خرائط التنمية المفقودة في الساحل السوري

حضور السلطة المركزية في المشاريع الأصغر، المحصورة في خدمة أهالي الإقليم، يقرّ مركزياً، بعد اقتراح مجالس المدن والبلدات المعيّن أغلب أعضائها من السلطة المركزية، عبر "قوائم الجبهة الوطنية التقدمية" اﻹجبارية في الانتخابات المحلية، وهؤلاء ــ في الغالب ــ منتفعون من النظام، وليسوا فاعلين في المجتمع المحلي، وليسوا خبراء في إدارة العمل المحلي.
2024-04-30

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
ميناء اللاذقية، سوريا

هناك صور نمطية كثيرة، تكوّنت على مدى عقود طويلة، يتداولها السوريون عن مناطقهم كمناطق مظلومة قياساً بمناطق أخرى "مقرّبة ومحبوبة" من السلطة، فضلاً عن تعزيز لاواعٍ، غالباً، لهوية مناطقية قائمة على إرث تاريخي ـ سياسي يغمض العين عن استبصار المغالطة في هذا المنطق، نتيجة واقع الحاضر السيئ.

تتعقد هذه الصور وتتعزز في الوجدان الجمعي، مع تحالف صور الحاضر الحالي السلبية، وصور الماضي السلبية أيضاً، المتحوّل إلى صانع للخراب الحاضر. وليس من السهولة بمكان كسر هذه الصور، التي تكوّنت على مدى عقود من التغييب واﻹنغلاق الاجتماعي المدعوم من السلطة نفسها.

صورة الساحل السوري، كابنة مدللة للسلطة الحاكمة منذ عقود، هي واحدة من هذه الصور النمطية المتداولة لدى السوريين. ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن كثيراً من المنقولات الشفهية، تحيل على علاقة فردية لكل فرد في هذه المنطقة مع السلطة ورأسها من بوابة أو أخرى، قد تكون بوابات القرابة أو الطائفة أو الانتماء السياسي، أو كلها، مما يمكن أن يشكّل صورة مخادعة، تستند إلى شخصية حقيقية في بناء صورة مخاتلة.

ﻹثبات هذه النمطية والتأكيد على مغالطاتها، فإن استعراض مسألة التنمية السلطوية المزعومة للمنطقة، والبحث في التجاهل المقصود فعلياً للمنطقة، يتيح تفكيك تلك السرديات النمطية، ﻹثبات وحدة الحال السورية في رفض السلطة الاستماع إلى المجتمعات المحلية، وكبت أصواتها التنموية، والإصرار على مركزية القرار ولو كان عياناً مغلوطاً وكارثياً.

يذكر أهل "اللاذقية" ــ مثلاً ــ أنّ إنشاء "مرفأ اللاذقية" في موقعه الحالي، تسبب في قتل الواجهة البحرية للمدينة، وحوّلها إلى مجموعة أسوار ملتفة على أجمل مواقعها السياحية، التي كان المجتمع المحلي على مدار قرون يعيش منها، في حين أنّ أهل "اللاذقية" القدامى، عملوا على إنشاء مرفأ غير بعيد عن المدينة ويخدّمها بشكل كامل، هو مرفأ "مينة البيضا"، ومنه انطلقت سفن "أوغاريت" تغزو عالم المتوسط.

وبالمثل، فإن هناك عشرات الأمثلة الأخرى، التي تثبت أنّ تجاهل السلطة لموارد المجتمعات المحلية السورية عموماً، والساحلية خصوصاً، فوّت فرصاً هائلة لبناء تنمية مستدامة، كان يمكنها ــ خلال سنوات الحرب الأخيرة ــ أن تحمي هذه المجتمعات من الوقوع في براثن الحصار المزدوج ـ الخارجي والداخلي ـ اعتماداً على فهم خصوصية كل إقليم سوري، ومميزاته التي يجب مراعاتها في عمليات التنمية المركزية.

