التعليم في سوريا اليوم: تنافس على الرداءة!

لم تكن الحرب وحدها سبباً في انهيار منظومات التعليم العام في سوريا، إذ سبقها منذ مطلع القرن الحالي توجهات استراتيجية حكومية نحو التخفف من واجباتها تجاه قطاع التعليم كما القطاعات الأخرى، فيما يمكن تسميته "لبرلة التعليم" شكلاً. وكان ذلك واضحاً في تخفيف الإنفاق الحكومي على التعليم من اثني عشر في المئة إلى سبعة في المئة من ميزانية الدولة من العام 1970 إلى العام 2010.
2023-12-15

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
| en
مدارس مدمرة في سوريا

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

"على الرغم من سعينا لتأمين كتب جديدة ﻷبنائنا وبناتنا، إلا أننا لم نوّفق حتى اﻵن في الحصول عليها من المدارس أو مستودعات الكتب المدرسية، وتلك المتوافرة في المكتبات الخاصة أسعارها مضاعَفة خمس مرات على الأقل، وليس بأيدينا حل سوى الاعتماد على الكتب القديمة شبه التالفة التي سُلِّمت لنا في المدارس الحكومية على أمل أن نجد بديلاً مناسباً".

يتردد هذا الكلام على لسان نسبة كبيرة من أسر تلاميذ المرحلة التعليمية اﻷولى والثانية (دون 18 عاماً) في مناطق سيطرة الحكومة السورية، بعد مضى شهرين على افتتاح العام الدراسي الجديد، حيث كان من المفترض توزيع الكتب وفق أسعار مدروسة أو بشكل مجّاني للمرحلة الابتدائية (دون 12 عاماً)، في حين أنّ مناطق سيطرة "اﻹدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" (مناطق "الجزيرة") تسلِّم التلاميذ والطلاب كتباً جديدة بأسعار مقبولة ولكن بمنهاج مختلف. أما مناطق سيطرة جماعات معارِضة شمال وغرب سوريا (إدلب وريف حلب الغربي)، فإنّ الأهالي يدفعون ثمن الكتب والدفاتر لمنهاج تعليمي ثالث مختلف.

لا يختلف الأمر على مستويات التعليم ما بعد الثانوي، إذ تنقسم البلاد تعليمياً بالطريقة نفسها. وفي الجغرافيات السورية الثلاث، ظهرت أنماط جديدة من التعليم الخاص للمراحل الدراسية كلها تشوبها تهم الفساد وتردِّي الجودة التعليمية.

توضح هذه الصورة العامة مشهد التعليم السوري في الوقت الراهن، وارتباطه العضوي بالقوى المسيطرة على الأرض، وتشير إلى مستقبل غامض ومنقسم للأجيال التي ستتخرج من هذه المدارس، في وقت وصل فيه عدد سكان البلاد إلى قرابة ثلاثين مليوناً، يقبع أكثرهم تحت مستوى خط الفقر العالمي، وفوق ذلك نصفهم من الشرائح الشابة التي تبحث عن تعليم يؤهِّلها للدخول الى أسواق العمل.

سوريا تعليمياً بعد عقد على الحرب

وفق إحصاءات محلية وعالمية، وصل معدّل حضور التلاميذ في المرحلة الابتدائية في سوريا قبل النزاع الحالي إلى 98 في المئة من أطفال البلد، ومعدّلات معرفة القراءة والكتابة للجنسين في حدود 90 في المئة. أما اليوم، فهناك وفق إحصاءات أممية 2.4 مليون طفل خارج المدرسة، نحو مليون منهم في مناطق المعارضة، مع وجود عدد أكبر بكثير من الأشخاص المعرَّضين لخطر التسرب نتيجة لعوامل مختلفة، خاصة مناطق الاشتباكات والمناطق التي ضربها زلزال السادس من شباط 2022 في أربع محافظات هي اللاذقية وحلب وإدلب وحماة.

