مُقابل كلّ تكنولوجيا العالم

رأينا مظلات بمحركات "بدائية" مروحية تحلّق فوق حدود غزّة، تدخل من أرضها إلى أرضها الأخرى - الممنوعة عنها / المطرودة منها – وتصل! غدُ الذكاء الاصطناعي ومستقبل الرادارات الحساسة في كل العالم يرتبطان بتجارب هذا "الحقل" الذي نُزعت عن أهله إنسانيتهم من زمان، لا اليوم. لكنّنا رأينا بأم أعيننا مظلّة بمروحة تحمل إنساناً مكشوفاً للهواء، تحلّق وتعبر.
2023-10-12

شارك
المظلات التي دخلت من غزة إلى غلافها صباح السبت في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023

صباح السادس من أيلول / سبتمبر 2021، استفقنا على خبر ولا أغرب، مفاده أن ستة أسرى فلسطينيين في سجن جلبوع استطاعوا كسر قيدهم والخروج من السجن الإسرائيلي الأمني المحصّن "شديد الحراسة"، عبرَ نفق حفروه بأناة وجدّ واجتهاد على مدى شهور بأدوات شديدة البساطة: ملعقة وما شابهها مما يغرف القليل الذي يتراكمُ ليصيرَ كثيراً، ليصيرَ نفقاً. كانت الصورة الوحيدة الشاهدة على ما فعلوا حُفرةٌ صغيرة في الأرض تقع خلف برج حراسة السجن الخارجي، حيث خرج الستة إلى الحرية. يتحلّق جنود الاحتلال والمحققون وحراس السجن حول الحفرة وينظرون بتمعّن وتفكّر إلى هوّة سوداء في الأرض، إلى حفرةٍ تجسّد فشلهم، تضحك منهم، تهينهم تحت مرمى برج حراستهم تماماً.

صارت الصورة أيقونة، وكذلك رسم الملعقة التي هزمت كل حديد السجن. قلنا كلاماً شاعرياً كثيراً، وراكمنا أيقونات إلى أيقونات. فارس عودة طفلاً يرشق دبابة إسرائيلية بحجر... امرأة تغمر شجرة الزيتون فيما تجرف آليات الاحتلال أرضها... ملعقة تحفر نفقاً إلى الحريّة... وغيرها الكثير من الصور التي تبقى في الذاكرة (جامدة) وتحفّز صوراً أخرى متخيّلة (متحركة).

***

صباح السابع من تشرين الأوّل / أكتوبر 2023، استفقنا على صورٍ ولا أعجب. رأينا مظلات بمحركات "بدائية" مروحية تحلّق فوق حدود غزّة، تدخل من أرضها إلى أرضها الأخرى - الممنوعة عنها / المطرودة منها - وتصل. إذا كانَ سجن جلبوع "شديد الحراسة" فهذه غزّة "أكبر سجن مفتوح على وجه الأرض" وأحد أكثر الأماكن كثافة سكانية في العالم، شديدة التركيز والحراسة والقمع والمراقبة أضعافاً مضاعفة. غزّة معتقلٌ تجرّب فيه كلّ تكنولوجيا السيطرة والإخضاع الحديثة أوّلاً بأوّل. هي حقل تجارب لتكنولوجيا لم نسمع بها بعد. غدُ الذكاء الاصطناعي ومستقبل الرادارات الحساسة في كل العالم يرتبطان بتجارب هذا "الحقل" الذي نُزعت عن أهله إنسانيتهم من زمان، لا اليوم. لكنّنا رأينا بأم أعيننا مظلّة بمروحة تحمل إنساناً مكشوفاً للهواء، تحلّق وتعبر.

وبسرعة رهيبة، صارت مظلة الباراشوت "رمزاً" آخر، "أيقونة" أخرى تضافُ إلى لائحة الرموز. أحد الرسوم يبيّن حنظلة معلّقاً بمظلّة ويقول كلِمة واحدة "بخّ!"، في تكثيف عظيم.

حنظلة المظلّي. رسم من تصميم نادر أسمر

بدا أنّ المظلّات غيّرت في ساعات قليلة وجه المنطقة بأسرها، مسار التطبيع العربي المتدحرج بالأمس فقط بلا مكابح، صفقات السلاح ووعود الاحتلال لأصدقائه بنخبة آلات الحرب وألمعها، تهيؤات دول العالم وشركات صناعة العنف حول نجاعة صمود كلّ هذا الاصطناع المركّب – الحديد والنار والتكنولوجيا في هيئة آلة "ذكية" تُسخَّر في وجه لحمٍ حيّ ومخيلة إنسان...

نعيدُ منذ صباح السبت تقييم كلّ شيء، وتتعثر الفكرة بالعاطفة والعاطفة بالفكرة. كل الجمل مبتورة، تقطعها أنصاف جمل أخرى، وشريط أخبار يقول أن الدنيا تنقلب إلى غير دنيا. نعرف أننا أمام مشهد "أيقوني"، لكن الأيقونة رسمٌ جامد، ولا مكان إطلاقاً للجمود في ما نسمع ونشهد ونرى في أيامنا هذه. في الصور التي جمعناها على مرّ السنين حفرة وملعقة ومظلّة وحجر وشجر... لكنّ وراء كلّ من هذه الرموز وجمودها بشراً متحرّكين. يدٌ تحفر، جسد يقاوم، خيالٌ متجدّد مُذهل. "الرمزُ" تكثيفٌ مشروع لكنّ إنسانه الذي صنعه رمزنا الأكبر، فكيف وهو إنسان محاصر بأعتى عتاد وآلات وجدران العالم؟

يزن أبو سلامة - فلسطين

"تضع إسرائيل تسميات معقدة للإشارة إلى الجدار الحدودي المحيط بغزّة المراقب الكترونياً بكاميرات عادية وكاميرات حرارية ومحمي بدرونات وعليه غطاء جوّي وكتيبتي مدرّعات. أما الغزازوة فيسمّونه "السلك""، كتب ناشط فلسطيني على تويتر. وبالفعل، صباح السبت، كان السلكُ مجرّد "سلك". 

جرافة فلسطينية تزيل أجزاءً من السياج الفاصل شرق غزة

رأينا جرافة عادية تزيله وشباناً بالبيجاما يعبرونه بلا استعجال ويرجعون من الجانب الآخر مع هامر عسكرية إسرائيلية استعرضوها في شوارع غزة. بالطبع، العملية التي حصلت أكثر تعقيداً بكثير من هذا الوصف التبسيطي، لكن أثر تلك الصور الأولى هو ما ترسّب في وجدان الملايين من البشر، وهذا ليس بقليل. 

مركبة هامر عاد بها شبان من غزة إلى القطاع

كانت غزّة بالأمس أملاً للإنسان، كلّ إنسان، في وجه تغوّل الآلة ووحشية المستعمِر وسطوة المال والحصانة الفاجرة لثلة من المجرمين الدوليين. وهي اليوم وحيدة تدفع الثمن الأغلى (ثمناً لا يتحمّله أحد ولا ينبغي أن يُترك ليتحمّله أحد) لرفضها أن تتحجّر في محبسها وتموت بصمت - كما أرادوا لها أن تموت...  

مقالات من فلسطين

تدمير فلسطين هو تدمير كوكب الأرض

2024-05-02

إنها نهاية العالم الذي لا ينتهي أبداً: حطام جديد يتراكم دائماً فوق رؤوس الفلسطينيين. التدمير مكوّن رئيسي في تجربة الحياة الفلسطينية لأن جوهر المشروع الصهيوني هو تدمير فلسطين. لكن هذه...