موقع أوغاريت الاثري الذي يقع على بعد 12 كلم من مدينة اللاذقية

موارد إقليم الساحل السوري

لم تحدد قوانين الإدارة المحلية، خاصة القانون رقم 107 لعام2011 الأقاليم اﻹدارية لسوريا، ولم تذهب في اتجاه تبني فكرة الإقليم في التقسيم اﻹداري. ويقصد باﻹقليم توحيد ومعاملة المناطق الجغرافية القريبة من بعضها، تبعاً لمنطق المصلحة المجتمعية للسكان، بعيداً عن التقسيم اﻹداري الذي لم يراع هذه النقطة. وعلى العموم، فإنّ سوريا مقسمة على سبعة أقاليم على الأكثر، أصغرها مساحة هو إقليم الساحل.

تقدّر مساحة إقليم الساحل السوري ــ جبلاً وبحراً ــ بحوالي أربعة آلاف كيلو متراً مربعاً، ويضم محافظتين، "اللاذقية" أكبرهما ثم "طرطوس"، ويضم إضافة إلى مركزي المحافظتين، عدداً من المدن الصغيرة مثل: "بانياس"، و"جبلة"، وعدداً من مراكز بلدات مثل: "صافيتا" و"القرداحة" و"الدريكيش"، فيما تتوزع آلاف القرى مختلفة المساحة والسكان والموارد على الجبال، التي تمتد حتى "حمص" و"حماة" و"إدلب"، ويمكنها أن تتحول إلى مراكز جذب للسياحة البيئية والطبيعية بدرجات كبيرة.

حتى العام 1969 كان الساحل محافظةً واحدة، ثم قسّم على محافظتي "طرطوس "و"اللاذقية"، استجابة لرغبة البعثيين وفقاً لما هو متداول. وحتى بدء الحراك السوري، شكّلت المحافظتان في العام 2010 ما تقديره بين عشرة إلى خمسة عشر في المئة من الناتج المحلي الإجمالي السوري، الذي بلغ 129 مليار ليرة سورية، أي ما يعادل 2.57 مليار دولار بأسعار العام 2010.

مشاركة الجهات الفاعلة في المجتمعات المحلية في تشكيل المشهد الحضري هي في حدّها الأدنى، إن لم نقل معدومة. يعود ذلك إلى أنّ فكرة السلطة عن المشاركة المجتمعية في صناعة القرار هي الأخرى في حدّها الأدنى، وتخضع لثنائية الولاء والبراء، وبالتالي يخضع المشاركون في هذه العمليات النادرة لعملية انتقاء ليس للمجتمع دور فيها.

كانت المراقبة والمعاقبة وتفتيت المجتمع سياسات دائمة، مبنية على الخوف من الاجتماع والاتفاق لما فيه صالح المجتمعات المحلية وتنميتها. تحضر هنا عشرات التجارب، التي خُرّبت فيها موارد المياه المحلية لصالح استجلاب المياه من مناطق بعيدة من قبل مجالس هذه المدن والبلدات، مما يمكن أن يشكّل دائماً سلاحاً ضد المجتمعات المحلية، في حال خروجها عن النسق السلطوي.

موارد الساحل الاقتصادية الخاصة، التي تختلف عن موارد مناطق سوريّة أخرى، تتركز بشكل أساسي في السياحة والبيئة وبعض المحاصيل الزراعية الصناعية، ثم في قطاع الخدمات الناتجة عن موقع الإقليم البحري.

شكّلت الزراعة 22 في المئة من إجمالي الناتج الوطني السوري GDP، وأكثر من نصف إجمالي الناتج المحلي لإقليم الساحل حتى العام 2010. وتتوزع زراعة اﻹقليم بين الساحل، حيث يحتل التبغ والخضروات والزراعات المحمية والحمضيات المرتبة الأولى، والجبل الذي يحتضن زراعات: الزيتون، والفواكه، والمواد والأعشاب العطرية.

