مدرسة إعلاميّي غزّة: وترٌ وحيدٌ.. يُقاوِم

صحافيو غزة يغطّون ما لا يمكن لأحدٍ سواهم أن يعرفه. هم الأصوات التي ينبغي أن نسعى لرفعها ونشرها، وليكن صوتهم أعلى وأعتى من أصوات أشهر الإعلاميين العالميين الذي رسبوا في اختبار النزاهة والإنسانية أصحاب المعادلة التافهة التي تقول: "لا يكفي أن تموت. يجب أن تموت بصمت".
أحد أصدقاء الصحافي محمد صبح الذي استشهد أثناء تغطيته في غزة حاملاً سترته الواقية في جنازته في 10 تشرين الأول أكتوبر 2023 (رويترز)

"يا صوتي القاطع كحدّ السيف على رقبة الطغاة
إن سقطَت منّي الأغاني، أحوّل مجرى النفس إلى فوهة بندقية...
إنّ الفكرة ولّادة، والأغاني وقّادة، تنفض الرماد عن القلوب
يا صوتي الخافت أناديك...
غنِّ، وحتّى الوتر الأخير، قاتِل"
(1)

تعود الفنانة الفلسطينية الراحلة عام 2018، ريم البنّا، إلى البال: "في 2015، قال لي أحد الأطباء أن لديّ شللاً في الوتر الصوتي الأيسر، وبالتالي أنا ما بقدرش أغنّي. كانت صدمة كتير صعبة، أكثر بكثير مما لمّا عرفت أنني مريضة بالسرطان".. واستدركت البنّا في المقابلة "أوكي، لكن أنا لازم أكمّل" قالت، "لأن المثقف أو المبدع أو الفنان لا يكفي أن يكون. يجب أن يكونَ مقاوِماً"..

آلام غزّة وأهلها الوافرة اليوم لا عدّ لها. هذا ألم يهدّ جبالاً. هذا جحيمٌ لا يحتمله ولا ينبغي أن يحتمله إنسان. لكنّ الإهانة، كلّ الإهانة، أن يُضاف إلى كل هذا الوجع الرهيب سلبٌ لأصوات الغزيين وتصغير معاناتهم وإشاحة النظر عن يومياتهم. هذا إعلامُ الدنيا تجاهل كلّ آلام الفلسطينيين ما قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ويقزّم كل آلام ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ولم يرَ من التاريخ كله إلاّ يوماً واحداً قرّر فيه من هو "الإرهابي" ومن هو "الضحية".

معادلة هذا الإعلام التافه تقول: "لا يكفي أن تموت. يجب أن تموت بصمت".
معادلة الفلسطينيين، كما قالت ريم: "لا يكفي أن تكون. يجب أن تكون مقاوِماً".

الصحافية بلستيا العقاد أثناء تغطيتها (من صفحتها على انستغرام)
الصحافي معتز العزايزة أثناء تغطية اكتشف فيها استشهاد أفراد من عائلته (عن صفحته على انستغرام)
الصحافي الشهيد رشدي السراج مع أطفال من غزة. قُتل في القصف الإسرائيلي على غزة يوم 23 تشرين الأول أكتوبر 2023 (من صفحته على انستغرام)

لن يموت الغزيون بصمت. صار لنا من بينهم عشرات الأصوات الشابة التي ألِفناها. يتقنون العمل بأدواتِ مواقع التواصل الاجتماعي كافة، ويتحايلون على الحظر. صرنا نعرفهم واحداً واحداً ونسميهم بأسمائهم الأولى كأنهم أصدقاؤنا وجيراننا: يارا، بلستيا، معتزّ، وسام، صالح، بيسان، بلال، وغيرهم... يغطّون كصحافيين على الأرض، كل يوم بلا كلل أو ملل، وبعضهم لم يغطّ عدواناً من قبل، فكيف بإبادةٍ بهذا الحجم والوحشية. يعملون في ظروفٍ يصعب على معظم المراسلين الحربيين المخضرمين احتمالها، يتشاركون المعدات والستر الواقية لشُحِّها، بالكاد يستطيعون شحن هواتفهم والاتصال بالانترنت... وتحت القصف الذي لا يتوقف، يُمسكون بقصتهم وقصص أهلهم بكلّ أصابعهم ولا يفلتون.

في مقابلتها باللغة الإنجليزية مع قناة سكاي نيوز، تبدأ يارا حديثها بمواجهة المذيعة ونفاق لغتها الإعلامية بشكلٍ مباشر: "لقد قلتِ أن أكثر من 1400 إسرائيلي "قُتلوا"، بينما "مات" 4000 فلسطيني حتى اللحظة. أعتقد أنه من المهم استخدام اللغة الصحيحة عند وصف الأمور، لأنكِ – كصحافية - يقع عليكِ الواجبُ الأخلاقي لتغطية ما حدث بالوصف الصحيح".

تابعت يارا، التي خسرت أصدقاء لها و30 فرداً من عائلتها المباشرة، 17 منهم أطفال: "الفلسطينيون لا يموتون ببساطة. هُم يٌقتَلون. في الواقع هم يُقتلون ويتعرضون للتطهير العرقي والإبادة منذ 75 عاماً". ثمّ اتهمت المذيعة بالتضليل عندما تحكي عن "حرب بين حماس وإسرائيل" كأنها حرب بين طرفين متساوين في القوة والقدرة، وكأن إسرائيل ليست قوّة محتلّة، وكأن هدفها ليس قتل المدنيين ومعاقبتهم. بكثير من الذكاء والتجلّد والصدق، تفنِّد يارا عيد كلّ سؤال مراوِغ ومنافِق وكل عبارة تدس السمّ في هيئة سؤال صحافي مهني، لتفضح مراراً مستوى انعدام الاحترافية والمهنية والانحياز إلى المعتدي في معظم وسائل الإعلام العالمية، وانهيار معاييرها التي تدّعيها دستوراً مقدساً.

هل تتخيلون أن هؤلاء الشابات والشبان المناضلين عليهم بعد يوم طويل من الإرهاق الجسدي والنفسي تحت القصف ومع قلة المياة والطعام وخسارة الأحباء والأهل أن يجلسوا مع مذيعين ومذيعات مطبَقي الجهل أو مكتملي التواطؤ مع الآلة الحربية المتوحشة التي تقتلهم، وأن يجدوا في دواخلهم قوة وصبراً ليفنِّدوا ويجيبوا بطول أناة، فقط كي يُسمَعوا، فقط لكي لا تضيعَ الرواية.

هؤلاء هم وتر الصوت الأخير الذي يقاوم. ما يغطّونه هو حياتهم نفسها وحياة أحبائهم، موتهم نفسه وموت أحبائهم. وقد قتلت إسرائيل 19 صحافياً من غزة وفيها حتى يوم 24 تشرين الأول/ أكتوبر فقط. وبالأمسِ "عاقبت" وائل الدحدوح، مراسل قناة الجزيرة الذي صار صوته جزءاً من فضاء بيوتنا منذ بداية هذا العدوان المجرم، فقتلت زوجته وابنه وابنته في غارة استهدفت مخيم النصيرات، جنوب غزّة، ليتلقى خبرهم مباشرة أمام أعين العالم. إنّ كلّ مراسلٍ في غزّة اليوم هو الخبرُ أيضاً...

هؤلاء يغطّون ما لا يمكن لأحدٍ سواهم أن يعرفه. هم الأصوات التي ينبغي أن نسعى لرفعها ونشرها، وليكن صوتهم أعلى وأعتى من أصوات أشهر الإعلاميين العالميين الذين رسبوا في اختبار النزاهة والإنسانية. (2)

صوت وائل الدحدوح حين يقول، مفجوعاً بأغلى الناس على قلبه: "هذه التي رأيتموها هي دموع الإنسانية وليست دموع الخوف والجبن، فليخسأ الاحتلال"!

مراسل الجزيرة في غزة وائل الدحدوح فوق جثمان ابنه الذي استشهد مع والدته وأخته في القصف الإسرائيلي يوم 25 تشرين الأول / أكتوبر 2023 (تصوير مجدي)

صوت معتز عزايزة الذي يغطي المجزرة ثمّ يجد نفسه يحمل الأطفال الجرحى والشهداء بيديه إلى المشفى.

صوت علي جاد الله الذي ينقل والده الشهيد في مقعد سيارته الخلفي ليدفنه وحيداً لأنّ الحيّ كله مكلوم وما من أحد.

صوت يارا عيد التي تصدّ نفاق الإعلام وتصوّب لنا وللجميع استسهال تحويل الشهداء إلى أرقام فتحكي لنا قصص الأفراد وتشاركنا صورهم وأحلامهم.

صوت بلستيا العقاد التي تقول أنها ستبقى في الميدان لآخر لحظة، والتي تجلس على أرض مستشفى الشفاء جنب الدكتور غسان أبو ستة لتقابله لدقيقة في وسط الإنهاك التام قبل أن يعود إلى جرحاه الذين أضاع عدّهم.

صوت بيسان التي تقول للعالم الذي يستعدّ لشتاءٍ مليء بالدفء والـ"هوت شوكليت" وزينة عيد الميلاد، أنّ الشتاء بالنسبة لأطفال غزة ليس سوى رعب وموت وبردٍ مجرم يجب تجنيبهم إياه.                                                   

صوت صالح الجعفراوي يسلّي الجدّات المصابات في المستشفى ويلاعب الأطفال ويقرأ القرآن فوق جسد طفل مشظّى.

صوتهم. وترٌ وحيدٌ.. يقاوِم. 

______________________

1-  أغنية "الوتر الأخير" لريم البنّا، من ألبوم "صوت المقاومة"  
2-  هذا رابط بكل صفحات انستغرام الخاصة بالصحافيين الذين يعملون في غزة الآن: https://t.ly/ti3fY

مقالات من فلسطين

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....

للكاتب نفسه

انهيار التعليم العام في منطقتنا

تتصل مسألة التعليم بشكل مباشر بالوعي الجماعي والتعاون الاجتماعي في أي مجتمع، أي وباختصار بعملية َتشكّله. وهذه مقاربة أولى تسجِّل المعطيات الموضوعية لتراجع التعليم العام في منطقتنا بل وانهياره. فما...

جائزة لزميلتنا جودي الأسمر: مبروك!

يعالج تحقيق جودي الأسمر، الفائز بجائزة "قريب" للصحافة، الأضرار الجسيمة التي يلحقها جبل النفايات بالمياه والهواء والتربة وصحة السكان المحليين في مدينة طرابلس اللبنانية، بالاضافة إلى العواقب الاقتصادية. كما كشف...

على فايسبوك

اسماعيل الإسكندراني، الباحث المصري الشاب لامع الذّكاء والثقافة والصدق والوطنية، وأحد كتاب السفير العربي الاشد تميزاً، اعتقل مساء 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 في المطار فور عودته الى بلده من استضافة جامعية...