تنسيق وتوحيد المواد المستخدَمة في التدريس والتعلم مشكلة رئيسية في أنحاء البلاد. فنظراً للانقسام السياسي هناك ثلاثة مناهج دراسية مستخدَمة في سوريا تتبع القوى المسيطرة على الأرض بشكل جزئي أو كلي.

هناك تعليم حكومي وآخر خاص في سوريا. أما التعليم الحكومي فهو نوعان، رسمي وغير رسمي. ينقسم الرسمي إلى مرحلتين، الأولى إلزامية وتضم الأطفال في أعمار بين السادسة والسادسة عشرة عاماً وتسمى المرحلة الأولى (الصفوف من الأول إلى التاسع)، والثانية مرحلة التعليم الثانوي في أعمار بين السادسة عشرة حتى الثامنة عشرة (الصفوف من العاشر إلى البكالوريا علمي وأدبي وتجاري وصناعي وفنون) وهي غير إلزامية. ويداوم جميع الطلاب في مدارس حكومية، وتعليم كافة الصفوف قبل الجامعي مجاني حتى الآن.

أما التعليم "غير الرسمي" ويسمى المنهاج (B) فهو منهاج مواز للمنهاج الرسمي أقرته وزارة التربية الحكومية بالتعاون مع منظمة اليونسكو، وهو مجاني أيضاً يشمل تعليماً للمتسربين من المدارس أو أولئك الذين انقطعوا عن التعليم لسنوات، أو من يُحتمل أنهم لن يعودوا إلى الدراسة، وهم بحاجة إلى معارف أساسية في اللغات والرياضيات، حيث يُنهي هؤلاء منهاج كل صف دراسي كامل في فصل دراسي واحد، أي "كل صفين بسنة". وهذا التعليم ينفذ في مدارس حكومية أو مستأجرة، ولقي هذا المنهاج اهتماماً أهلياً جيداً نظراً ﻷنه يغطي انقطاع طلاب عن الدرس بسبب الحرب أو التهجير. ووفق احصائيات رسمية، بلغ عدد المستفيدين منه قرابة مئتي ألف تلميذ.

يُعدّ تنسيق وتوحيد المواد المستخدَمة في التدريس والتعلم مشكلة رئيسية في أنحاء البلاد، فنظراً للانقسام السياسي هناك ثلاثة مناهج دراسية مستخدمة في سوريا تتبع القوى المسيطرة على الأرض بشكل جزئي أو كلي.

إلى ما سبق، هناك تعليم خاص للمراحل قبل الجامعية، يتوزع في مختلف المدن، وبسويات مختلفة، ولكن الانضمام إليه ليس في مقدور معظم السوريين، حيث أن تكلفته عالية خلا بعض المدارس التي توفرها هيئات اجتماعية أو دينية، وهي قليلة.

الأطفال المولودون في العام الأول للحرب، هم في الثانية عشرة من عمرهم اليوم، وعلى الأرجح فإنهم توقفوا عن تلقي الدروس في مرحلة من المراحل في مختلف المناطق السورية نتيجة للمعارك أو ذيولها أو جائحة كوفيد 19 أو الزلزال، لينضمّوا بخسارتهم هذه إلى قائمة الأجيال الضائعة من السوريين التي تتزايد يوماً إثر آخر مع استطالة الأزمة وغياب أفق للحل الشامل.

وبعد أن كان هناك فائض ملحوظ في عدد المدارس العامة وكافٍ لاستيعاب التلاميذ الجدد بمعدلات اقتربت من المعدلات العالمية للاستيعاب في الغرفة الصفية الواحدة (عشرين تلميذ)، وكانت في حدود 22200 مدرسة العام 2010، تُغطي كامل سوريا، فإنه وفي تصريحات لوزارة التربية الحكومية قد تضاءل عددها إلى 505 14 ألف مدرسة في العام 2023، تضم حوالي أربعة ملايين تلميذ وطالب في سوريا كلها، بخسارة سبعة آلاف مدرسة، في حين قدّر وزير التربية السابق عدد المدارس المتضررة بنحو عشرة آلاف مدرسة، منها خمسة آلاف مدمّرة بشكل كامل.

كانت الهجمات على المدارس حدثاً معتاداً خلال سنوات الصراع، فيما أدت ظروف النزوح إلى استخدام مئات المدارس مراكزَ للإيواء على مدى السنوات الماضية وتحوّلت مدارس أخرى إلى ثكنات عسكرية ومقرات لإدارة العمليات الحربية وخاصة قرب مناطق الاشتباكات العسكرية، مترافقة مع التهجير القسري للطلاب والمعلمين.

ترافقت هذه الأوضاع مع نقص حاد في أعداد المعلمين، وبعد أن كان هناك فائض في أعدادهم، فقد انحدر العدد حتى وصل العام 2022 إلى حدود 300 ألف معلم ومعلمة، بفقد ما لا يقل عن مئة ألف منهم، خاصة في المناطق الشرقية من سوريا وإدلب، والأسباب مرتبطة في جزء كبير منها بالواقع الأمني في الجغرافيات السورية، واستدعاء المدرّسين للخدمة العسكرية والضغط الاقتصادي الذي دفع مدرسين كثر لترك التعليم بحثاً عن مهن أخرى تعيلهم مع عوائلهم، مع انخفاض رواتبهم وقضاء التضخم على معظم مدخراتهم، ومع خروج عدد منهم خارج البلاد باحثين عن حياة آمنة.

هناك وفق إحصاءات أممية 2.4 مليون طفل خارج المدرسة، نحو مليون منهم في مناطق المعارضة، مع وجود عدد أكبر بكثير من الأشخاص المعرَّضين لخطر التسرب نتيجة لعوامل مختلفة، خاصة مناطق الاشتباكات والمناطق التي ضربها زلزال السادس من شباط 2022 في أربع محافظات هي اللاذقية وحلب وإدلب وحماة.

كان هناك فائض ملحوظ في عدد المدارس العامة، كافٍ لاستيعاب التلاميذ الجدد، وكانت في حدود 200 22 مدرسة العام 2010، تُغطي كامل سوريا، فإنه، قد تضاءل عددها إلى 505 14 ألف مدرسة في العام 2023، تضم حوالي أربعة ملايين تلميذ وطالب في سوريا كلها، في حين قدّر عدد المدارس المتضررة بنحو عشرة آلاف مدرسة، منها خمسة آلاف مدمّرة بشكل كامل. 

أدّت هذه الوقائع إلى خروج سوريا من معظم سلالم تقييم جودة التعليم في العالم، ومنها "مؤشر دافوس للتصنيف العالمي لجودة التعليم" في العام 2022. وفي ردّها على هذا الخروج قالت وزارة التربية السورية إن منتدى "دافوس" يستند في تصنيفه إلى اثني عشر معياراً للدول التي أجريت فيها الدراسة، في حين أنّ سوريا لم تدعَ للمشاركة "لأسباب سياسية"، وأشار بيان الوزارة إلى أن معايير "دافوس" لا علاقة لها بالاعتماد الأكاديمي.

أوضاع الأطفال اللاجئين تعليمياً

بعد عشر سنوات من الصراع وصل عدد الأطفال الذين خرجوا من البلاد أو ولدوا خارجها ما يقرب من مليون وربع مليون طفل في سن الدراسة، نصفهم من متسربي مرحلة التعليم الأساسي أو هم خارج العملية التعليمية من الأصل. وتعليم هؤلاء غير مضمون وفق كل الاحتمالات الممكنة، ويرتبط بقضايا اللاجئين وعودتهم إلى البلاد، وهذه تبدو في الوقت الراهن بعيدة. ويحتاج حل مشكلة هؤلاء إلى تضافر جهود بين البلدان المضيفة والمانحين.

وفي حين يقطن جزء من الأطفال السوريين خارج البلاد في مخيمات متعددة، فإن القسم الأكبر منهم يعيش في المجتمعات المحلية، وهذا يزيد الصعوبات والضغوط الاقتصادية والاجتماعية عليهم وعلى أسرهم، ويخلق توترات بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة، ويضاف إلى هذا سلسلة قيود سياسية مشتركة في جميع أنحاء البلدان المضيفة مثل المناهج الدراسية والشهادات وتصديقها والمعلمين، تعيق بشكل خطير فرص الأطفال السوريين في الحصول على تعليم حقيقي وذي جودة مقبولة. ويقود هذا في أحيان كثيرة إلى تعزيز فكرة التسرب من التعلم والاتجاه صوب سوق العمل والتعرض لمشكلاته.

مصائب خصخصة التعليم

لم تكن الحرب وحدها سبباً في انهيار منظومات التعليم العام في سوريا، إذ سبقها منذ مطلع القرن الحالي توجهات استراتيجية حكومية نحو التخفف من واجباتها تجاه قطاع التعليم كما القطاعات الأخرى، فيما يمكن تسميته "لبرلة التعليم" شكلاً، وكان ذلك واضحاً في تخفيف الإنفاق الحكومي على التعليم من اثني عشر في المئة إلى سبعة في المئة من ميزانية الدولة من العام 1970 إلى العام 2010. وقد حصل هذا عبر عدة محاور، من بينها إدخال القطاع الخاص في التعليم بعد أكثر من نصف قرن على تأميم آخر المدارس الخاصة التي كانت في معظمها مدارساً تبشيرية لعبت في وقتها دوراً تنويرياً وطنياً يجمع طلاباً من مختلف الشرائح والطوائف.

هناك نقص حاد في أعداد المعلمين، وبعد أن كان هناك فائض في أعدادهم. فقد انحدر العدد حتى وصل العام 2022 إلى حدود 300 ألف معلم ومعلمة، بفقد ما لا يقل عن مئة ألف منهم، خاصة في المناطق الشرقية من سوريا وإدلب، والأسباب مرتبطة في جزء كبير منها بالواقع الأمني في الجغرافيات السورية، واستدعاء المدرّسين للخدمة العسكرية والضغط الاقتصادي

بدأت التغيرات في القطاع الجامعي كمقدمة للتغيير في القطاعات الأدنى تعليمياً، بتبرير حكومي مثل "إجراء سلسلة من إصلاحات قطاع التعليم" و"خلق اختصاصات لا تتوافر في التعليم الجامعي الحكومي لرفد سوق العمل"، وهي من الشروط الأولى لافتتاح الكليات الجامعية الخاصة. ولكن هذا مشكوك فيه، إذ من النادر أن تجد جامعة حكومية لا تجمع مختلف الاختصاصات، كما أن الاختصاصات تتشابه بين الحكومي والخاص. والصحيح أنّ هذه الجامعات كانت شكلاً من أشكال استثمار الطبقات الغنية الجديدة في قطاع جديد، ومدرّسوها هم مدرِّسون حكوميون سعوا إلى العمل في هذه الجامعات نتيجة فروق الرواتب.

وهكذا ظهرت "جامعة القلمون الخاصة" كأول جامعة خاصة في سوريا العام 2003 تلتها حتى اﻵن 24 جامعة خاصة، تأسّس معظمها في السنوات الأولى للقرن الحالي، وتعود ملكية هذه الجامعات في مناطق دمشق إلى رؤساء مجالس وزراء سابقين من البعثيين ومن رجال أعمال، أما خارجها فإن ملكيتها تعود إلى قوى الأمر الواقع في الغالب وقد تكاثرت في السنوات الأخيرة دون أي نوع من الضوابط.

غالبية هذه الجامعات بنيت على عجل أو تم استئجارها من مؤسسات أو في مبانٍ جرى الاستيلاء عليها، ولا تختلف في بنيتها وتركيبتها ودوامها ومخابرها عن التعليم الحكومي إن لم تكن أقل منه مستوى وجودة. أما ما يتضمنه هذا التعليم من معرفة وعلوم وتكوين أخلاقي، فهو أقل من الجانب الحكومي نتيجة ضعف تطبيق معايير جودة التعليم العالمية فيه خلافاً لتصريحات رؤسائها، حيث أنها تخصِّص عادة نسبة جيدة من المنح المجانية تقدمها للمتفوقين دراسياً بغية استقطابهم. ومن هؤلاء المتفوقين يخرج كثير من المتميزين في مختلف المجالات، متفوقين على أبناء الطبقة البرجوازية الاستهلاكية، مع تسهيل نجاح الطلبة في الامتحانات باستخدام أساليب مشروعة أو غير مشروعة، بحيث يدفع النجاح طلاباً آخرين الى هذه الجامعات، لأن تطبيق معايير صارمة سينفّر الطلاب منها متسبباً في انصرافهم إلى جامعات أخرى.

الجامعات الخاصة تمثّل استثماراً للطبقات الغنية الجديدة ومدرّسوها حكوميون سعوا إلى العمل فيها نتيجة فروق الرواتب. أولها كانت "جامعة القلمون الخاصة" في العام 2003 تلتها حتى اﻵن 24 جامعة خاصة. وتعود ملكية هذه الجامعات في مناطق دمشق إلى رؤساء مجالس وزراء سابقين من البعثيين ومن رجال أعمال، أما خارجها فإن ملكيتها تعود إلى قوى الأمر الواقع في الغالب.

معظم طلاب المدارس الثانوية في مدينة مثل اللاذقية يداومون في المعاهد الخاصة أكثر من مدارسهم، وتنتشر ظاهرة الرشاوى لمدراء المدارس للتغاضي عن دوام الطلاب في حين تخف هذه الظاهرة في الريف دون أن تلغي الدروس الخصوصية. 

في التعليم العالي ارتفع عدد الكليات من 63 كلية العام 2005 إلى 124 كلية العام 2010 عام بداية الأزمة ولم يتغير هذا الرقم كثيراً بعدها لعدم إحداث كليات جديدة. وخلال سنوات الأزمة، شهدت أعداد طلاب التعليم العالي ارتفاعاً بنسبة 27 في المئة بين عامي 2011 و 2016 من 532221 إلى 675632 طالباً على الرغم من انخفاض عدد طلاب التعليم الخاص (من 26989 إلى 23169 طالباً) في المدة نفسها. وخلال الفترة التالية وصولاً إلى العام الحالي، فإنّ نسبة طلاب التعليم الخاص لم تتجاوز ثلاثين ألف طالب، ويعود جزء من أسباب الارتفاع إلى طلاب التعليم المفتوح والإقبال على التسجيل في أي جامعة طمعاً في الحصول على وثيقة التأجيل من الخدمة الإلزامية.

امتدت خصخصة التعليم إلى المرحلة الثانوية وما دونها، وصولاً إلى رياض الأطفال، وجميعها وسّعت الهوة بين عموم أبناء المجتمع السوري وبين شريحة من القادرين مالياً على تحضير أولادهم إما للسفر خارج البلاد أو لسوق عمل لا يستوعب بحكم الظروف السورية سوى قلة قليلة من الخريجين.

الارتداد عن الدراسة والتدريس

دفع مجمل هذا الوضع جزءاً من الأجيال الصغيرة إلى الارتداد عن الدراسة والدخول مبكراً في سوق العمل الفاقد لأدنى شروط الأمان والحماية لهم، وذلك بدعم من أهاليهم. وتركز هذا الانزياح بالدرجة الأولى في أبناء الأحياء الشعبية والعشوائيات في المدن والأرياف السورية كافة، بدرجات مختلفة تتبع البيئة. وتزيد هذه النسب في مناطق الاشتباكات العسكرية.

وبقدر ما أدخل التعليم العام المجاني ملايين النساء في التعليم، وسمح لهنّ باكتساب خبرات ومهارات عدّلت من ذكورية سوق العمل، وغيّرت صورة البنية الاجتماعية كلياً حتى في قلب المجتمعات المحافِظة، فإن الانكفاء واتساع نطاق التعليم الخاص وارتفاع تكاليفه يؤدي إلى عزوف الإقبال النسائي، وإلى عودة نغمة "المرأة للمنزل"، إضافة إلى خسارة مكتسبات أخرى اجتماعية واقتصادية، تتركز هذه الخسارات بشكل رئيسي في مناطق سيطرة المعارضة في مناطق إدلب وريف حلب حيث البنى الاجتماعية مساعدة على وضع المرأة تحت الرقابة المجتمعية والعائلية. ووفقاً لدراسة شملت مناطق غرب سوريا فإن نسبة فوق النصف من النساء لم يبدين رغبة في متابعة التعليم اﻟﺮﺋﻴﺴﻲ حيث ﺷﻜّﻠﺖ ﺻﻌﻮﺑﺔ تمويل الدراسة واﻟﺘﻨﻘﻞ وﻏﻴﺎب وﺳﺎﺋﻞ اﻟﻨﻘﻞ وﺷﺒﻜﺎت اﻟﻄﺮق اﻟﻤﺆﻫﻠﺔ العوائق الأساسية ﻓﻲ اﻟﺴﻌﻲ إلى اﺳﺘﻜﻤﺎل اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﺑﻨﺴﺒﺔ 54 في المئة، وﺗﻘﺎرﺑﺖ ﻧﺴﺐ اﻟﺘﺄﺛﻴﺮ وﻓﻖ اﻟﻤﺸﺎرﻛﺎت ﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﻋﻮاﻣﻞ ﻧﻈﺮة اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ واﻟﻨﻈﺮة اﻷﺳﺮﻳﺔ وﻗﻠﺔ ﻓﺮص اﻟﻌﻤﻞ ﻟﻠﻤﺘﻌﻠﻤﺎت كعوامل تمنعهن من مواصلة التعليم.

الدروس الخصوصية تجتاح سوريا

أدّى انخفاض مستوى التعليم في القطاع الرسمي وارتفاع تكاليفه وضعف جودته في القطاع الخاص، إلى بحث شرائح مجتمعية واسعة عن بدائل عملية تتيح تحقيق جودة في النتائج التعليمية التي يتطلبها سوق العمل أو مقتضيات الخروج من البلاد. انتشرت بشكل واسع المعاهد التعليمية الخاصة والدروس الخصوصية في المنازل والمقاهي. وعلى الرغم من محاولة وزارة التربية في دمشق منع الظاهرة (عبر إصدار تعميمات تمنع الدروس الخاصة في المنازل وإرسال دوريات من الوزارة لمراقبة الدروس الخصوصية)، إلا أنها فشلت في ذلك، والأمر نفسه انتشر في مناطق خارج سيطرتها.

وفقاً لدراسة شملت مناطق غرب سوريا، فإن نسبة فوق النصف من النساء لم يبدين رغبة في متابعة التعليم اﻟﺮﺋﻴﺴﻲ حيث ﺷﻜّﻠﺖ ﺻﻌﻮﺑﺔ تمويل الدراسة واﻟﺘﻨﻘﻞ وﻏﻴﺎب وﺳﺎﺋﻞ اﻟﻨﻘﻞ وﺷﺒﻜﺎت اﻟﻄﺮق اﻟﻤﺆﻫﻠﺔ العوائق الأساسية ﻓﻲ اﻟﺴﻌﻲ إلى اﺳﺘﻜﻤﺎل اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﺑﻨﺴﺒﺔ 54 في المئة،

مع اندلاع الحرب في أوكرانيا وظهور نزاعات مسلحة في مناطق جديدة في العالم، تضاءل اهتمام العالم بسوريا، وكان هذا واضحاً في انخفاض التمويل المقترح من "مجموعة الدول الداعمة لسوريا" في اجتماعها الأخير في بروكسيل حزيران / يونيو 2023، وهذا سوف يصعّب تنفيذ خدمات التعليم في حالات الطوارئ التي يستفيد منها 6.1 مليون طفل في مختلف الجغرافيات السورية. 

أدت هذه الظاهرة إلى خسائر مضافة لقطاع التعليم نفسه، متسببةً في انسحاب المدرِّسين من أداء واجبهم التعليمي وتجاهلهم الشرائح الأكثر فقراً بما يصعّد من التفاوت التعليمي المبني على تفاوت طبقي واقتصادي. واليوم مثلاً، فإن معظم طلاب المدارس الثانوية في مدينة مثل اللاذقية يداومون في المعاهد الخاصة أكثر من مدارسهم، وتنتشر ظاهرة الرشاوى لمدراء المدارس للتغاضي عن دوام الطلاب في حين تخف هذه الظاهرة في الريف دون أن تلغي الدروس الخصوصية.

هناك مروحة واسعة لتكاليف الدروس الخصوصية، وتختلف الأسعار حسب إمكانيات الأساتذة حيث تصل تكلفة طالب المرحلة الثانوية مع مدرّس غير مختص الى ما بين ثلاثة أو أربعة ملايين ليرة سورية لكامل السنة الدراسية، أما إذا كان المدرّس مختصاً وله شهرة فتصل الكلفة لكل المواد بين سبعة إلى ثمانية ملايين ليرة، وقد تصل في بعض المناطق إلى عشرة ملايين ليرة سورية (ما يعادل 800 دولار) في وقت يبلغ فيه متوسط رواتب السوريين الشهري حوالي عشرين دولاراً في القطاعين العام أو الخاص.

ولم تتوقف الظاهرة عند طلاب الشهادات بل وصلت إلى طلاب المرحلة الابتدائية. وما ساهم في تعميقها وانتشارها كثافة أعداد التلاميذ في المدارس الابتدائية فوق الحدود الطبيعية بأضعاف، ففي العديد منها يجلس أربعة تلاميذ على مقعد واحد، هذا عدا عن المشاكل التي يتسبب فيها العدد الكبير من التلاميذ لطرق إدارة الحصة الدرسية نفسها.

تحديات النظام التعليمي السوري ككل

مع اندلاع الحرب في أوكرانيا وظهور نزاعات مسلحة في مناطق جديدة في العالم مثل اليمن وأفغانستان، تضاءل اهتمام العالم بسوريا، وكان هذا واضحاً في انخفاض التمويل المقترح من "مجموعة الدول الداعمة لسوريا" في اجتماعها الأخير في بروكسيل حزيران / يونيو 2023، وسط منافسة شديدة على المساعدات العالمية. وهذا سوف يصعّب تنفيذ خدمات التعليم في حالات الطوارئ التي يستفيد منها 6.1 مليون طفل في مختلف الجغرافيات السورية.

تمتد الآثار المترتبة على الاضطرابات السابقة في النظام التعليمي السوري بعد أكثر من عقد على الحرب في البلاد إلى نطاق متنوع ومعقد من المشكلات والتحديات الموازية لها، يحتاج حلها إلى وقت طويل وجهود كبيرة ليس فقط من قبل أصحاب المصلحة، بل ومن السياسيين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع وغيرهم في الجمهورية السورية القادمة، إن لم نذهب إلى تكريس الجغرافيات الحالية ككيانات مستقلة ونهائية.

من اﻵثار المتوقعة طويلة الأمد في خراب النظام التعليمي السوري، انخفاض مستوى رأس المال البشري وبالتالي انخفاض اﻹنتاجية الاقتصادية. فمن المنطقي أنّ انخفاض مستوى وجودة التعليم سيقود إلى انتاج أجيال مشوّهة في علاقتها بالمجتمع والدولة والإنسان الآخر، في حين أنّ الآثار القصيرة المدى قد تكون مدمّرة بشكل مباشر، حيث سيؤدي عدم الوصول إلى المدارس إلى ارتفاع حاد في عمالة الأطفال، والزواج المبكر للبنات، هذا عدا التحرش والاغتصاب وغيرها من المشاكل المتعلقة بالحماية. إنّ انهيار التعليم على هذه الصورة يزيد من مشكلات وعراقيل استعادة البلاد لوحدتها ومن مشاكل الأجيال القادمة التي قد لا تجد بديلاً عن الهجرة من بلادها.

اقرأ أيضا: "التعليم قضية"

______________________

*النص السادس من دفتر "انهيار التعليم العام في منطقتنا يرهن المستقبل" بدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ.

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه