القطيعة

كيف يحدث هذا الانتكاس الى ما يشبه ما وقع قبل خمسة قرون؟ الى بربرية لا مثيل لها مذاك بهذه الطريقة الممنهجة، على الرغم من وقوع حروب وفظائع واضطهادات مرعبة باسم "الحداثة"، ما بين الإبادة الأولى تلك وهذه الجارية اليوم.
2023-12-07

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
رقصة الفلسطيني والهندي الأحمر

أخيراً نطق مسؤول كبير في السلطة الفلسطينية (حسبما وُصف!)، فقال ان سلطته مستعدة لكذا وكيت كحل لحكم غزة. كانوا قد صمتوا دهراً – شهرين من المذابح التي يقول خبراء أجانب في الحروب أن لا مثيل لها في التاريخ الحديث للعالم كله – ويا ليتهم أبقوا أفواههم مغلقة، عوض مدّ بساط أمام الثرثرة الامريكية والاسرائيلية، وهؤلاء هم من صنف القتلة المجانين، وبساط آخر لشهية بعض أو معظم الحكام العرب الذين فقدوا كل غِيرة، ولو قطرة منها، وباتوا في تواطؤ مرعب مع القتلة المجانين أو في عجز مخزٍ يستحق أن ينهي أصحابه حياتهم، أو يهربون الى مكان ناء ويختفون...

ماذا يا سادة؟ تعملون منذ سنوات عسساً وشرطة لدى اسرائيل ثم تتكلمون عن حلول "ممكنة" (بناء على "البرغماتية" وهي ربّكم الأعلى وكذلك مصدر ثرواتكم الطافحة)، وتتجاهلون أن هناك إبادة حصلت في غزة؟ جريمة ضد الانسانية؟ وتجرؤون على الكلام عن انتخابات "ديمقراطية" خلال سنة أو اثنتين... في ظل الاحتلال؟ ولعلمكم يا سادة، فهذه مرحلة انتهت، وانتهت معها سلطتكم التي لم تعد "ممكنة" حتى في ظل دعم اسرائيل لها. إلا أن ربيبتكم تل ابيب لم تعد أصلاً تريد دعمكم، بل هي تنتقل الى حسم الأمور وليس الى البحث عن تسويات بشأنها.

لا تدركون أن هناك قطيعة تاريخية واقعة كشفتها الحرب على غزة؟ وربما ستقع في ثناياها حرب قد تكون صغيرة أو كبيرة، متدرجة أو كلية، في الضفة الغربية نفسها، وربما يقع تدمير المسجد الاقصى لبناء الهيكل في مكانه؟ احزموا امتعتكم وانصرفوا قبل فوات الأوان عليكم، فالأمر لا يتعلق بحماس.

اليكم محاولة في استكشاف الأمر:

جرّب الامريكان في العراق، وهم من سلالة من أباد الشعوب الأصلية في أمريكا شمالها وجنوبها، ومعهم والى جانبهم اؤلئك الكولونياليون الخبثاء (البريطانيون)، القوانين الجديدة التي يرون أنها يجب ان تسود العالم. وكانوا ما زالوا بحاجة الى حجج، وهي في العراق كانت القضاء على "أسلحة الدمار الشامل" الوهمية، وعلى طموحات غير مشروعة لصدام حسين تهدد دولاً نفطية جارة لبلاده. دمروا العراق تماماً ولم يأبهوا لنتيجة جانبية للحدث وكانت تمهيد الطريق لسيطرة إيران عليه، ولا لضرر جانبي آخر هو ظهور "داعش"، بل لعلهم فكّروا بكيفية استثمارهما في مزيد من تأجيج الحروب.

واليوم، وبعد تلك ال"بروفا دوركسترا"، بدأوا بتصفية الفلسطينيين. وصرح الآن مسئول لديهم بأن الحرب على حزب الله لا بد أن تحدث في الاشهر المقبلة. أحفاد من أبادوا شعوباً بحيلها منذ خمسة قرون، يعودون الى الإبادة. ليس الى الاخضاع والاستغلال، بل الى الاجتثاث.

كيف ولماذا؟ لأن هذا النمط من السلطة السائد اليوم في واشنطن ولندن وباريس وبرلين (خصوصاً) يمثّل رأسمالية مالية مقتلَعة الجذور من مجتمعاتها. تعمل في المضاربات المالية والعقارية على مستوى العالم، ويهمها البنك والبورصة والمضاربات الاستثمارية أكثر مما تهمها كل مصانع الكون التي أصبحت تحصيل حاصل أو التي باتت خاسرة بمقابل مصنع العالم الذي هو الصين. تهمها من المصانع تلك التي تنتج السلاح ومن التجارة من يبيع هذا السلاح، وتتقاتل فيما بينها من أجل الاستحواذ على صفقاته.

وتهتم طبعاً بالاستمرار بنهب ثروات موجودة في أنحاء مختلفة من العالم، خارج حدودها، كالنفط والغاز والمواد المنجمية الثمينة والنادرة كاليورانيوم والليثيوم وغيرهما.. وهذا كله، وليس أي انتاج مرتبط بالناس وبعملهم هو ما يراكِم أرباحها. لذا صار الناس حتى في تلك البلدان نفسها كميات فائضة عن الحاجة ولا لزوم لمعظمها. ولم تعد كل افكار وقيم "الحداثة" لها مكان في تلك المجتمعات نفسها، فيجري مثلاً تفكيك التعليم العام – الذي كان ركيزة للحداثة وبات بلا وظيفة، باعتبار حصر التعليم التقني (بلا فلسفة ولا آداب ولا علوم انسانية) بنخب قليلة تؤدي الغرض، ويجري انتهاك فصل السلطات – تلك الركيزة الكبرى - كل يوم، وعلاوة على الممارسة، باعتماد جهد هيكلي وقانوني لإلغاء ذلك الفصل. ويسود فساد مهول يُعامَل بخفة ويسر، ويسيطر رأس المال المالي على السلطة الرابعة (الإعلام) ويتحكم فيها.

فإذا كانت تلك هي حال مجتمعات البلدان "المتقدِّمة"، فكيف يُنظر الى مجتمعاتنا؟ تخيلوا الأمر! إنهم يرون فينا تماماً ما رأوه في السكان الاصليين الذين أسموهم الهنود الحمر، وكانوا قد قتلوا منهم مباشرة أو بالأوبئة وبالمجاعات أكثر من 50 مليون إنسان. وهؤلاء حضروا منذ أيام فأصدروا بياناً رائعاً ونظّموا تجمعاً في نيويورك للتضامن مع غزة وفلسطين، وقالوا أنهم يعرفون ما يجري لأنهم عاشوه قبل خمسة قرون. كما فعل أقرانهم من السكان الأصليين في استراليا.. وهو سر حساسية شعوب أمريكا اللاتينية المستنكِرة للإبادة الجارية للفلسطينيين.

كيف يحدث هذا الانتكاس الى ما يشبه ما وقع قبل خمسة قرون؟ الى بربرية لا مثيل لها مذاك بهذه الطريقة الممنهجة، على الرغم من وقوع حروب وفظائع واضطهادات مرعبة باسم "الحداثة" تلك، ما بين الإبادة الأولى وهذه الجارية اليوم.

... لأننا بازاء رأسمالية نهّابة ومقتلَعة من أي جذور مجتمعية. ولأنها كذلك فهي متفلتة من أي قيد أو اعتبار. انظروا كيف يكرر بايدن براحة ضمير أن لا هدنة في أفق هذه المرحلة من الحرب الدائرة في جنوب غزة، بعدما كان قال في مرحلة الحرب الاولى أن لا خطوط حمر أمام اسرائيل، وهو يستمر في ارسال الأسلحة الفتاكة. لا أحد يقف في وجه ما يجري، لا من العرب ولا من العجم، ولا أحد يكترث بموت آلاف الناس مجدداً تحت القصف أو من الجوع والعطش. ولعل ادراك خصائص تلك الحال، وأنها تامة، هو ما فات حسابات حماس التي ظنت أنها بازاء عملية كبرى ولكن محكومة بما هو "معتاد"، تنتهي بعد أيام من القتل بالتفاوض وتبادل الاسرى...

هذه ليست سوى بداية تحوّل في العالم، سينتج قوانينه، وأساليبه وأفكاره. لقد وقعت "القطيعة". وسنرى بعد أشهر أو سنوات إرهاصات لا يمكننا تخيلها من الآن... وستكون غزة هي العام الاول من عالم آخر هو بصدد التشكل والولادة.   

مقالات من فلسطين

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...