السوريون و"طوفان الأقصى": طمنونا عنكم، نحن صامتون!

هناك تحوّل "جذري" في تعاطي السوريين مع الشأن الفلسطيني، ليس ناتجاً فقط عن خضوع جماعي لسياسات القوى المسيطرة في الجغرافيات السورية، بل هو على الأرجح ناتج عن وصول الانكسار السوري إلى مرحلة خطرة، تهدد علاقة السوريين مع قضايا خارج حدود بلادهم ومنها قضية فلسطين، كما تهدد علاقتهم مع أنفسهم أيضاً بصفتهم أشخاصاً وكيانات كان لها دوماً مواقف مما يجري في محيطها الإنساني، مهما كان تغوّل السلطات الحاكمة.
2023-12-07

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
صورة تاريخية لما حدث في مخيم اليرموك

في وقت تحضر فيه بقوّة حركة مقاطعة المنتجات المصنّعة من شركات داعمة للكيان الصهيوني في مشهد حربه الأخيرة على قطاع غزّة، تغيب المشاركة السورية العلنية على مستوياتها الشعبية والحكومية خلافاً لما كانت عليه الحال مع تجارب مماثلة سابقة. وإن كان صحيحاً أن البلاد ليس في أسواقها منتجات كثيرة صنعتها شركات يجب مقاطعتها بسبب الحصار الاقتصادي الأوروبي والأميركي منذ عقد تقريباً، إلا أنّ هناك منتجات أخرى متوافرة لم يتذكرها أحد في سياق ضرورة المقاطعة في سوريا.

وقد يكون أحد أبرز الأسباب في غياب المقاطعة للمنتجات الموجودة التي يحضر قسم منها تهريباً من لبنان والعراق وتركيا، ارتفاع أسعارها مقارنة بدخول السوريين المنخفضة، وبالتالي عزوفهم عن شراء كثير من هذه المنتجات والاتجاه نحو مثيلاتها المحلية، والسبب الأخر الأكثر أهمية، هو أنّه لم تتبرع أية جهة ـ في كل سوريا ـ بالدعوة لمقاطعة هذه المنتجات.

غياب سوري معلَن وتضامن مضمر

غياب المقاطعة ليس المظهر الوحيد للمشهد السوري في شأن الحرب الأخيرة على غزّة، إذ أنّ هناك غياباً ملحوظاً لمظاهر التضامن العلنية مناصرةً لغزة في مناطق السيطرات المختلفة في سوريا، إذ تختفي نشاطات الأحزاب والجمعيات والهيئات ذات الصلة، عدا غياب "التظاهرات" الداعمة لغزّة وحدثها بصفتها أحد أشكال الوعي العمومي المضاد لسياسات التضييق والحصار الرسميين من قبل القوى المسيطرة، في ما يمكن وصفه بتحوّل "جذري" في تعاطي السوريين مع الشأن الفلسطيني، وهذا التحوّل لا يظهر أنه ناتج فقط عن خضوع جماعي لسياسات القوى المسيطرة في الجغرافيات السورية، بل على الأرجح أنه ناتج عن وصول الانكسار السوري إلى مرحلة خطرة في عمقها وتأثيرها تهدد علاقة السوريين مع قضايا خارج حدود بلادهم ومنها القضية الأكثر التصاقاً بهم، قضية فلسطين، كما تهدد علاقتهم مع أنفسهم أيضاً بصفتهم أشخاصاً وكيانات كان لها دوماً مواقف مما يجري في محيطهم الإنساني مهما كان تغوّل السلطات الحاكمة.

جزئيات المشاهد السورية في التعاطي مع حدث غزة يجمعها خيط ناظم واحد هو الإحساس الجمعي بالانكسار الكبير، ويفرّقها أنّ لكل جغرافيا قراءتها الخاصة لهذا الشأن كما لغيره، بما يجعل من حدث غزّة عاملاً على توسيع شقّة الخلاف بين السوريين في شأن طالما كان محطّ اتفاق بينهم. فعلى مدار عقود طويلة كانت فلسطين حاضرةً في الخطاب السوري أكثر من حضور سوريا فيه رسمياً وشعبياً. وفي السياق التاريخي للعقل والوجدان السوريين حضرت فلسطين من أبواب عدّة، أحدها أنّ فلسطين "شامية"، وأنّ "غزّة هاشم" التي تقصفها "إسرائيل" الآن "هي مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر"، على حد وصف الجغرافي "ياقوت الحموي"، وتكاد الذاكرة السورية تُتخم بالحدث الفلسطيني منذ أوائل الثلاثينيات الفائتة، قبل تأسيس "الدولة العبرية" حتى اليوم. ولكن تحوّلات "المقاومة الفلسطينية" نفسها واصطفافاتها ضمن سياقات الحرب السورية خلقت تبايناً واضحاً في الموقف مما يجري الآن في غزة على مستواه السياسي، وإن لم يؤثر على مستوى التعاطف الإنساني والأهلي الذي بقي مرتفعاً ولكن دون فاعلية.

