مقاربات في الاقتصاد السياسي الفلسطيني قبل وبعد 2023

السؤال الأبرز هنا: هل سينتج عن المواجهة الحالية وضع قائم ثابت جديد بموازين مختلفة دون إنهاء الصراع، أم ربما ندخل في مرحلة ستشهد سلسلة من التحولات الجوهرية (بل الثورية) في فلسطين، وبين الشعوب العربية، وحتى داخل إسرائيل نفسها، تفضي لشكل ما الى حسم حرب المئة عام؟
2023-12-14

رجا الخالدي

باحث في التنمية الاقتصادية الفلسطينية


شارك
هيا محمد - فلسطين

في خضم المشاهدة والمتابعة للإبادة الجارية في قطاع غزة وعموم فلسطين، تعجز الكلمات عن التعبير عن هول ما يدور، كما يعجز عشرات الملايين من الفلسطينيين والعرب وعشاق شعب فلسطين في جميع بقاع العالم عن مد الإسناد المادي أو السياسي المباشر للمقاومة. لكن، في هذه المرحلة الجديدة، استعاد مصطلح "المقاومة" نفسه مضامين متجددة جديدة وأشكال متعددة، من تلك المسلحة إلى السلمية إلى القانونية إلى الإعلامية الجماهيرية، كلٌ في ميدانه وبحسب الإمكانات المتاحة. لذلك سيبقى عام 2023 ليس فقط محفوراً في الذاكرة الجمعية الفلسطينية والإسرائيلية، بل سيشكل منعطفاً في تاريخ النضال التحرري الوطني، بغض النظر عن النتائج الميدانية، التي لا تزال معالمها بعد 65 يوماً من المعارك، غير واضحة.

من هذا المنطلق، من المهم متابعة ورصد التبعات الاقتصادية-الاجتماعية والمادية الرهيبة للعدوان الإسرائيلي وتحليلها، بعيداً عن النقاش شبه التآمري حول ما يسمى بـ "اليوم التالي" (لهزيمة المقاومة، بحسب الجهات الدولية التي تطرح الموضوع). بالإضافة، نرى أنه من الممكن القيام باستكشاف أوّلي لملامح المرحلة الجديدة في سياق إعادة قراءة ما كان شائعاً قبل 2023 من معتقدات "الحكمة المعتادة" بين السياسيين والخبراء (يساراً ويميناً)، حول جدلية الاقتصاد والسياسة في فلسطين المحتلة، خاصة خلال العقد الأخير وانتهاء عملية السلام واشتداد التوسع الاستعماري.

هنا أركز على أربع مقاربات أشغلتني خلال سنوات طويلة، حول تلك العلاقة الجدلية بين الاقتصاد والسياسة، بين التنمية والسيادة، بين المال والعدالة، في سياق صراع طويل بين شعب يسعى إلى تحقيق مصيره الوطني وحركة قومية استعمارية إحلالية.

العلاقة بين التحرر الوطني والليبرالية المحدثة

يكتب عدد من الباحثين (وأنا منهم) منذ فترة عن انتشار ظواهر الليبرالية المحدثة/الجديدة في النظام السياسي والمجتمع الفلسطيني، خاصة في أعقاب الانتفاضة الثانية وصعود سياسات "الإصلاح" و"بناء الدولة" و"فرض الأمن" و"سيادة القانون"... وغيرها من ملامح حكم الرئيس محمود عباس منذ الانقسام مع حماس، ورؤساء وزاراته، من سلام فياض وصولاً إلى محمد اشتيه. في جوهر الجدل حول الموضوع، يرى البعض أن تقدم الليبرالية الجديدة لا يمكن أن يكون سوى على حساب تراجع الظروف المادية والسياسية اللازمة لمواصلة النضال التحرري الوطني بكافة الوسائل. في المقابل، لا يرى طيف واسع من السياسيين ورؤوس الأموال والطبقة المتوسطة خطورة في مثل هذه الظاهرة، إذا أقروا بها أصلاً، انطلاقاً من موقع "الهروب من السياسة" (ومن الإخفاقات المتكررة في طريق التحرر)، إلى الفردانية والرغبة في الحياة الجيدة وظواهرها المادية التي تنطوي عليها الثقافة الليبرالية السائدة.

شهد تعزيز الترابط (العكسي) بين (توسع) الليبرالية الجديدة و(انحسار) فرص التحرر الوطني، ليس فقط جهود بناء اقتصاد "السوق الحر" تحت ولاية السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وكذلك تحت حكم حماس في قطاع غزة. بل تطلبت إدامة هذه المعضلة أيضاً دوراً إسرائيلياً تسهيلياً في غياب أي أفق سياسي، ما بات يعرف بسياسات "السلام الاقتصادي". ومن دون الخوض في تفاصيل هذا الجدل الذي ربما طال عمره ونطاقه أكثر مما يستحق، فما هو اللافت اليوم أن السلام الاقتصادي وفرّ ميداناً ليس فقط لتلقي التسهيلات الإسرائيلية، بل أيضا ملعباً يمكن أن يبادر معه الطرف الفلسطيني لانتهاز فرص أخرى أو لشراء الوقت من خلال التساوق معه. كيف؟

النضال الوطني المتجدِّد، وتفجير الوضع القائم القاتم، والتحالف الطبقي الشعبي الملتف حول الحق الفلسطيني، على الرغم من الكلفة البشرية والمادية المرعبة، غَيّر كل المعادلات وقلب جميع الافتراضات السابقة. جاء "السابع من أكتوبر" ليؤكد أن الوضع أصبح فعلاً غير قابل للاستدامة، وأنه بقي قائماً طالما لا يتم العمل الجاد لتفجيره كما فعلت المقاومة يومها، بما قضى وإلى الأبد عليه وهو غير المقبول وغير المعقول، الذي عشناه منذ زمن طويل، نسينا فيه أن الأمور يمكن أن تكون مختلفة.

كانت تسود مفارقة عجيبة بين القناعة الراسخة لدى غالبية النخب والقيادات والشعوب بأن هذا الوضع القائم سيسود لفترة طويلة غير محددة من جهة، والاستدراك من جهة ثانية بأن الصراع المتواصل والمتصاعد على الأرض، خاصة في الضفة والقدس المحتلة، إلى جانب تراجع مكانة وهيبة ومصداقية السلطة الفلسطينية، بالتوازي مع تمترس حماس في الحكم والسلطة في غزة، تمثّل كلها حالا لا يمكن استدامتها. 

أولاً، يظهر جلياً أن سيادة الليبرالية وقيمها المادية ساهمت مساهمة فعالة في الضفة الغربية، إلى جانب التنسيق الأمني، في تشتيت قوى وهياكل المقاومة هناك على الرغم من تصاعدها التدريجي شبه العفوي منذ سنوات، وفي طمس الاستعداد الرسمي والشعبي العام لدفع الثمن المكلف لمقاومة الاحتلال. نرى ذلك في مقارنة مستوى وتنظيم وفعالية أعمال المقاومة المسلحة والشعبية الفلسطينية في الضفة المحتلة، بالمقارنة مع ملحمة المقاومة في قطاع غزة أو حتى الاشتباك المتواصل على جبهة لبنان. ثانياً، شهد قطاع غزة كذلك خلال العقد الأخير نمو طبقات ونخب متمسكة بالليبرالية أو مستفيدة من نظام "السوق الحر" القائم، في محاولة طبيعية إنسانية للتمتع بالحياة الجيدة والحرية الشخصية على الرغم من كل المصائب. لكن - وهنا بيت القصيد - فبينما كان النظام السياسي في غزة يبعث باستعداده للمضي قدماً في ترسيخ سياسات إسرائيل (ومصر وقطر) من تسهيلات السلام الاقتصادي في التجارة، والطاقة، وتصاريح العمل، كانت المقاومة تستفيد من تلك الخدعة للتستر على تجهيزها الصناعي والتدريبي والتمويني والإنشائي لخوض معركة طوفان الأقصى.

فهل مقاربة الليبرالية-التحرر تَقادم عليها الزمن في 2023، أم أنه تمّ تثبيتها؟

استحالة استدامة الوضع القائم (المستدام)