أما السياحة، ففي اﻹقليم ميزات خاصة، منها في جانب الآثار، أكثر من خمس قلاع كبيرة الحجم، وما لا يقل عن خمسين موقعاً أثرياً، منها مواقع متفردة، مثل: "أوغاريت"، و"حصن سليمان"، و"مدرج جبلة الروماني". والى جانب سياحة الطبيعة والبيئة، هناك البقية الباقية من غابات سوريا، حيث يحتضن اﻹقليم أكثرها، وهناك سياحة تسلق الجبال والوديان والبحيرات والكهوف والأشجار المعمّرة وغيرها، إضافة إلى البحر والصيد والسياحة البحرية بأنواعها، كما أنّ هناك موارد ثقافية واجتماعية كثيرة، فهناك التراث الشعبي المادي واللامادي، منه الاحتفالات الشعبية والدينية، في مراكز القرى الكبيرة، مثل احتفالات أعياد الرابع والربيع والرمان والتفاح وغيرها، مما يشكّل ذخيرة هائلة يضاف إليه التنوع السكاني الكبير.

وتمتد الموارد الخاصة إلى اقتصاد الخدمات، الذي يشكّل حوالي 36 في المئة من إجمالي الناتج المحلي لإقليم الساحل، ويقصد به الخدمات الناشئة عن عمليات اقتصادية متعددة، مثل تخليص البضائع من المرافئ وخدمات "الترانزيت"، والنقل عبر السكك الحديدية والبرية، ويضم خدمات مرافئ: "اللاذقية"، و"طرطوس"، و"بانياس" النفطي.

خرائط التنمية المفقودة

عبر عقود، لم يأخذ الساحل السوري أية أفضلية في عمليات التخطيط الحكومي، على الرغم من أنّ الساحل في التخطيط الحكومي ﻷي بلد، يعطى تركيزاً زائداً بالتكامل بالضرورة مع بقية الجغرافيات، بحكم أنه بوّابة اقتصادية وثقافية مفتاحية للبلاد.

يؤكد غياب الأفضلية أنّه ليست هناك ــ فعلياً ــ خريطة تنموية للإقليم، وما نقصده بالخريطة التنموية، بشكل مختصر، أنها مجموعة التصورات والأدوات، التي غايتها تحسين شروط حياة الناس في أماكن تواجدهم، اعتماداً على مواردهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتنسجم مع مبدأ عدالة توزيع التنمية على المناطق كافة. وينتج هذا النوع من الخرائط بشكل أساسي بالتشارك بين المركز ـ وزارات الدولة ـ والقوى المحلية في الإقليم من الفاعلين الاقتصاديين، إلى الرموز المجتمعية الحاضرة في الحياة اليومية للناس.

كان الساحل مكتفياً في صناعة الخبز عبر موارده المحلية حتى مطلع الثمانينيات، عبر سلسلة متكاملة من الزراعة، إلى طحن الحبوب، إلى الحصول على الطحين. في السنوات الأخيرة، بدأ قطاع الزراعة بمواجهة عدد متزايد من المشاكل والمعوقات، وهذه لم تكن بسبب بنية القطاع الزراعي نفسه، بل نتيجةً لإجراءات الحكومة الحالية والحكومات السابقة، وكانت هذه اﻹجراءات أكثر إضراراً بالقطاع من مفاعيل الحرب.

ليس هناك خريطة تنموية خاصة للساحل، وما هو موجود حالياً نتاج تخطيط مرحلة الثمانينيات المركزية، حيث لم تعتمد حكومة دمشق منهج التخطيط الإقليمي، على الرغم من أن لها تجارب قصيرة مع الاتحاد الأوروبي مطلع الألفية الجديدة، وبقي التخطيط المركزي هو الوحيد المعتمد، الذي يجب على المجتمعات المحلية تنفيذه، سواء وافق ذلك حاجاتها أم لم يوافق. وعلى الرغم من صدور قانون اﻹدارة المحلية رقم 107 للعام 2011، الذي قضى بتخفيف كثير من القيود المركزية، وإتاحة المجال للمجتمعات المحلية واﻹدارات المحلية للعمل بنظام تشاركي مع المركز، وكان أقرب إلى اللامركزية، إلا أن وقائع السنوات التالية للبلاد، مع اشتداد المعارك والصراعات، دفعت بهذا القانون إلى الرف.