لا مظاهرات مليونية في البلاد

يظهر "الغياب" السوري الثقيل عن حدث غزة في مناطق سيطرة دمشق بوضوح شديد، وتخلو الشوارع والأماكن العامة والخاصة من أشكال التضامن الرمزية والفعلية مع الحدث، فليس هناك أعلام فلسطينية في ساحات المحافظات، ولا أغان "وطنية" تصدح في الشوارع أو المدارس أو المقاهي، ولم يتعطّل التدريس أو توجّه ساعات منه لشرح ما يجري في فلسطين، وحتى اللوحات الإعلانية المنتشرة استمرت في عرض إعلانات شبكات الخليوي والمواد الغذائية، دون لحظ أية حملات لجمع تبرعات أو مساعدات غذائية أو عينية أو غير ذلك، خلافاً لما حصل في مرات سابقة تخص الحدث الفلسطيني.

سلطات الأمر الواقع السوري كلها تتعاطى مع حدث غزّة من بوابات "الترقب" لما ستؤول إليه الأحداث، ومن باب ثانِ، هو الأهم للمقيمين في سوريا كلها، هو "الخوف" من تأثير التضامن مع غزّة على واقعهم الاقتصادي والمعيشي. وهذه النقطة قد تكون مؤلمة وجارحة للبعض. فاليوم هناك ملايين من الناس في سوريا يعيشون على الدعم الدولي الأممي أو الغربي.

وفي بلاد المسيرات المليونية "العفوية"، تغيب المظاهرات المليونية الغاضبة المشابهة لتلك التي تشهدها العواصم الغربية والعالم، وربما للمرة الأولى بهذا الوضوح القاسي. فلم يَدعُ أيّ حزب سوري ـ بما في ذلك الحزب الحاكم ـ إلى تظاهرات جماهيرية واسعة، حتى تلك التي شهدتها دمشق في 18 تشرين الأول/ أكتوبر غداة قصف إسرائيل للمشفى المعمداني، لم يشارك فيها عدد كبير من الأفراد، وشهدت المظاهرة رفعاً للأعلام السورية وصور الرئيس السوري، بما يشير إلى أنها من قبيل "تحصيل الحاصل" وليست "عفوية". أما الوقفات التضامنية التي دعت إليها نقابات الفلاحين والعمال ومؤسسات ثقافية وغيرها فقد شهدت حضوراً قليلاً، ويكاد يكون إجبارباً للموظفين فيها، وغابت عن الساحة "تظاهرات الطلبة العفوية" تضامناً مع فلسطين أو غزّة لوحدها.

وإذ تكمل السويداء يومها الثمانين في تظاهرات الاحتجاج ضد "النظام"، فإنها شهدت ظهور شعارات التضامن مع "غزة فلسطين" مع استبعاد اسم "حماس" من شعاراتها، وفي أخبار متواترة من هناك فإنّ دعوات مصدرها الاتحاد الرياضي العام السوري انتشرت على مجموعات التواصل الاجتماعي للطلاب والموظفين داعية نقابات السويداء إلى الخروج في وقفة تضامنية مع غزة في المدينة في 16 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، انتهت إلى مظاهرة مضادة للنظام شارك فيها عشرات الأشخاص بعد تسرّب أنباء عن "نيّة البعثيين" تحويلها إلى مسيرة مؤيدة للرئيس بشار الأسد.

"لا حماس" لدى الإعلام الرسمي

يظهر الموقف الرسمي السوري بوضوح في متابعة الإعلام الحكومي لما يجري من خلال بثّ مباشر يومياً على قناة الإخبارية عبر مراسل من غزّة، لكن بتجاهل ذكر "حماس" أو "كتائب القسّام" بيقظة عالية تشمل المذيعين والمذيعات والضيوف، مع إصرار على استخدام تسمية "المقاومة الفلسطينية" لتكون بديلاً عن اسم "حماس" دون تجاهل اختراع ربط "تاريخي" بين ما يجري من معارك في غزة الآن وما جرى في أزمنة ماضية كان للسوريين فيها حضور في فضاء القضية مثل حرب تشرين التحريرية.

