قضيتُ طفولتي ومراهقتي، أستمع لحكايات أبي عن الإسكندرية التي عاصرها في طفولته، غير مصدق لما أسمع.. لم أعتد أبداً أن أتهم أبي بالكذب في أي شيء يرويه على مسامعي، لكني كنت معذوراً في شكوكي. كنت أستمع إلى أبي وهو يحكي عن ترعة "المحمودية"، التي كانت موضع رزق وخير وفير للصيادين، وممراً للسفن، تحمل البضائع من السودان، مروراً بقرى وبلدات صعيد مصر في مجرى النيل، ليتسابق تجار الإسكندرية إلى خطف بضائع الجنوب النفيسة. كنت أستمع إلى هذه الحكايات، وأذهب لأرى ترعة "المحمودية" التي لا تبعد سوى عشر دقائق عن منزلنا، فأطالع مصرفاً قذراً، تسبح في مجراه ببطء المياه الآسنة، داكنة اللون، وتتراكم على ضفتيه أكوام القمامة والمخلفات المتنوعة. مع الوقت، تسرَّبت إليَّ المعرفة بالإسكندرية التي كانت هنا يوماً ما، قبل سنين من قدومي للدنيا، لأحيا على أطلال "مدينة الرب"، ابناً لإسكندرية جديدة لا تعترف بها كتابات "كفافيس".
حيث وُلدت الكوزموبوليتانية
في النّصف الأوّل من القرن العشرين، في الإسكندرية، تعايش المصريون ذوو المعتقدات الدينية المتباينة، جنبا إلى جنب مع الأجانب الذين وفدوا من مختلف دول أوروبا، وبخاصة إيطاليا واليونان.. امتزج الجميع، على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، فكان مولد مصطلح الكوزموبوليتانية، الذي يعني العالمية أو الكونية. استحقت الإسكندرية ذلك اللقب بعدما قدمت للعالم (يوماً ما) نموذجاً مدهشاً للتعايش بين ذوي الهويات المختلفة. فكانت حاضنة حلم الإنسانية الأبدي الذي تمثَّل في أن يحيا البشر معاً دون أن يؤدي تباين الهويات إلى قيام التنازع والاحتراب المعتاد في مثل هذه الأوضاع. إلا أن الخطاب الاعلامي القومي والشعبوي، لم يكن يُظهر الترحيب بوجود الأجانب في مصر، حيث لاحقتهم ظنون العمالة للخارج، وبخاصة اليهود منهم. وقد قضى العدوان الثلاثي على من بقي منهم، فباعوا أملاكهم وغادروا البلاد.
تغيَّرت معظم أنشطة المحلات التي كان يديرها الأجانب، وبخاصة الملاهي والبارات التي كانت من معالم الإسكندرية البارزة، بعدما صعد إلى السطح وسيطر خطاب ديني محافظ، وخاصة في حقبة نهاية السبعينيات وتنامي الظاهرة الإسلامية، ومنافسة الدولة للجماعات الإسلامية في تشددها وغلوها، ابتغاء حيازة رضا الناس ولعباً على عصب التديُّن الشديد الحساسية.
برلمان 2011.. مفاجأة متوقّعة
في الإسكندرية، جاءت نتيجة انتخابات البرلمان التي تم إجراؤها في أواخر 2011، بعد أشهر من اندلاع ثورة 25 يناير، مفاجئة للعديدين، حيث اكتسح التيار الديني، خاصة جناحه السلفي المتمثل في "حزب النور"، أغلب مقاعد المحافظة التي تم طرحها للتنافس الانتخابي عبر صناديق الاقتراع، وسيطر على أغلبيتها.. بدا للجميع وكأن مدينة الرب، منارة الحضارة والتنوير، قد اختارت من يريدون دفع المجتمع بأكمله إلى الوراء، لتضعهم في سدة البرلمان، حيث يمكنهم إعادة صياغة القوانين والتشريعات تبعاً لما يناسب رؤيتهم المتشددة للإسلام كأيديولوجيا حاكمة. وإذا كانت النتيجة مفاجأة للمتابعين والخبراء، وهم الذين احتفظوا في مخيلتهم بصورة نمطية للإسكندرية تنتمي لعصور مضت وانتهت، إلا أن أبناء الإسكندرية، الساكنين فيها، والباحثين المتفاعلين مع الواقع السكندري المعاصر، نظروا لما يحدث على أنه النتيجة الطبيعية للعديد من عوامل التغيير الثقافي والاجتماعي والاقتصادي التي تعرضت لها المدينة.
المكتبة.. استمرار لصناعة الأكاذيب
في 16 تشرين الاول/أكتوبر 2002، أعادت الدولة افتتاح مكتبة الإسكندرية، في محاكاة للمكتبة القديمة التي ضمتها المدينة العتيقة قبل مئات السنين. كان حفل الافتتاح ضخما بحق، يليق برغبة الدولة لتصدير حدث افتتاح المكتبة في صورتها الجديدة، باعتباره الدليل الحي على رغبتها في إعادة الإسكندرية منارةً للتنوير ونشر الثقافة في الشرق الأوسط بأكمله. تقول الإحصائيات إن عدد زائري المكتبة، في الفترة الحالية، يتراوح ما بين 200 - 300 زائر يومياً، وذلك بعد أن تم تقليص عدد ساعات عملها بشكل حاد، بينما كان يقارب 4000 زائر قبل اندلاع ثورة يناير. ليست المشكلة الرئيسية في إحصائيات الزائرين وحدها، ولا في الدور المحدود الذي تلعبه المكتبة، مقارنة بالدعاية الضخمة التي صاحبت إعادة افتتاحها، وما تم إنفاقه (220 مليون دولار) من أجل إتمام المشروع في شكله الحالي.. المشكلة تبدو جلية عندما تدخل إلى قاعة المطالعة الرئيسية بالمكتبة، لتجدها شبه ممتلئة بالشباب الجامعي يجلسون في الغالب أزواجاً، شاب يجاور فتاة. عندما تقترب، وتنظر لما يطالعونه، لن تجدها كتباً، بل ملخصات ومذكرات دراسية، جاؤوا بها الى هنا ليستذكروا دروسهم في هدوء، وينالوا بعض لمسات الأيدي الخجلة، بعيداً عن زحام الشوارع في الخارج وأعين الفضوليين.
حينها، يبدو المشهد كاريكاتورياً تماماً، حيث يجلس ممثلو جيل شباب الإسكندرية، وهم في معظمهم من أبناء الهوامش التي أسماها سادة الدولة "عشوائيات"، داخل الصرح الثقافي الكبير، غير مبالين به، كأنهم يعتبرونه مجرد مكان مغلق، يصلح للاستذكار، وتبادُّل بعض كلمات الحب بصوت منخفض.
هوامش المدينة: ولكنها تدور!
أسكنُ في حي شعبي، واحد من هذه الأحياء التي نشأتْ في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، بعد أن فاضت أحياء المدينة القديمة بسكانها، وبمن هاجروا إليها من الريف وصعيد مصر، فخرجوا إلى الأطراف يشترون الأراضي الزراعية من فلاحيها. وفي غضون أقل من عام، تكون الأرض قد تعرضت للتبوير، الذي يؤهلها لأن تصبح جاهزة لأن تُبنى عليها كتلة خرسانية، عمارة بلا ترخيص، من أدوار عدة.. وكل ذلك يتم تحت أنف الدولة وبعلمها، دون أدنى رغبة في التدخُّل، بالمنع أو إخضاع ما يجري للقانون، رغم أن معظم بيوت تلك المناطق آيلة للسقوط، بدرجات متفاوتة الخطورة، حيث لا يوجد رقيب أو معايير تحكم أسس البناء. تصعد العمارات، ويسكنها البشر، ويبقون فيها لسنوات مهدَّدين بخطر سقوطها، فيصبحون حينها بين مطرقة التشرُّد في العراء، وسندان الموت تحت الأنقاض، بينما الدولة لا تبدو معنية بإنقاذ هذا الوضع.
تعددت العشوائيات الجديدة وتمددت وصارت واقعاً يفرض نفسه. واليوم، تشهد المدينة تنوعا من صنف جديد بعد أن صارت التركيبة السكانية والاجتماعية للمدينة خارج كل إطار أو حصر دقيق، يمكن من خلاله إعادة التخطيط العمراني أو الاجتماعي، أو حتى السماح بدراسة الواقع بجدية. غياب التخطيط الدولتي ــ من أي نوع وفي أي اتجاه ــ دفع بالمدينة إلى حالة عاصفة من العشوائية، تضربها وكأنها السرطان.
في مشهد الانتخابات، دائما، تلعب العشوائيات الجديدة الدور الأبرز لاحتوائها على الكثافة السكانية الأعلى في المدينة. تنساق كتل الفقراء لتمنح أصواتها لمن يملك المال أو المطرقة، من يملك القدرة على الترهيب أو الترغيب، أو كليهما في بعض الأحيان.
كل يوم، أمرُ بين البيوت والعمارات الجديدة، أتأمل في الوجوه المرهقة المكدودة لساكنيها، وأفكر في ذلك الاسم الذي وصمونا به، نحن سكانها: "العشوائيات"! وكأننا اخترنا ذلك بأنفسنا، أو رفضنا تدخُّل الدولة لإصلاح أوضاعنا. نحن سكان عشوائيات الإسكندرية، أبناء شرعيون لإسكندرية جديدة، لا تعترف بها بطاقات البريد، وصور التلفاز الملونة المبهرجة، ولا كتابات المثقفين الذين ظلوا أسرى الكتب القديمة، بعد أن أصابهم رهاب شديد يمنعهم من النزول إلى أرض الواقع والكتابة عن هذه الإسكندرية الناشئة، الصاعدة بقوة كاسحة. نحن أبناء الإسكندرية من جيلي، مواليد تسعينيات القرن العشرين، لا نعرف عن "الكوزموبوليتانية" شيئًا سوى من حكايات الآباء والأجداد، وسطور الكتب، وبعض الصور الباهتة المخزنة على الانترنت.
وبينما يصر أهل السلطة على تصدير صورة سياحية للإسكندرية، تتمثل في بعض اللقطات لكورنيش البحر، والمكتبة، وكوبري "ستانلي" بأضوائه اللامعة.. ترزح هوامش المدينة، التي صارت تمثل الكتلة السكانية الأكثر كثافة، وذات المساحة الأكبر، تحت وطأة التهميش والإقصاء المتعمد عن الصورة. إقصاء لن يغير من الحقيقة في شيء، إلا أنه يدفعنا إلى أن نردد معترضين، على طريقة جاليليو: "ولكنها تدور"!