاياتهم، لم يتحدثوا أبداً عن أنهم ضحايا ولكن كانوا يفسرون وضعهم في المنظومة وعدم قدرتهم على الاختيار.

لا ينفي هذا التحليل مسؤولية كل فرد في المجتمع عن "خياراته"، ولا أنّ بعض تلك الأفعال هي جُرمٌ يُحاسب عليه القانون والمنظومة المجتمعية والأخلاقية. ولكنّ الأجدر أن نبدأ بمحاسبة تلك المنظومة القاتلة للحلم بالعِيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لكل أفراد المجتمع وفي مقدمتهم أبناء تلك الطبقات المهمّشة المحرومة من الكرامة الإنسانية..

 

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

معاداة الأخضر ومجزرة الأشجار

أمنية خليل 2024-07-11

ما يحدث هو نزع مباشر لأهلية المواطنة، بمعناها الأوسع. من أن المواطنين يمكنهم اختيار شيء، بل والتحكم بعض الشيء في حياتهم اليومية. نزع صفة التحكم، والقول لهم بكل الأشكال المباشرة...

القاهرة في عشر سنوات... هل نعرفها؟ (2/2)

أمنية خليل 2021-02-01

لم تكتفِ الأجندة العمرانية للسلطة بالمشاريع الكبرى والاستثمار في الصحراء، بل اشتملت "خطة التنمية المستدامة لمصر 2030" على مشاريعَ يتم فيها تحويل القاهرة إلى عاصمة تراثية وتجارية واستثمارية. وهذه التحولات...