جزئيات المشاهد السورية في التعاطي مع حدث غزة يجمعها خيط ناظم واحد هو الإحساس الجمعي بالانكسار الكبير، ويفرّقها أنّ لكل جغرافيا قراءتها الخاصة لهذا الشأن كما لغيره، بما يجعل من حدث غزّة عاملاً على توسيع شقّة الخلاف بين السوريين في شأن طالما كان محطّ اتفاق بينهم.

يعتمد الإعلام السوري في محو اسم "حماس" من تغطيته على فكرة أنّ هناك فصائل فلسطينية أخرى تشارك في القتال في غزّة، ويتجنّب بالتالي الاعتراف بأنّ قادة العمليات في قطاع غزّة هم من حماس، وفي استخدام اسم "المقاومة" يُوظِّف الإعلام السوري الرسمي فكرة مشاركة "محور المقاومة" في معركة غزّة ولو لم يكن بشكل مباشر. وتضفي هذه السردية نوعاً من التصدير لدور سوري في الحرب نظراً لكون محور "المقاومة" هو الداعم الرئيسي لحماس بالسلاح، وبالتالي تعميم حضور المحور ككل في الحدث، رغم تباين مواقف أطرافه الواضحة بشأن ما يجري، ومنه اعتبار طهران أن معركة "حماس" هي مع الكيان وأن لا علاقة لها بما يجري في غزّة.

هذا "الحجب" المعلن يأتي بعد أن أعادت حماس بضغط إيراني علاقتها مع دمشق العام الماضي بعد عشر سنوات من القطيعة، تبعها زيارة مسؤول العلاقات العربية في حركة حماس، خليل الحية، لدمشق في تشرين الأول/أكتوبر 2022، ليظهر بوضوح استمرار "حَذر" دمشق المصدومة من حماس بعد تجربتها العملية معها خلال سياق الحرب السورية، و"رعايتها" للحركة وفتحها مكاتب لها في دمشق ودعمها منذ تأسيسها نهاية ثمانينيات القرن الماضي حتى العام 2011 - انطلاق الحراك السوري - حين ضغط داعمو حماس العرب عليها لتترك دمشق (حسب أحاديث خالد مشعل).

 لم تكتف حماس بالخروج من سوريا، بل شاركت بشكل رئيسي في معارك مخيم اليرموك، وكانت مشاركاً فاعلاً مع المعارضة المسلحة في معارك ريف دمشق وحمص ومناطق أخرى ضد الجيش السوري، فيما كان الرئيس "بشار الأسد" في آخر مقابلاته التلفزيونية مع سكاي نيوز الإماراتية في آب/ أغسطس الماضي، قد هاجم قيادة حركة حماس، واتّهمها "بالنفاق والغدر" لأنها أخذت موقفاً مؤيداً للحراك في البلاد ولأنها حملت علم "الاحتلال الفرنسي".

قد يكون أحد أبرز الأسباب في غياب المقاطعة للمنتجات الموجودة التي يحضر قسم منها تهريباً من لبنان والعراق وتركيا، ارتفاع أسعارها مقارنة بدخول السوريين المنخفضة، وبالتالي عزوفهم عن شراء كثير من هذه المنتجات والاتجاه نحو مثيلاتها المحلية، والسبب الآخر الأكثر أهمية، هو أنّه لم تتبرع أية جهة ـ في كل سوريا ـ بالدعوة لمقاطعة هذه المنتجات.

يظهر "الغياب" السوري الثقيل عن حدث غزة في مناطق سيطرة دمشق بوضوح شديد، وتخلو الشوارع والأماكن العامة والخاصة من أشكال التضامن الرمزية والفعلية مع الحدث، فليس هناك أعلام فلسطينية في ساحات المحافظات، ولا أغان "وطنية" تصدح في الشوارع أو المدارس أو المقاهي، ولم يتعطّل التدريس أو توجّه ساعات منه لشرح ما يجري في فلسطين 

⁠ الموقف الرسمي لدمشق خلال الخمسين يوماً الماضية هو موقف الصامت في انتظار انقشاع غبار المعركة في غزّة لحصد ما يمكن حصده بعد امتناع سوري عن التصعيد واسع النطاق إثر وصول تهديدات أميركية وغربية واضحة عبر الوسيط الإماراتي، فيما اقتصر التحرك السوري على إطلاق قذائف على مواقع إسرائيلية في الجولان المحتل، ردّت إسرائيل عليها بغارات جوية على مواقع الجيش السوري ومنها موقع كتيبة مدفعية تابعة للواء 112 في درعا. كما حصلت اشتباكات برية سورية محدودة مع وحدات من الجيش الإسرائيلي عبر الحدود. وفي وقت لاحق لعملية "طوفان الأقصى" أطلقت الميليشيات المتحالفة مع إيران حملة علاقات عامة مؤيدة لحماس في المراكز الثقافية في دير الزور وحاولت تجنيد متطوعين لمحاربة "إسرائيل" من مرتفعات الجولان.