هناك مثال فاقع للتخبط في التخطيط المركزي فيما يخص الساحل، وهو وجود معملين للخيوط القطنية وتوابعها في "جبلة" و"اللاذقية"، من دون أن تكون هاتان المنطقتان تزرعان متراً مربعاً واحداً من القطن. وبسبب هذا الوضع، توقف المعملان سنوات طويلة، عندما انقطعت الطرق في سوريا بين الجزيرة وحلب والساحل. وحتى اليوم فإن هذين المعملين - يضمّان أكثر من خمسة آلاف عامل وفني - مهددين باﻹغلاق، بسبب توجهات الحكومة لبيع القطاع العام، أو بسبب عدم توافر كميات كافية من الأقطان.

مقالات ذات صلة

بالمقابل، وعلى الرغم من تاريخ طويل من الأحاديث الحكومية منذ العام 1963، عن "أهمية وضرورة ولزوم" إنشاء معمل لتصنيع الحمضيات التي ينتجها الساحل، فليس هناك معمل قطاع عام واحد، بينما هناك معملان للقطاع الخاص، يستوردان موادهما الأولية من الخارج، عدا نسبة قليلة منها، ومؤخراً أشيع عن نية مستثمر، بناء معمل للاستثمار في صناعة الحمضيات من خارج المجتمع المحلي.

تدمير البيئة الساحلية

في العام الماضي (2023)، وافقت دمشق على إقامة مصفاة نفط إيرانية، في مدينة "بانياس" الساحلية، لتكون المصفاة الثانية في مدينة شريطها الساحلي هو الأضيق على الشاطئ السوري، وفي وقت تشير فيه الدراسات البيئية إلى أنّ نسبة التلوث الكربوني في المدينة هي في حدها الأعظم، مسجّلةً نسبة فوق سبعين في المئة، بحسب تقارير منظمات الصحة الدولية، لتكون أكثر مدينة على ساحل المتوسط تلوثاً.

آخذين بالاعتبار أن تكنولوجيا منشآت الساحل الصناعية الموجودة مثل مصفاة "بانياس" ومعمل الإسمنت ومصب النفط، هي تكنولوجيا قديمة، مصدرها المعسكر الاشتراكي السابق، وتكنولوجيا المصفاة الجديدة، سيكون غالباً مصدرها الصين وإيران ـ فهذا يعني أنّ المدينة ستصبح غير قابلة للعيش في غضون سنوات قليلة، من دون نسيان أنّ إنشاء المصفاة سيلتهم آلاف الهكتارات الزراعية.

وأياً كانت مبررات إنشاء هذه المصفاة ـ في حال تمّت صفقة بنائها وهو الأرجح، ﻷن الأمر مرتبط بالديون الإيرانية على دمشق البالغة فوق 40 مليار دولار أميركي ـ فإن سياسة الحكومة كانت يمكن أن تكون أكثر ربحية وإنتاجية ونظافة لبيئة الساحل، فيما لو ركزّت ــ مثلاً ــ على رفع إنتاجية مرافئ الساحل الثلاثة: "اللاذقية" و"بانياس" النفطي و"طرطوس"، أو مصفاة "بانياس" نفسها، التي تعمل في حدّها الأدنى منذ سنوات.

هناك عشرات الأمثلة التي تثبت أنّ تجاهل السلطة لموارد المجتمعات المحلية السورية عموماً، والساحلية خصوصاً، فوّت فرصاً هائلة لبناء تنمية مستدامة، كان يمكنها ــ خلال سنوات الحرب الأخيرة ــ أن تحمي هذه المجتمعات من الوقوع في براثن الحصار المزدوج ـ الخارجي والداخلي ـ اعتماداً على فهم خصوصية كل إقليم سوري، ومميزاته التي يجب مراعاتها في عمليات التنمية المركزية.

