أعاد الجنرالان السودانيان، شمس الدين كباشي وياسر العطا، المشهد الكلامي ذاته، الذي سبق انفجار الخرطوم في 15 نيسان/ أبريل 2023، حينما اشتعلت حرب كلامية طاحنة بين قادة الجيش وقائدي "قوات الدعم السريع" محمد حمدان وعبد الرحيم دقلو، حول دمج "قوات الدعم السريع" في الجيش.وأظهر جنرالا الجيش ــ كباشي والعطا ــ خلال الشهر المنصرم اختلافاً بيّناً في الموقف من التفاوض مع "قوات الدعم السريع"، وهو يبدو بوضوح أنه انعكاس لتوجهيْن داخل الجيش.
المنامة.. تفجر الخلافات
في كانون الثاني/ يناير الفائت، خاض الفريق شمس الدين كباشي مفاوضات سرية مع قائد ثاني "قوات الدعم السريع"، عبد الرحيم دقلو، في العاصمة البحرينية، المنامة، برعاية خمسة أجهزة مخابرات إقليمية ودولية. واتفقا على عدد من النقاط، لكن قبل التوقيع على ما تم الاتفاق عليه، سُرِّبت المعلومات، لتُظهِر رفضاً عنيفاً بين مناصري الجيش وبعض قادته الذين يتبنون الحسم العسكري. وفي ظل هذا الضغط الكثيف، اضطر كباشي إلى التملُّص ضمنياً من اتفاق المنامة، في خطاب له أمام جنود الجيش في ولاية النيل الأبيض. ومنذ ذاك الحين لم ينشط ملف التفاوض، الذي ترعاه المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
لكن كباشي عاد من جديد، وقدم خطاباً أمام جنوده، في مدينة القضارف شرق السودان، في آذار/ مارس 2024، حاول الموازنة فيه بين التفاوض والحسم العسكري.
السودان: مخاوف متصاعدة من الانحلال الشامل
14-01-2024
الذي لا شك فيه أن كباشي، وهو نائب القائد العام للجيش، لا يمكن أن يتخذ قراراً بلقاء قادة "قوات الدعم السريع" من دون موافقة "البرهان"، الذي ظل خلال الفترة الأخيرة يُظهر الموقف ونقيضه في آن واحد. فالرجل استمرأ إرباك الجميع من دون أن يُمسَك عليه موقفٌ واضح.
ويحاول البرهان اللعب على كل الحبال، لضمان بقائه على سدة السلطة، فهو لا يستطيع فك الارتباط مع الحركة الإسلامية - النظام السابق - وفي الوقت ذاته، لا يريد التحالف معها علناً، على الرغم من أن سيطرة الحركة الإسلامية على قيادة الجيش لم تعد محل جدال.
خلال الشهر المنصرم، أظهر جنرالا الجيش في السودان، شمس الدين كباشي، وهو نائب القائد العام للجيش، وياسر العطا، مساعد القائد العام، اختلافاً بيّناً في الموقف من التفاوض مع "قوات الدعم السريع"، وهو ما يبدو بوضوح كانعكاس لتوجهيْن داخل الجيش.
أما الفريق ياسر العطا، مساعد القائد العام، فيعبِّر دوماً بصراحة، عن خط متشدد، ويتمسك باستمرار العمليات العسكرية، متبنياً خطاباً تصعيدياً حاد اللهجة، ويغلق أي باب للتفاوض متوعداً بالحسم العسكري، لكن من دون تغيير يُذكر في المشهد الكلي للعمليات، على الرغم من أن وضع الجيش في مدينة أم درمان التي يرأس عطا إدارة عملياتها، أفضل بكثير من المناطق الأخرى، التي لم يحرز فيها الجيش أي تقدم. وتشير بعض المعلومات إلى أن خلافات برزت خلال شهور الحرب الأولى بين العطا والبرهان حول إدارة العمليات العسكرية.
ويُشار إلى أن العطا هو العضو الوحيد في مجلس السيادة الذي لم يغادر أرض المعركة. فقد ظل الرجل في أم درمان يدير العمليات الحربية وسط الجنود، فيما غادر البرهان وكباشي مقر القيادة العامة في عمليتين نوعيتين في آب/ أغسطس، تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وهذا ربما راكم له رصيداً جماهيرياً وسط الضباط والجنود.
وفي إطار التنافس السياسي، قد يحاول العطا أيضاً توظيف الاعتقاد الواسع وسط ضباط وجنود الجيش، وهو أن القيادة تُبطئ العمليات العسكرية عمداً، لصالح الاحتفاظ بوجود "قوات الدعم السريع". وهو ليس مجرد اعتقاد، بل تحوّل إلى فعل، حينما اعتقلت استخبارات الجيش، في شباط/ فبراير الماضي، عدداً من الضباط في قاعدة "وادي سيدنا" العسكرية في أم درمان، كانوا يخططون لاعتقال قيادات الجيش بالتزامن في الخرطوم وبورتسودان التي أصبحت مقراً لحكومة الخرطوم.
العطا وكباشي أصحاب مواقف متطابقة ضد "قوات الدعم السريع"، منذ سقوط البشير في نيسان/ أبريل 2019، وهما من قيادات الجيش التي تحمل مظان تصل حد اليقين أن قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، أداة طيّعة في يد قائد "قوات الدعم السريع". غير أن موقفي الجنرالين تباينا بعد الحرب: كباشي يعبِّر عن نظرة واقعية مدركة لوضع الجيش الحقيقي على الأرض، وهي الحقيقة التي لا يرغب في سماعها الجميع. ويُشار إلى أن كباشي تبنى الخط التفاوضي بعد ثلاثة أشهر من الحرب، وحينها كان وضع الجيش أفضل مما هو عليه الآن. وفعلياً فإن وضع الجيش أصبح بيِّناً للجميع، خاصة بعد سيطرة "قوات الدعم السريع"، على ولاية الجزيرة في كانون الأول/ ديسمبر 2023، بينما العطا يتطلع إلى صورة مثالية، صحيح أنه قد يلتف حولها الجميع وتعبر عن أحلامهم، لكنها تبدو غير واقعية في ظل المعطيات الراهنة.
عام بالتمام…فظاعات الحرب تتوسع
مع مغيب شمس الخامس عشر من نيسان/ إبريل، تكون الحرب في السودان قد طوت عاماً كاملاً من دون تغيير يُذكر لصالح الجيش، باستثناء استرداده لمباني الإذاعة والتلفزيون، في مدينة أم درمان، في آذار/ مارس.
في المقابل فإن "قوات الدعم السريع"، لم تتمكن من إحراز تقدم بعد سيطرتها على ولاية الجزيرة، وحاولت مراراً التمدد جنوب وشرق الجزيرة، وباءت محاولاتها بالفشل، كما خاضت عدة عمليات لإسقاط مدينة "بابنوسة" في إقليم كردفان، وخاضت معارك في مدينة أم درمان، حول سلاح المهندسين التابع للجيش، لكنها أيضاً لم تتمكن من تحقيق تقدم لها. وكأن الطرفين وصلا إلى نهاية مطافهما في العمليات العسكرية.
خاض الفريق شمس الدين كباشي مفاوضات سرية مع قائد ثاني "قوات الدعم السريع"، عبد الرحيم دقلو، في العاصمة البحرينية، المنامة، برعاية خمسة أجهزة مخابرات إقليمية ودولية. واتفقا على عدد من النقاط، لكن قبل التوقيع على ما تم الاتفاق عليه، سُرِّبت المعلومات، لتُظهِر رفضاً عنيفاً بين مناصري الجيش وبعض قادته الذين يتبنون الحسم العسكري
يُعبّر الفريق ياسر العطا، دوماً وبصراحة، عن خط متشدد، ويتمسك باستمرار العمليات العسكرية، متبنياً خطاباً تصعيدياً حاد اللهجة، ويغلق أي باب للتفاوض متوعداً بالحسم العسكري، لكن من دون تغيير يُذكر في المشهد الكلي للعمليات، على الرغم من أن وضع الجيش في مدينة أم درمان التي يرأس عطا إدارة عملياتها، أفضل بكثير من المناطق الأخرى، التي لم يحرز فيها الجيش أي تقدم.
ومع ذلك، تتنامى المخاوف من تمدد الحرب إلى مناطق جديدة، حيث لم تعد المدن الآمنة آمنة، مع دخول الحرب فصلاً جديداً، تسيطر عليه المسيرات الانتحارية بعيدة المدى، مجهولة المصدر، مثلما حدث في مدينة "عطبرة" شمال الخرطوم، ومدينة "القضارف" شرق السودان، خلال أسبوع واحد من هذا الشهر الجاري، وهي مدن لا تشهد أي اشتباكات.
الحرب تتمدد والسودانيون يبحثون عن النجاة!
26-12-2023
وعلى الرغم من حال التصعيد العسكري التي تشهدها عدة مناطق، إلا أن هذا التصعيد لم يتحول إلى مكاسب أو خسائر تُذكر. لكن "قوات الدعم السريع" لا تزال تتمدد داخل قرى ولاية الجزيرة، وعلى الرغم من إعلان الجيش عن انطلاق عمليات عسكرية بطيئة، من عدة محاور، لاستعادة السيطرة على الولاية الزراعية الواقعة وسط البلاد، فلا تزال "قوات الدعم السريع" تستبيح القرى استباحة كاملة، وتحاول الهجوم على محاور الجيش حول الولاية.
نداءات حميدتي… بلا استجابة
مؤخراً بدأ قائد "قوات الدعم السريع" محمد حمدان دقلو، المعروف أيضاً بـ "حميدتي"، الإقرار ضمنياً بفظائع قواته في ولاية الجزيرة، التي لا تزال تتعرض لشلالات من الدماء، لكن الملفت والمثير للقلق أن هذه القوات أظهرت خروجاً عن سيطرة قيادتها.
ففي الأثناء التي يخاطب فيها حميدتي هذه القوات، ويوصيها بالحفاظ على المواطن، تَردّ هذه العناصر بمضاعفة الأفعال الإجرامية داخل قرى الجزيرة، إذ لم تتوقف الجرائم هناك منذ كانون الأول/ ديسمبر 2023. وتتناقل بعض الدوائر السياسية أن قائد "قوات الدعم السريع" أبلغ بعض الغربيين بفقدانه السيطرة على قواته في ولاية الجزيرة.
وقد رصدت "لجان مقاومة" في الجزيرة اشتباكات دامية بين فصيلين يتبعان "قوات الدعم السريع"، وسبق أن أصدرت "قوات الدعم السريع" بياناً رسمياً، قالت فيه إن قواتها اشتبكت مع "متفلتين"، وتبادلت النيران معهم، وقتلت حوالي عشرين عنصراً. وروى بعض شهود العيان في بعض القرى اقتحام الشرطة العسكرية التابعة للدعم السريع، لبعض المناطق واشتباكها مع منسوبي الدعم السريع.
ومما يؤكد فقدان السيطرة - على الأقل في ولاية الجزيرة - أن خطابات حميدتي، التي يتحدث فيها عن ضرورة رعاية وحفظ أمن المواطنين، وعدم توفيره الحماية لأي "متفلت"، لا تجد أدنى استجابة إن لم يكن الرد بمزيد من الفظائع.
وفقدان السيطرة على مثل هذه المجموعات أمرٌ واردٌ إلى درجة كبيرة، لأنها تنطلق من عقيدة قتالية غنائمية، فهي غير معنية بتقديم صورة حسنة للمواطنين، هي معنية بشكل رئيسي بتحقيق مكاسب عينية من المواطنين، نهباً وسلباً وقتلاً، ومن يقاوم ذلك الموت مصيره. بل أن الموت كان مصير حتى من لم يقاوم.
يحاول القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، اللعب على كل الحبال، لضمان بقائه على سدة السلطة، فهو لا يستطيع فك الارتباط مع الحركة الإسلامية - النظام السابق - وفي الوقت ذاته، لا يريد التحالف معها علناً، على الرغم من أن سيطرة الحركة الإسلامية على قيادة الجيش لم تعد محل جدال.
مؤخراً بدأ قائد "قوات الدعم السريع" محمد حمدان دقلو، الإقرار ضمنياً بفظائع قواته في ولاية الجزيرة. وقد أظهرت هذه القوات خروجاً عن سيطرة قيادتها. وفقدان السيطرة على هذه المجموعات أمرٌ واردٌ إلى درجة كبيرة، لأنها تنطلق من عقيدة قتالية غنائمية، غير معنية بتقديم صورة حسنة للمواطنين، بل وبشكل رئيسي بتحقيق مكاسب، نهباً وقتلاً، ومن يقاوم ذلك مصيره الموت.
ولأن قيادة "قوات الدعم السريع"، اعتمدت على فكرة الاستنفار لحشد مزيد من المقاتلين مع تطاول شهور الحرب، فإن المؤكد أنها لن تمضي في محاسبة هؤلاء المقاتلين، ولن تدخل معهم في مواجهات حاسمة، لأنها ستفقدهم في المعارك.
ويبقى أن المسألة الحاسمة لإنهاء هذا الخراب، والحفاظ على ما تبقى من تماسك هو أن يعزز الجيش وضعه في ميدان المعارك، وحينما تبدأ أية عملية تفاوض يكون في موقع قوة. لكن من غير المعلوم كم يحتاج الجيش لتعزيز هذا الوضع، وكيف؟ حقاً غير معلوم!