شكّلت المقاربة أعلاه أساساً متيناً، أو هكذا ظهر للجميع، لبناء المعتقد الشائع خلال المرحلة الماضية بأن التوازن الحساس بين الفراغ السياسي والهدوء النسبي في الصراع والحياة الاقتصادية "الاعتيادية"، خير وصفة لإدارة صراع بات يُنظر إليه على أنه ثانوي أو هامشي في عالم يواجه أزمات جديدة سنة بعد سنة. هكذا تبلورت قناعة لدى النظام السياسي الفلسطيني والمواطن والقوى السياسية الفاعلة، أنه ليس هناك أفق لحسم الصراع بالقوة أو سلماً، خاصة مع صعود اليمين الاستعماري العنصري إلى سدة الحكم في إسرائيل ودوام ترتيبات التنسيق الأمني الفلسطيني الإسرائيلي في الضفة، وكبح جماح بعض فصائل المقاومة من قبل نظام حماس في غزة. على أساس هذا التقدير، انشغل الجميع، فلسطينيا وإسرائيلياً، في الاستفادة الاقتصادية من شبه استقرار الوضع القائم.

من ثَمّ، تم وضع الخطط والسياسات والاستثمارات الفلسطينية على افتراض أن المحافظة على الوضع القائم بديلاً أفضل من المجهول، المتمثل في المواجهة العسكرية أو انهيار السلطة الفلسطينية أو الانفلات الأمني أو غيرها من السيناريوهات المخيفة. في الجانب الإسرائيلي سادت قناعات مماثلة. باتت إدارة الصراع مع الفلسطينيين من خلال تشجيع مواصلة الانقسام بواسطة التسهيلات الاقتصادية والحياتية كفيلة من وجهة نظر إسرائيل لإتاحة المجال للمضي قدماً في التوسع الاستعماري وتحقيق أهداف المشروع القومي الديني في حسم الصراع تدريجياً لصالحه، في الوقت ذاته الذي تفتح فيه جبهات جديدة للسلام الاقتصادي مع الدول العربية المطبِّعة لعلاقاتها مع الكيان الصهيوني.

إذا كان أيار/ مايو 2021 بمثابة إشارة مبكِرة لما يمكن أن يفرزه مستقبل النضال الفلسطيني، فإن نهايات 2023 جاءت كزلزال يفتح الميدان على مصراعيه.

حين تنحسر فرص المقاومة المُجْدية، فإن الشروع في نضال مطلبي جماهيري لا يكون على حساب الوطن، بل تجسيداً له ولحتميته، من خلال حراك جماهيري وحوار حر حول الملفات الاجتماعية والاقتصادية المؤجلة بحجة المحافظة على الجبهة الوطنية الواسعة والعابرة للطبقات. 

نجد في هذه المقاربة مفارقة عجيبة بين القناعة الراسخة لدى غالبية النخب والقيادات والشعوب بأن هذا الوضع القائم سيسود لفترة طويلة غير محددة من جهة، والاستدراك بأن الصراع المتواصل والمتصاعد على الأرض، خاصة في الضفة والقدس المحتلة، إلى جانب تراجع مكانة وهيبة ومصداقية السلطة الفلسطينية، بالتوازي مع تمترس حماس في الحكم والسلطة في غزة، تمثّل من جهة ثانية حالا لا يمكن استدامتها. منذ سنوات، تنبأ عدد من الخبراء باستحالة الاستمرار على هذه الشاكلة، على الرغم من عدم ظهور أية إشارات واضحة بأن هناك قوة يمكن أن تقلب الأمر الواقع رأساً على عقب. ثم جاء "السابع من أكتوبر" ليؤكد أن الوضع أصبح فعلاً غير قابل للاستدامة، وأن الوضع القائم يبقى قائماً طالما لا يتم العمل الجاد لتفجيره كما فعلت المقاومة يومها، بما قضى وإلى الأبد على ذلك الوضع القائم، غير المقبول وغير المعقول، الذي عشناه منذ زمن طويل، نسينا فيه أن الأمور يمكن أن تكون مختلفة.

السؤال الأبرز هنا: هل سينتج عن المواجهة الحالية وضع قائم ثابت جديد بموازين مختلفة دون إنهاء الصراع، أم سندخل في مرحلة ستشهد سلسلة من التحولات الجوهرية (بل الثورية) في فلسطين، وبين الشعوب العربية، وحتى داخل إسرائيل نفسها، تفضي لشكل ما الى حسم حرب المئة عام؟

الوطن أو الطبقة؟ أم الاثنان؟

بناء على صيرورة معضلات تفوق الليبرالية على التحرر الوطني، والتمسك بخيار الوضع القائم (القاتم) بدل خيار المقاومة غير المحسوبة عواقبها، تراجعت خلال المرحلة السابقة لدى غالبية المواطنين في فلسطين أهمية القضايا الوطنية أمام التعامل مع ضغط القضايا المعيشية والاجتماعية والاقتصادية المطلبية. لوحظ ذلك خلال السنوات الماضية في تزايد الحراك المطلبي الاجتماعي والمدني الفلسطيني والمطالبة المتعاظمة بتغيير جوهري في النظام السياسي الفاقد لبوصلة المقاومة، وغيرها من التحولات "الداخلية" في كل من الضفة والقطاع. في تحليلي للوضع القائم (قبل خمس سنوات)، قمتُ بربط هذه الظاهرة بتاريخ التوتر البنيوي في السياق الفلسطيني، بين تفوق النضال (الوطني) في مواجهة ما يسمى "بالتناقض الرئيس"، وتأجيل النضال (الطبقي) مع الرأسمالية والرجعية العربية والإمبريالية إلى حين حسم التناقض الأول. حتى بين فلسطينيي الـ48 ، أفضى السياق القومي للتمييز ضدهم إلى نضالات مطلبية حقوقية اقتصادية واجتماعية وسياسية "داخلية". اعتبرتُ في قراءتي للوضع أنه طالما تنحسر فرص النضال الوطني سنة بعد سنة، فقد حانت المرحلة المناسبة لتعزيز التنظيم والمطالب الاجتماعية الحقوقية، في وجه نظام غير ديموقراطي يحمي اقتصاد سوق حر وعلاقة تبعية استعمارية لا بد من النضال لقلبها.

توصلتُ إلى أنه حتى ولو انحسرت فرص المقاومة المُجدية، فإن الشروع في نضال مطلبي جماهيري لا يكون على حساب الوطن، بل تجسيداً له ولحتميته، من خلال حراك جماهيري وحوار حر حول الملفات الاجتماعية والاقتصادية المؤجلة بحجة المحافظة على الجبهة الوطنية الواسعة والعابرة للطبقات. شهدنا لحظة فارقة في هذه التحولات السابقة مع "هبة أيار" عام 2021، عندما التف 7 مليون فلسطيني من الضفة والداخل وغزة و7 مليون آخرين في الشتات، حول قضية القدس كحق جمعي (وطني، ديني، وشعبي) لا يُقبل المس به. إذا كان عام 2021 بمثابة إشارة مبكِرة لما يمكن أن يفرزه مستقبل النضال الفلسطيني، فإن 2023 جاء كزلزال ليفتح الميدان على مصراعيه.

ها هو الشعب الفلسطيني اليوم يجسِّد في معركته مع الاحتلال والعدوان الإصرار على تحقيق ذلك التحول التاريخي في الموازين، الذي من شأنه إحقاق الحقوق الفلسطينية المسلوبة أو ما تيسر منها في هذه المرحلة. فهل من شريك عربي له في ذلك السعي غير لبنان واليمن؟

مع عودة التلاحم الوطني العابر للطبقات إلى صدارة المشهد الفلسطيني محمولاً على أكتاف المقاومة وبسالتها ومهارتها، فإننا لم نحظَ بفرصة كالفرصة السانحة اليوم للخروج من المخاض بولادة حركة تحررية وطنية فلسطينية جديدة. ستستفيد مثل هذه النقلة النوعية من إمكانيات تعبئة جديدة لطاقات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج وتأطيرها في وحدة وطنية أصيلة. هكذا يمكن البناء على إنجازات المقاومة العسكرية بالإضافة إلى تجارب ودروس 25 سنة من "بناء الدولة" في كل من رام الله وغزة (بغض النظر عن الاختلاف في التوجهات العقائدية أو التباينات في رشد الحوكمة بين هنا وهناك).

يبدو أننا مقبلون على مرحلة مختلفة، مع عودة الوطن إلى الواجهة، لكن على أمل أن تكون في قيادته مؤسسات وساسة يضعون نصب أعينهم ليس فقط التحرر الوطني الممكن، لكن كذلك العدالة والمساواة والحقوق الفردية والجمعية الغائبة.

اقتصاد وطني فلسطيني لحل الدولتين أم لمواجهة صراع مفتوح؟

بعدما كان يُنظر إلى مفهوم حل الدولتين من خلال تقسيم فلسطين، وأنه في حالة موت سريري بسبب عدم استعداد إسرائيل حتى لمناقشة ذلك الحل، وبعد الانقلابات المختلفة التي شهدناها خلال الأشهر الأخيرة، يبدو أنه تبقى الصيغة المتوافق عليها دولياً وفلسطينياً. انصبت كل جهود البناء الاقتصادي الفلسطيني منذ أوسلو على افتراض إقامة اقتصاد وطني لدولة فلسطينية مستقلة في مساحة الأرض الفلسطينية المحتلة، على الرغم من الانحسار المكاني والوظيفي المتدحرج لنفوذ السلطة في الضفة الغربية، والإمكانات المحدودة لنظام حماس في قطاع غزة المحاصر منذ 15 سنة. في هذه الأثناء درست ظاهرة تَشكّل عدد من الاقتصادات الفلسطينية الإقليمية شبه المنفصلة عن بعضها (في الضفة والقدس ومناطق "ج" والقطاع ومناطق الـ48)، الرهينة لعلاقات التبعية للاقتصاد الإسرائيلي. أصبح تمييز الحدود لاقتصاد وطني لدولة فلسطينية مستقلة في سياق هذه العلاقات المتداخلة بين الاقتصاد والسياسة والاستعمار، ضرباً من الخيال، وسط مئات المستعمرات ومئات الآلاف من المستوطنين العنصريين وتحكّم الاحتلال بالحيز المحدود للحكم الذاتي الفلسطيني. بالتالي يصبح هدف بناء مثل ذلك الاقتصاد الوطني مرهوناً بحل سياسي بعيد المنال ومهمة عبثية.

لكن كما استعرضنا أعلاه، فإن النضال الوطني المتجدِّد، وتفجير الوضع القائم القاتم، والتحالف الطبقي الشعبي الملتف حول الحق الفلسطيني، على الرغم من الكلفة البشرية والمادية المرعبة، غيّر كل المعادلات وقلب جميع الافتراضات السابقة. لذلك، ربما تكون مفاجئة 2023 الكبرى ليس فقط أن القضية الفلسطينية استعادت مكانتها المركزية عربياً وعالمياً، لكنها أعادت الحياة لحل الدولتين أيضاً في نظر عدد من القوى الإقليمية والدولية كخيار وحيد لا بد منه، لما يجب أن ينتج عن هذه الحرب التي باتت توصف ب"المروعة".

مع عودة التلاحم الوطني العابر للطبقات إلى صدارة المشهد الفلسطيني محمولاً على أكتاف المقاومة وبسالتها ومهارتها، فإننا لم نحظَ بفرصة كالفرصة السانحة اليوم للخروج من المخاض بولادة حركة تحررية وطنية فلسطينية جديدة. ستستفيد مثل هذه النقلة النوعية من إمكانيات تعبئة جديدة لطاقات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج وتأطيرها في وحدة وطنية أصيلة.

 سيولِّد طرح الإسراع في تنفيذ حل الدولتين، إذا ما اتُّبع جدياً، ضغوطاً جديدة داخل إسرائيل بين اليمين القومي الذي سيعارضه حتى الموت، والوسط الليبرالي العاقل الذي سيعود حتماً إلى رؤيته بأنه لا سلام ولا استقرار دون تلبية حقوق الشعب الفلسطيني وليس تجاهلها. قد يبدو الأخير صامتاً أو هامشياً اليوم لأسباب طبيعية، لكن من المتوقع أن يتبلور ويتأسس بشكل أو بآخر بعد الحرب، مع المحاسبة التاريخية المتوقعة للمؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية الحاكمة، التي فشلت وفق كل المعايير والاختبارات.

إذاً سننتظر لنرى في الأشهر القادمة إلى أي مدى ستمهد إفرازات الحرب لتغييرات جوهرية داخل إسرائيل تجعل من الممكن الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة واقتصاد يتمتع بالسيادة على الأرض والموارد والشعب، كما كان يُفترض أن تصبح عليه عندما أعلن عن استقلالها قبل 35 سنة من الجزائر. ها هو الشعب الفلسطيني اليوم يجسد في معركته مع الاحتلال والعدوان الإصرار على تحقيق ذلك التحول التاريخي في الموازين، الذي من شأنه إحقاق الحقوق الفلسطينية المسلوبة أو ما تيسر منها في هذه المرحلة. فهل من شريك عربي له في ذلك السعي غير لبنان واليمن؟ 

مقالات من فلسطين

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....

للكاتب نفسه