يلاحظ هنا أن تنافسية المرافئ السورية ــ قياساً بمرافئ المنطقة ــ هي في حدها الأدنى، سواء تحدثنا عنها قبل الصراع الحالي أو بعده، وتعيق البيروقراطية اﻹدارية إنجاز معاملات التخليص الجمركي بسرعة، هذا عدا عن التدخلات الأمنية والسياسية في إدارة المرفأ في الوقت الحالي.

ويعمل المرفآن الأساسيان لسوريا بإنتاجية ضعيفة، يعود جزء منها إلى واقع الحرب السورية منذ عشر سنوات، وفي كل الأحوال، فإن استفادة السكان المحليين من المرافئ، هي في حدها الأدنى، عبر تاريخ طويل من التركيز على كونهما مرفأين وطنيين، يخدمان السوريين جميعهم، ولا يذهب جزء من واردات المرافئ إلى ميزانيات هذه المدن.

وإذا كانت هذه المشاريع تحمل الصفة الوطنية، فإنّ هذا لا يلغي أنّ استفادة المجتمعات المحلية منها ضرورة قصوى، ليس فقط في جانب العمالة والتوظيف، بل في جانب المسؤولية المجتمعية لمؤسسات المرافئ، بصفتها تعبيراً عن هويات المدن بحد ذاتها. والمشكلة لا تقف هنا، بل تستمر في حضور السلطة المركزية في المشاريع الأصغر، المحصورة في خدمة أهالي الإقليم، فهي تقرّ مركزياً، بعد اقتراح مجالس المدن والبلدات المعيّن أغلب أعضائها من السلطة المركزية، عبر "قوائم الجبهة الوطنية التقدمية" اﻹجبارية في الانتخابات المحلية، وهؤلاء ــ في الغالب ــ منتفعون من النظام، وليسوا فاعلين في المجتمع المحلي، وليسوا خبراء في إدارة العمل المحلي.

يتضح أثر هذه المجالس المحلية الكارثي وغياب الخبرات الفاضح، في كثير من القضايا الخدمية اليومية للناس، فعبر ما يقرب من نصف قرن من اتّباع أسلوب التعيين اﻹجباري، لم تنجح هذه المجالس على كل المستويات في حل عشرات القضايا المزمنة، ومنها مثلاً مسألة معالجة وإعادة تدوير النفايات المنزلية والصناعية والزراعية، التي تحوّلت في بلدان أخرى إلى صناعة قائمة بحد ذاتها، تكفل تأمين أنواع من الوقود والسماد، وتكفل حماية البيئة من التلوث. وحتى اليوم تعتمد هذه المجالس فكرة "المطامر" والحرق والرمي في مناطق الوديان والأنهار وشاطئ البحر، والبحر نفسه، ومنها مكب "البصّة"، الذي التهم واجهة رملية من المدينة تعتبر الأجمل من بين شواطئها، وهو ما جعل الساحل السوري، ككل، مرتعاً خصباً ﻷعلى نسب التلوث البيئي بأنواعه، في حين أنه يجب أن يكون من البيئات النظيفة، كونه يوصّف إدارياً ويعامل ضريبياً كمناطق سياحية.

تدمير الفاعلين المجتمعيين

خارج حضور الدولة / النظام السياسي ومؤسساته، فإن مسألة مشاركة الجهات الفاعلة في المجتمعات المحلية في تشكيل المشهد الحضري هي في حدّها الأدنى، إن لم نقل معدومة. يعود ذلك إلى أنّ فكرة السلطة عن المشاركة المجتمعية في صناعة القرار هي الأخرى في حدّها الأدنى، وتخضع لثنائية الولاء والبراء، وبالتالي يخضع المشاركون في هذه العمليات النادرة لعملية انتقاء ليس للمجتمع دور فيها.