مناطق سيطرة المعارضة الإسلامية

التجاهل الرسمي لحماس في إعلام دمشق يقابله "لوم" مضْمَر في مناطق سيطرة المعارضة السورية الإسلامية التي تتهم حركة "حماس" بارتمائها في أحضان "النظام السوري" من جديد، وأنها "تنكّرت" لتاريخها وأعادت علاقاتها مع دمشق إضافة إلى علاقاتها العضوية مع إيران حليف دمشق الأساسي. وربما يمكن استقراء خفوت نجم التظاهرات في مناطق سيطرة المعارضة من هذا الباب، إذ أنّ غالبية مناطق إدلب لم تشهد تظاهرات بحجم كبير مناصرةً لغزّة حتى في مناطق لم يطلها قصف الطيران الروسي والسوري.

 وبالمثل، فإنّ مناطق سيطرة المعارضة شمال غرب حلب (مناطق السيطرة التركية) لم تشهد تظاهرات مليونية، ما خلا بضع وقفات تضامنية محدودة العدد نفذّها عاملون في الإغاثة أو جمعيات المجتمع المدني "مع غياب التجمعات العامة لاحتمال حدوث استهداف عشوائي لها من قبل الطيران السوري أو الروسي" على حد قول بعض الناشطين هناك، ولكنّ "المناصرين لغزة يعدّون المشاركة في التظاهرات والوقفات واجباً أخلاقياً وإنسانياً".

وفي مناطق سيطرة الإدارة الذاتية لا يختلف الأمر كثيراً، إذ تغيب المشاركة العامة في مظاهر التضامن مع غزّة سواء كان مصدرها من "الكورد" أو "العرب" أو غيرهم، وخلا بعض "اللقاءات الثقافية" فإنّ الصمت يظهر بوضوح، ويمكن تفسير الأمر من جهتين، الأولى من جهة الإدارة الذاتية بعدم إغضاب الداعم الأميركي، واعتبار حماس في صف المعارضة المسلحة التي تحارب الإدارة الذاتية من جهة ثانية. إنسانياً ظهرت على الصفحات الكوردية الرئيسية عبارات التضامن مع "فلسطين"، لا مع حماس، بصفتها جزءاً من النضال المشترك ضد الإرث الاستعماري.

لم تكتف حماس بالخروج من سوريا، بل شاركت بشكل رئيسي في معارك مخيم اليرموك، وكانت مشاركاً فاعلاً مع المعارضة المسلحة في معارك ريف دمشق وحمص ومناطق أخرى ضد الجيش السوري، فيما كان الرئيس "بشار الأسد" في آخر مقابلاته التلفزيونية مع سكاي نيوز الإماراتية في آب/ أغسطس الماضي، قد هاجم قيادة حركة حماس، واتّهمها "بالنفاق والغدر" لأنها أخذت موقفاً مؤيداً للحراك في البلاد.

التجاهل الرسمي لحماس في إعلام دمشق يقابله "لوم" مضْمَر في مناطق سيطرة المعارضة السورية الإسلامية التي تتهم حركة "حماس" بارتمائها في أحضان "النظام السوري" من جديد، وأنها "تنكّرت" لتاريخها وأعادت علاقاتها مع دمشق إضافة إلى علاقاتها العضوية مع إيران حليف دمشق الأساسي. وربما يمكن استقراء خفوت نجم التظاهرات في مناطق سيطرة المعارضة من هذا الباب. 

وفي حين أنّ المعارضة السورية المشتتة خارج البلاد ـ في تركيا وأوروبا ـ تستمر بالتركيز على مستقبلها الغامض ومشاكلها الداخلية ولم تنظم احتجاجات واسعة النطاق مؤيدة للفلسطينيين، فإنها نشرت مقالات على مواقعها وعلى منصات التواصل الاجتماعي تقارن هجوم الجيش السوري الأخير على إدلب بعد مجزرة الكلية الحربية مباشرةً ـ بالقصف الإسرائيلي لغزة.

أجيال لا مبالية، وأخرى منغمسة

وكما في أي حدث مفصلي، فقد تسببت عملية "طوفان الأقصى" في فرز مواقف السوريين تجاه قضية أساسية في حياتهم. وكالعادة كان هناك "اصطفاف" معتاد على الجبهات المتعاكسة، حيث يمكن لحظ الاصطفاف في كل مكان، من الشارع إلى حوارات منصات التواصل الاجتماعي. ومن يتابع منصة فيسبوك ـ بكونه الناطق الأوضح باسم السوريين ـ سيجد المعارك والقذائف الكلامية تتهاطل هناك بين السوريين مرةّ جديدة.

في قياس مواقف الأجيال مما يجري في غزة، هناك تيارات مختلفة تتباين حتى ضمن الشريحة العمرية الواحدة. فهناك لا مبالون، وهناك مندمجون في قلب الحدث، وبينهما هناك طغيان لموقف "التضامن الإنساني" لأناس يهتمون لأنّ ما يجري في غزّة هو بشكل ما استمرار للعربدة الإسرائيلية التي ما فتئت تصيب ضرباتها سوريا عبر قصف مطارات البلاد (دمشق وحلب) أربع مرات منذ بدء عملية "طوفان الأقصى" وقبلها مراراً وتكراراً.

راقبت السلطات السورية بحذر شديد تحركات الفلسطينيين المقيمين في سوريا إثر انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، وطلبت منهم الحصول على تراخيص رسمية عند رغبتهم في القيام بأي نشاط مناصرةً لغزّة، بما كان كافياً لفهم أنّ دمشق لا ترغب كثيراً في ظهور هذه النشاطات وأنها ترفض أي تجمع جماهيري لا تشرف عليه وتنظمه. ولم تكتف السلطات بذلك، فقد نقلت وسائل إعلامية اعتقال الأمن السوري ثلاثة نشطاء فلسطينيين.

يظهر في المقدمة الجيل الأخير المنتمي إلى الألفية الحالية الذي بالكاد يتذكر أنّ هناك  مكاناً على الخارطة يسمّى فلسطين، لغياب قضيتها عن المناهج التعليمية الأخيرة الصادرة مطلع العقد الماضي بهدف الوصول إلى معايير عالمية (ليبرالية الطابع) لهذه المناهج والتخفيف من "الأيديولوجيا" فيها، وغياب القضية الموازي عن الإعلام بأشكاله، بما فيه التواصل الاجتماعي المبني على خوارزميات المشابهة بشكل واضح. فإنْ لم تكن هذه أسباب "انكفاء" بعض هذا الجيل، فإنّ هناك آخرين منهم "انكفأوا" عن الاهتمام "بالجوار" لاعتقاد سائد لديهم أنّ ما حصل في البلاد كافٍ ووافٍ لأخذ العظة، "فحين كان البلد يحترق، كان الجوار يشارك في الحريق أو يتفرج لامبالياً".

هناك في هذا الجيل وأجيال أكبر عايشت القضية بكل تفاصيلها، مَن أغرقته أحداث غزّة بكامل شؤونها فتحوّل إلى الدعوات الافتراضية للتضامن مع شعب غزة ولو في مستوى "بوستات" فيسبوكية استخدمت أعلام فلسطين، وجدوا فيها طريقة للتعبير عن تضامنهم في حدود الممكن في مواقفهم وأفعالهم، إلى آخرين استفزتهم الخوارزميات التي قللت من ظهور الحدث الفلسطيني على يومياتهم، لكنّ هؤلاء، وخاصة المقيمين في مناطق سيطرة دمشق، كانوا على حذر من الغرق مع "حماس" نفسها في طوفانها، "فمن يلدغ من جحر مرة يجب ألاّ يلدغ منه مرتين"، بعبارة شخص فقد أخّين له في معارك حماس ضد الجيش السوري في مخيم اليرموك بدمشق "إلى درجة أنّهم ـ حماس ـ علّموا المعارضة المسلحة حفر الأنفاق لضرب مؤسسات الدولة السورية بدل أن يدرّبوا عناصرهم لقتال إسرائيل" وفق قول شخص آخر.

مقالات ذات صلة

هذه الصورة الحذرة تنعكس لدى آخرين يجدون أنّ ما يجري في غزّة هو جزء من المخطط الأوسع للمنطقة الذي تدير خرائبه الولايات المتحدة ومعها "عرب وروم"، وأننا "كسوريين لن نكون كغيرنا ممن ينسى أنّ فلسطين في القلب والروح مهما جرى من بعضهم في سوريا"، ولكن حدود كل هذا "الدعم" مرهونة بما يجب أن يفعله "آخرون" في وضع أفضل منا لتقديم الدعم لفلسطين، وأولهم "المطبّعون" مع الاحتلال.

عن الفلسطينيين في سوريا

راقبت السلطات السورية بحذر شديد تحركات الفلسطينيين المقيمين في سوريا إثر انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، وطلبت منهم الحصول على تراخيص رسمية عند رغبتهم في القيام بأي نشاط مناصرةً لغزّة، بما كان كافياً لفهم أنّ دمشق لا ترغب كثيراً في ظهور هذه النشاطات وأنها ترفض أي تجمع جماهيري لا تشرف عليه وتنظمه. ولم تكتف السلطات بذلك، فقد نقلت وسائل إعلامية اعتقال الأمن السوري ثلاثة نشطاء فلسطينيين من بلدة يَلدا في ريف دمشق على خلفية محاولتهم تنظيم وقفة تضامنية مع غزّة، ووجهت إليهم تهمة التظاهر دون ترخيص قبل أن تطلق سراحهم بعد عدة ساعات.

يظهر في المقدمة الجيل الأخير المنتمي إلى الألفية الحالية الذي بالكاد يتذكر أنّ هناك  مكاناً على الخارطة يسمّى فلسطين، لغياب قضيتها عن المناهج التعليمية الأخيرة الصادرة مطلع العقد الماضي بهدف الوصول إلى معايير عالمية (ليبرالية الطابع) لهذه المناهج والتخفيف من "الأيديولوجيا" فيها. 

منصات التواصل الاجتماعي نقلت حدوث تظاهرات محدودة العدد داخل المخيمات الفلسطينية، من بينها مخيمات السيدة زينب وخان دنون وخان الشيح في ريف دمشق، ومخيما العائدين في حمص وفي حماة، والنيرب في حلب، ومخيم درعا في الجنوب السوري، دون مشاركة مسؤولي دمشق أو مسؤولي حزب البعث في الفعاليات، كما هو معتاد. ولم تحظ هذه الفعاليات بتغطية من جانب وسائل الإعلام الحكومية. وفي مناطق الشمال والشرق حيث تسيطر المعارضة، شهدت بعض المخيمات الفلسطينية تظاهرات داعمة لغزّة، من الصعب القول إنها كانت "جماهيرية واسعة". ويظهر أنّ الفلسطينيين في سوريا لا يرغبون في إثارة غضب سلطات الأمر الواقع عليهم من جديد.

في علاقتهم مع السوريين حولهم، لم يتغير الكثير لدى الفلسطينيين بعد حرب غزّة، إذ تستمر الحياة على إيقاعها العادي، ولم تسجّل توترات بين الشعبين. وفي زيارة خاطفة لمخيم اليرموك بدمشق في الأسبوع التالي لتدمير مشفى الشفاء في غزّة، بدت الحياة طبيعية مع متابعة كثيفة للناس لما يجري في غزّة دون تحوّل هذه المتابعة إلى أي شكل من أشكال الاحتجاج.

مفارقات القياس السورية مع حرب غزّة

على ما يظهر، فإنّ سلطات الأمر الواقع السوري كلها تتعاطى مع حدث غزّة من بوابات "الترقب" لما ستؤول إليه الأحداث، ومن باب ثانِ هو الأهم للمقيمين في سوريا كلها هو "الخوف" من تأثير التضامن مع غزّة على واقعهم الاقتصادي والمعيشي. وهذه النقطة قد تكون مؤلمة وجارحة للبعض: فاليوم هناك ملايين من الناس في سوريا يعيشون على الدعم الدولي الأممي أو الغربي، لذلك يتركز التضامن على بعده الإنساني أكثر من السياسي ويتفادى الجميع الحديث عن "وحدة المسار والمصير"، حتى في مناطق محسوبة على التيارات الإسلامية القريبة من حركة "حماس". وبالطبع، لا يلغي ما سبق وجود تضامنات قلبيّة حقيقية مضْمرة مع غزّة، أقله في المتاح من وسائل التعبير غير المراقبة أو الخاضعة لسيطرة رأس المال العالمي. إلا أنّ المسألة لا تقف هنا، إذ كيف يمكن "لمكسورين أن يناصروا مكسورين آخرين مثلهم"؟ 

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه