نهاية الصهيونية، بداية عالم جديد

تحرير فلسطين، كل فلسطين، هي النتيجة الحتمية لهذه الحرب الرابعة. لن يكون التعايش ممكناً بعد هذه المجزرة الجماعية في قطاع غزة وفي ظل نظام الأبارتهايد، ولن تستطيع دولة فلسطينية حرة اقتسام فلسطين مع دولة عدوانية توسعية. "طوفان الأقصى" هو أول انتصار عسكري فلسطيني منذ 1948 .
يزن أبو سلامة - فلسطين

أنيس بلافريج*

يهدف المشروع الأمريكي "للشرق الأوسط الجديد"، الذي خطط له المحافظون الجدد[1] الأمريكيون منذ نهاية التسعينيات، إلى تعزيز "إسرائيل الكبرى" من النهر إلى البحر، وجعلها قوة مهيمنة، قادرة على ضمان التفوق الأمريكي الدائم في المنطقة.

تحت قيادة المحافظين الجدد الذين وصلوا إلى المناصب الرئيسية في الإدارة الفيدرالية في نهاية التسعينيات، أدارت الولايات المتحدة ظهرها لاتفاقيات أوسلو، وانتهجت سياسة تشجيع وتمويل الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية، مما أدى إلى جعل إنشاء دولة فلسطينية مستحيلاً. كما شجعت على هجرة آلاف المستوطنين الجدد، بمن فيهم المسيحيون الإنجيليين، حلفاء المحافظين الجدد.

وفي عام 2005، حين أمر شارون بسحب المستوطنات الأربع التي أقيمت في غزة والتي كانت تتعرض لهجوم المقاومة الفلسطينية، أكد دوف فايسغلاس، رئيس مكتب شارون آنذاك، في مقابلة مع صحيفة هآرتس اليومية، أن إخلاء مستوطنات غزة كان يهدف وبموافقة واشنطن، إلى منع إقامة دولة فلسطينية إلى أجل غير مسمى.

إن تتويج إنجاز المشروع الإسرائيلي الأميركي لـ"الشرق الأوسط الجديد" هو "صفقة القرن" التي تحمل عنوان "حلف أبرهام". فحلف أبرهام يقوم على فصل قضية فلسطين عن هموم العالم العربي، ودفن مبدأ "السلام مقابل الأراضي المحتلة عام 1967" الذي أقرته الدول العربية بالإجماع عام 2002 في قمة بيروت.

من الواضح أن الدول العربية المنخرطة في هذا الحلف تعطي تفويضاً مطلقاً "لإسرائيل" للمضي قدماً في مشروعها لضم الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية.

وقد شهدت السنوات الأخيرة تكالب المستوطنين على أملاك الفلسطينيين، وسرقة أراضيهم، وطردهم من منازلهم في القدس الشرقية والضفة الغربية، وشن هجمات على القرى وإحراق المنازل والسيارات، كما استباح المستوطنون باحة المسجد الأقصى مرات عديدة ومارسوا طقوسهم فيها بحماية جيش الاحتلال.

في عام 2005، حين أمر شارون بسحب المستوطنات الأربع التي أقيمت في غزة والتي كانت تتعرض لهجوم المقاومة الفلسطينية، أكد دوف فايسغلاس، رئيس مكتب شارون آنذاك، في مقابلة مع صحيفة هآرتس اليومية، أن إخلاء مستوطنات غزة كان يهدف وبموافقة واشنطن، إلى منع إقامة دولة فلسطينية إلى أجل غير مسمى. 

وفي هذا السياق، وقعت عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. كانت مفاجِئة ومحدودة المدة - استمرت 5 ساعات فقط[2] وشارك فيها حوالي 2000 مقاوم استطاعوا التسلل وراء الحائط العازل والأسلاك الشائكة والأجهزة الالكترونية للحراسة، تحت غلاف صاروخي مكثف. وقد استهدفت القاعدة العسكرية المكلفة بحصار غزة، واعتقلت قائدها العقيد عساف حمامي وعشرات من كبار الضباط والجنود. وأدى القتال إلى مقتل بضع مئات من الجنود الصهاينة.

كما استهدفت قاعدة المخابرات العسكرية التي تم احتلالها، وشحن الخوادم المعلوماتية ونقل ضباط المخابرات إلى غزة. وسقطت في أيدي المقاومة معلومات قيمة، بما في ذلك قوائم عملاء الصهاينة في غزة وغيرها، ومعلومات عسكرية ذات أهمية قصوى. حدث على إثر تلك العملية زلزالٌ حقيقيٌ للدولة الصهيونية واختراق أمني لم يسبق له مثيل، زعزع موازين القوى، وأطاح بهيبة جيش الاحتلال "الذي لا يُقهر"، ووضع القضية الفلسطينية في مقدمة الاهتمامات العربية والإقليمية، وأعطى ضربة قاسية للمشروع الأمريكي "للشرق الأوسط الجديد".

"طوفان الأقصى" هو أول انتصار عسكري فلسطيني منذ 1948

... ومن هنا يأتي الغضب الأعمى الأميركي والإسرائيلي ورغبتهما في إخفاء هزيمتهما المشتركة من خلال دعايتهما السخيفة الشبيهة بالدعاية النازية [3] حول سردية "أحداث 7 أكتوبر"، ومن خلال مهاجمة سكان غزة بقصف مكثف[4] ليلاً ونهاراً، بالطيران الحربي والقنابل وكلاهما أمريكيان. وقد تسبب هذا القصف إلى غاية 3 كانون الأول /ديسمبر، في مقتل 16 ألف فلسطينياً، بينهم 8500 طفل، و67 صحافياً، و250 طبيباً وممرضاً، و50 حقوقياً ومحامياً، ووقوع 38 ألف جريح بينهم ألف طفل مبتور الأطراف وهناك 1.750.000 شخص مهجر قسرياً ومشرد، و 278 ألف منزل متضرر، بما في ذلك 59 ألف منزل مدمر بالكامل.

فما الذي يبحث عنه نتنياهو؟

في غالب الأمر، المنتصر في المعركة هو الذي يملي شروطه، وقد أعلنت المقاومة ضرورة تبييض سجون الاحتلال مقابل الرهائن ورفع الحصار المفروض على القطاع منذ 16 سنة.

لكن هذا العدو فاشي متكبر، ومدعوم من طرف الامبريالية العالمية، فاختار الهروب إلى الأمام والانتقام من الأبرياء، والهدف من ذلك هو الدفع إلى نكبة جديدة فيحول العدو هزيمته إلى إنجاز استراتيجي. لقد تأسست الدولة الصهيونية بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي في حق الشعب الفلسطيني[5].

 وهذا العدوان الجديد ما هو إلا استمرار لهذه السياسة، قد تحاول إسرائيل من خلاله، بالقنابل والإرهاب الدموي والنفسي، دفع الفلسطينيين نحو الجنوب والحدود مع سيناء، لنقلهم قسرياً إلى مصر، وجعل غزة غير صالحة للسكن. لكن الفلسطينيين مستعدون للشهادة بدلاً من التعرض إلى نكبة جديدة.

تتويج إنجاز المشروع الإسرائيلي الأميركي لـ"الشرق الأوسط الجديد" هو "صفقة القرن" التي تحمل عنوان "حلف أبرهام". فحلف أبرهام يقوم على فصل قضية فلسطين عن هموم العالم العربي، ودفن مبدأ "السلام مقابل الأراضي المحتلة عام 1967" الذي أقرته الدول العربية بالإجماع عام 2002 في قمة بيروت.

هزيمة إسرائيل مؤكدة، و"الإنجاز" الوحيد لهذا العدوان هو قتل الأبرياء، أطفالاً وأمهات وآباء وأجداداً، الذين هم أنفسهم ضحايا نكبة عام 1948.

وبينما يمد بايدن إسرائيل بآلاف الاطنان من القنابل المحرمة دولياً لسحق أهل غزة ويستبيح دماء الأبرياء، يتحدث عن "اليوم التالي" "وحل الدولتين" الذي كان أحد مخربيه الرئيسيين[6] .

إنها في الواقع بداية الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة بعد حروب 1948 و1967 و1973.

هذه المرة، ليست حرباً بين الجيوش العربية النظامية ضد "إسرائيل"، بل مواجهة بين حركات المقاومة الشعبية - الفلسطينية واللبنانية والعراقية واليمنية - ضد الجيش الصهيوني.

وعلى الرغم من الدمار الهائل الذي يلحقه العدوان في القطاع وعدد الشهداء والمصابين الذي يزداد على مدار الساعة، فإن الجيش الصهيوني المتوغل في غزة فاشل ولا يستطيع بلوغ أهدافه المعلنة وهي تحرير الرهائن والقضاء على المقاومة المسلحة، بل يتكبد خسائر كبيرة من الجنود والآليات لا يصرّح إلا بالقليل منها.

هل هذه الخسائر سترغمه على البحث عن هدنة جديدة ثم العودة إلى المفاوضات والاستمرار في وقف إطلاق النار إلى أن يسقط نتانياهو من منصبه، أم سيغامر مرة أخرى بالهروب إلى الأمام ويمدد العدوان أسابيع أخرى؟ حينئذ، من المرجح اتساع المواجهة واشتعال حرب إقليمية لطالما عمل من أجلها نتانياهو والمحافظين الجدد.

من الواضح أن الدول العربية المنخرطة في هذا الحلف تعطي تفويضاً مطلقاً لإسرائيل للمضي قدماً في مشروعها لضم الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية. 

العوامل الدولية كلها لصالح المقاومة الفلسطينية، فالحركات الشعبية العالمية ضد "إسرائيل" تتصاعد، وحركة مقاطعة البضائع الأمريكية في العالم العربي والإسلامي تكبِّد الاقتصاد الأمريكي خسائر فادحة والمقاطعة العالمية لإسرائيل اتسعت رقعتها وباتت تعني التضامن مع ضحايا العدوان الصهيوني، ومعسكر الحق والقيم الأخلاقية، مع الشعب الفلسطيني والقوى والشعوب المساندة له، وأُسقاط القناع عن ازدواجية المعايير وعنصرية الحكام الغربيين.

وفي كل الأحوال فإن تحرير فلسطين كل فلسطين هي النتيجة الحتمية لهذه الحرب الرابعة. لن يكون التعايش ممكناً بعد هذه المجزرة الجماعية في قطاع غزة وتحت نظام الأبارتهايد، ولن تستطيع دولة فلسطينية حرة اقتسام فلسطين مع دولة عدوانية توسعية. فمن الآن وصاعداً، لن تكون المفاوضات إلا حول الدولة الواحدة لكل مواطنيها بمن فيهم الذين طُردوا من وطنهم منذ 1948، تحت نظام المساواة دون اعتبار الفوارق الإثنية والدينية.. وتبقى القدس العاصمة الروحية للديانات الثلاث.

إن قضية فلسطين تعود إلى مركز الصراع العالمي في عالم ما بعد القطب الوحيد الأمريكي.

فالصين وروسيا، بعد انتصارهما على التحالف الذي يساند حالياً حرب الإبادة في غزة، يشكلان قوة الضغط الداعمة للمقاومة والمعارِضة للمخطط الصهيو-أمريكي في المنطقة.

وفي عالم متعدد الأقطاب، ومع تآكل الهيمنة الأمريكية وهيمنة الحلف الأطلسي، سيُفرَض لا محالة حلٌ عادلٌ في فلسطين.

 وأما هزيمة الصهيونية في فلسطين فستصاحبها تحولات كبرى في البلدان العربية وتراجعاً للوجود الإمبريالي في هذه البلدان.

ولعلنا نشهد تجمعات سياسية واقتصادية إقليمية بين الدول العربية وبداية السوق العربية المشتركة. وقد تشكل الدول العربية قوة سياسية واقتصادية يمكنها الدفاع بشكل فعّال عن مصالح أعضائها كما أن تصبح كتلة مؤثرة في مجموعة البريكس.

لذلك كله، ف"7 أكتوبر" يشكل منعطفاً في الصراع العربي الصهيوني.

______________________

*ناشط حقوقي مغربي، وعضو المكتب التنفيذي للجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني. اعتقل عدة مرات في المغرب مع العلم أن والده هو أحمد بلافريج، أحد رجالات الاستقلال والوزير في حكومات مغربية، ورئيس الوزارء في إحداها.  

______________________

1 - للمحافظين الجدد إيديولوجيا هي خليط من الفاشية والعولمة. وقد تأسست حول ميثاق – "مشروع القرن الأمريكي الجديد (PNAC)". وحدد المحافظون الجدد لأنفسهم هدف إعادة التفوق الأميركي في كافة أنحاء العالم، من خلال الحروب أو بأي وسيلة أخرى.
2- بحسب بيانات صحافية للمقاومة الفلسطينية، فقد نفذ طوفان الأقصى على عدة مراحل: بعد انتهاء المرحلة الأولى صباحاً، سيطرت المقاومة على 25 نقطة عسكرية (مستعمرات، مراكز شرطة، ثكنات)، وسيطرت وحدة بحرية على مستوطنة "سديروت" شمال قطاع غزة. كما شاركت في العملية 35 طائرة بدون طيار. واستمرت هذه العمليات 24 ساعة.
3- أطلقت أجهزة التضليل الصهيونية على الفور معلومات عن أطفال مقطوعي الرأس، ونساء اغتصبن وأحرقن، ومجازر في حفل شبابي، رددتها وسائل الإعلام الغربية وبايدن نفسه الذي اضطر إلى نفيها بعد ساعات قليلة، عندما سأله الصحافيون عن إظهار الصور. وبحسب التحقيق الذي أجرته صحيفة هآرتس، فقد تبين أن الدبابات والمروحيات الإسرائيلية أرسلت إلى هناك لقتل كل ما يتحرك. وقد تبين ان الجثث المتفحمة التي عُرضت على الصحافة كانت لمقاتلين فلسطينيين ولإسرائيليين وقد قتلوا بالقنابل الحارقة الإسرائيلية.
4- تم إسقاط 50 ألف طن من القنابل على العمارات المليئة بالسكان الى حين الهدنة، وقد أرسلت الى إسرائيل عن طريق جسر جوي من الولايات المتحدة، وهي قنابل الفوسفور الأبيض والقنابل العنقودية وجميع أنواع القنابل المحظورة بموجب اتفاقية جنيف بشأن أسلحة الحرب.
5- أنكرت الحركة الصهيونية دائماً وجود شعب فلسطيني، وتم إنشاء إسرائيل على رماد حوالي 700 قرية فلسطينية دُمرت خلال النكبة والتهجير القسري لـ 750 ألف فلسطيني.
6- يجب أن نذكر أن الشعب الفلسطيني لم يمارس حقه في تقرير المصير عند نهاية الانتداب البريطاني عام 1948، وأنه رفض خطة التقسيم الأحادية التي أقرتها في غيابه الأمم المتحدة عام 1947 (القرار 181)، وهي الخطة التي خرقتها إسرائيل نفسها في عام 1948، حين احتلت عسكرياً جزءاً من الأراضي التي منحتها الأمم المتحدة لفلسطين، ورفضت تطبيق القرار 194 الذي يطالب بعودة الفلسطينيين المنفيين بالقوة إلى وطنهم.
منحت خطة التقسيم للدولة الصهيونية (35في المئة من إجمالي السكان) 57 في المئة من أفضل أراضي فلسطين، وتمّ التفاوض على حل الدولتين بين ياسر عرفات وإسحاق رابين والتوقيع عليه في 13 أيلول/ سبتمبر 1993 في البيت الأبيض، بحضور بيل كلينتون الذي شارك في التوقيع. ووافق الفلسطينيون على إقامة دولة على 22 في المئة من فلسطين. لكن الاستيطان الصهيوني احتل بالفعل أكثر من ثلثي هذه المساحة منذ عام 1993

مقالات من فلسطين

تدمير فلسطين هو تدمير كوكب الأرض

2024-05-02

إنها نهاية العالم الذي لا ينتهي أبداً: حطام جديد يتراكم دائماً فوق رؤوس الفلسطينيين. التدمير مكوّن رئيسي في تجربة الحياة الفلسطينية لأن جوهر المشروع الصهيوني هو تدمير فلسطين. لكن هذه...

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...