على مدار عقود فائتة، عملت السلطة السورية على إبعاد الفاعلين المجتمعيين عن صناعة القرار إلا ما يخدم مصلحتها، مثل استخدام رجال الدين في النزاعات، أو رجال الأعمال في تمويل الميليشيات المسلحة التابعة لها. ولذلك ظهر دور هؤلاء وغيرهم بالنسبة إلى المجتمع مشوباً بتهمة التعاطي مع سلطة بعيدة عن المجتمع، وحتى في أدوار أسندت إلى التنظيم السياسي الوحيد في المجتمع ـ حزب البعث ـ فقد كانت المراقبة والمعاقبة وتفتيت المجتمع سياسات دائمة، مبنية على الخوف من الاجتماع والاتفاق لما فيه صالح المجتمعات المحلية وتنميتها.

تحضر هنا عشرات التجارب، التي خُرّبت فيها موارد المياه المحلية لصالح استجلاب المياه من مناطق بعيدة من قبل مجالس هذه المدن والبلدات، مما يمكن أن يشكّل دائماً سلاحاً ضد المجتمعات المحلية، في حال خروجها عن النسق السلطوي. وفي تجربة مفصلية أخرى، كان الساحل مكتفياً في صناعة الخبز عبر موارده المحلية حتى مطلع الثمانينيات، عبر سلسلة متكاملة من الزراعة، إلى طحن الحبوب، إلى الحصول على الطحين. اليوم إذا توقف توريد الطحين من المركز، فإن الساحل سيقع بسهولة في فخ الجوع (وكل المناطق السورية الأخرى، ﻷنها عاشت التجربة نفسها).

تدمير البنى التحتية في الزراعة والحياة

يؤدي تنوع التضاريس والمناخ في اﻹقليم إلى تنوع اﻹنتاج الزراعي، وبالتالي تشغيل أعداد كبيرة من السكان، عبر سلاسل اﻹنتاج الزراعي المتنوعة والتصدير المحلي والخارجي، وحتى اﻵن، لا يزال القطاع الزراعي في إقليم الساحل فعالاً ومنتجاً، ويشارك في التنمية المحلية للإقليم، كونه مصدر دخل يؤمّن إعالة نسبة كبيرة من الناس.

ولكن الإنتاجية في هذا القطاع، لم تختلف عن أنماط الاعتماد على الطبيعة والمطر، ولم تتحول إلى إنتاج قيمة مضافة إلى الأرض ـ عبر تكثيف الزراعات ـ ولا إلى المنتجات نفسها عبر تصنيعها، في غياب الصناعات التحويلية المرتبطة بالزراعة، مثل: التعليب، والتجفيف، والتعصير. وغالبية المنتجات تستهلك كما هي، أو تتعرض للتلف، والحمضيات نموذج صارخ لهذا الوضع، الذي دفع ويدفع مزارعين إلى التخلص من أشجارهم، وقلعها والتوجه إلى زراعات أكثر إنتاجية، من مثل زراعة الأشجار الاستوائية.

هناك مثال فاقع للتخبط في التخطيط المركزي فيما يخص الساحل، وهو وجود معملين للخيوط القطنية وتوابعها في "جبلة" و"اللاذقية"، من دون أن تكون هاتان المنطقتان تزرعان متراً مربعاً واحداً من القطن. وبسبب هذا الوضع، توقف المعملان سنوات طويلة، عندما انقطعت الطرق في سوريا بين الجزيرة وحلب والساحل.

المطالبات بتحويل مواسم الحمضيات من مستواها التجاري الأوّلي ـ وهو ضروري لا شك فيه ـ إلى مستوى تصنيعي في العصائر والمجففات لم تنجح على الرغم من مئات الوعود، التي قدمتها الحكومات المتتالية. أما المجتمع المحلي ــ ونتيجة لغياب الفاعليات الاقتصادية والاحتكار والفساد ــ فإنه لم ينجح في ابتكار تجربة اقتصادية ـ تشاركية مثلاً ـ لحماية وتوسيع ودعم هذه الزراعة.

وفي حين اعتبرت زراعة القمح والقطن والشوندر من الزراعات الاستراتيجية التي يجب دعمها حكومياً ـ وهذا منطقي ـ إلا أنّ الحمضيات لم تتمكن من الوصول إلى هذا التصنيف، على الرغم من أنها يمكن أن تشكل قيمة مضافة كبيرة إلى الاقتصاد السوري ككل، وإلى المجتمعات المحلية بشكل خاص. نقيس هنا مثالاً على الحمضيات في إسبانيا (أو مصر)، حيث يشكل تصدير الحمضيات في اقتصادها نسبة 12 في المئة، ومساحة زراعتها في إسبانيا ليست أكبر بكثير من مساحات زراعة الحمضيات في الساحل السوري.

وكمثال أيضاً على الفشل الحكومي والمحلي في قطاع الحمضيات، نشير إلى أنّ البرازيل تصنّع أكثر من 73 في المئة من إنتاجها، مما يعزز القيمة المضافة عندها اقتصادياً، بينما نسبة التصنيع في سوريا لا تتجاوز 4 في المئة، وتتضمن بقية المواسم غير المصدّرة، حيث يسهم التصنيع في تقليل الفاقد أو التالف، ويعمل على زيادة تشغيل الأيدي العاملة، نظراً لإمكانية بيع المنتج المصنع بصورته النهائية، عند تصديره كمنتج ذي جودة عالية.

في السنوات الأخيرة، بدأ قطاع الزراعة بمواجهة عدد متزايد من المشاكل والمعوقات، وهذه لم تكن بسبب بنية القطاع الزراعي نفسه، بل نتيجةً لإجراءات الحكومة الحالية والحكومات السابقة، وكانت هذه اﻹجراءات أكثر إضراراً بالقطاع من مفاعيل الحرب. مثلاً، غالبية حكومات العالم تدعم تقديم اﻷسمدة للمزارعين، وتوفر لهم المواد اﻷولية من بذار وأكياس وعبوات تغليف بشكل شبه مجاني، إلا أن ّ الحكومة السورية، وتبعاً ﻹجراءاتها الاقتصادية الليبرالية الطابع، تخلّت عن كثير من هذا الدعم، ومثاله الحاضر، دعم المازوت اللازم لتشغيل اﻵبار ومضخات الري، وانسحب ذلك على عددٍ من قطاعات الدعم الزراعي، مع ارتفاع جنوني في أسعار السماد.

العامل الآخر الذي خرّب الزراعة كثيراً، هو وضع التيار الكهربائي، الذي أثّر على اﻹنتاج الزراعي المحمي والعادي، بسبب عدم القدرة على الري في غالب اﻷحيان، ومع ارتفاع ساعات التقنين الكهربائي إلى عشرين ساعة يومياً، عزف المزارعون عن أعمالهم، واتجهوا إلى قطاعات أخرى، مثل الجيش والمؤسسات الأمنية والتجارة وغيرها.

تدمير السياحة وعشوائيتها

يمتلئ إقليم الساحل بمئات المواقع سياحية التصنيف، لكنها في خدمتها وتخديمها لا تتمتع بهذه الصفة سوى في الفواتير، وهذه المواقع حتى في تصنيفها السياحي أصابها تشويه حداثي عمراني، مرتبط بأشكال الأبنية الإسمنتية، وتعزيز ثقافة الإسمنت على حساب مواد البيئة المحلية، التي كان يمكن أن تشكّل نقطة جذب سياحية في حد ذاتها، ومثالها البيوت الطينية، بأنظمتها المتكاملة من التدفئة إلى التهوية، وقد اختفت من الجبال كلياً، وبذلك فقد الجبل سمة معمارية تراثية وحضارية، أعطب فقدانُها جزءاً مهماً من أنواع السياحة المحلية والخارجية.

لحق هذا التشويه تحويل الأملاك العامة مثل اﻷحراش إلى أملاك خاصة، وتقطيع ممنهج للغابات بسبب عدم وعي المجتمعات المحلية بأهمية هذه الغابات وعمرها الممتد إلى آلاف السنين، وبسبب مضاف هو اتجاه بعض أمراء السلطة إلى الاستثمار في مواقع هذه الغابات عمرانياً.

بشكل مختصر، فقد شُوِّهت السياحة في إقليم الساحل، وتحوّلت إلى سياحة فقر، عمادها خبز المعجنات (الفطائر)، وبيع بعض أنواع العصائر المنتجة في البيوت (دبس رمان، أو ماء زهر، أو غير ذلك). وعلى سبيل المثال، فإنّ الجبال لا تضم فنادقَ شعبية أو تراثية أو بيوت خدمة، أو أي نوع من أنواع النّزل، وهذا يمنع السياح من قضاء أيام هناك، لا في الشتاء حيث يتوافر موسم ثلوج، ولا في الصيف (ما عدا منطقة "صلنفة" في "اللاذقية"، حيث تتوافر شقق للإيجار، وفندق يتيم، وفندق آخر أربع نجوم في "القرداحة"، تحوّل إلى مركز إيواء لمتضرري زلزال شباط/ فبراير الماضي).

في العام 2023، وافقت دمشق على إقامة مصفاة نفط إيرانية، في مدينة "بانياس" الساحلية، لتكون الثانية في المدينة. وأياً كانت المبررات - حيث الأمر مرتبط بالديون الإيرانية على دمشق البالغة فوق 40 مليار دولار أميركي ـ فإن الأمر كان يمكن أن يكون أكثر ربحية وإنتاجية ونظافة لبيئة الساحل، فيما لو ركزّت مثلاً على رفع إنتاجية مرافئ الساحل الثلاثة.

هذه الصورة لم تتغير على مدار عقود، على الرغم من تفكير الحكومة المركزية، في الاستغلال السياحي للمناطق التي لم تدخل خضمّ الحرب. ولم تسهم الأنشطة الاقتصادية المقترحة أو البديلة، في تغيير تلك الصورة، فالسياحة في إقليم سياحي ترتكز على الاستثمارات في الشريط الساحلي إلى حد كبير، ويسهم غياب الفاعلين الاقتصاديين في الجبل نفسه أو عدم الوعي بهذه المسائل، في بقاء سياحة الفقر وتعزيزها جيلاً بعد جيل في تلك البقاع.

يحضر في هذا الجانب هدر لا نهائي للتراث الثقافي للجبل والساحل معاً، ففي حين كان يمكن لمواقع تاريخية، تحتضن مهرجانات شعبية متكررة سنوياً ﻷسباب دينية أو اجتماعية، أن تشكّل موسم جذب سياحي، يستوجب التنمية محلياً، فإنّ السلطات عبر تدخلها ألغت هذا الاحتمال، وجعلته محكوماً بالحالة الأمنية بكثافة، هذا فضلاً عن هدر مماثل للحرف التقليدية في الجبال، وغياب المتاحف الشعبية لها، وغير ذلك من قضايا مرتبطة، أضاعت بالمجمل الهوية المحلية على مذبح الحداثة والجهل المقدس.

خلاصة ما لا يُلخّص

يمكن الاستنتاج بسهولة، أن كل المناطق السورية تعاني من نفس هذه العقلية في اﻹدارة والتخطيط، وهو ما أنتج عبر عقود مزيداً من المشكلات، بدلاً من الإسهام في التقليل منها، ودفع المجتمعات المحلية نحو مواقع تنموية جديدة، تقي فيها مواردها وإمكاناتها من الهدر والتدمير والخراب. ومن الضروري ــ بالتالي ــ التفكير في إعطاء هذه المجتمعات حرية صناعة مستقبلها، عبر بيئة قانونية وتشريعية، تعزز اللامركزية والقرار المحلي.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه