سوريا: ذلك العفو الرئاسي!

انتهى العفو الرئاسي السوري عن معتقلين، والذي صدر منذ شهرين، بخروج بضع عشرات من المعتَقَلات، وهم نقطة في بحر الأعداد الفعلية للمعتقلين. وعلى ذلك فهو في شكله العام جنائيٌ لا سياسي، وليس منطلقاً لمرحلة جديدة أساسها جبر الضرر والمصالحة والعدالة. هو "مكرمة" من الرئيس وليس حقاً. وتلك سنّة أنظمة صادرت من شعوبها حق التقاضي، بل وحق الحياة نفسه.
2022-07-25

داوود فرج

كاتب من سوريا


شارك
تجمعات الأهالي بانتظار خروج المعتقلين

مر شهران بالتمام على موعدٍ أعلن وقت صدور مرسوم العفو الرئاسي عن معتقلين سوريين مطلع شهر أيار الفائت، كان يَعد بأن أفواجاً منهم ستخرج قبل نهاية ذلك الشهر. أطلق سراح بعض الأفراد، بضع عشرات... ثم لا شيء! وبقي الفارق العددي كما هو، بين أعداد المفرج عنهم بموجب المرسوم الذي أصدره بشار اﻷسد وبين أرقام الجهات الحقوقية والإنسانية المعلنة داخل وخارج البلاد، التي تتحدث عن مئات الآلاف من المعتقلين، وهذا عدا أعداد أخرى من المفقودين والمخطوفين يشكّلون تتمة مشهد الحرب السورية، إلى جانب الضحايا والمشوهين جسدياً.

وحتى لو تجاهلنا أرقام الجهات الحقوقية واﻹنسانية، الدولية منها والمحلية، التي تتحدث عن خمسين ألف معتقل على الاقل (وتقول جهات أخرى أنهم أكثر من ثلاثمئة ألف) باعتبارها "عميلة" لجهات خارجية أو تابعة لجهات لا تشاطر الحكومة السورية (حكومة دمشق) رأيها في أعداد المعتقلين ونوعية الاتهامات الموجهة لهم، فيظل القياس مخيفاً إذا ما استند إلى النداءات التي أطلقها آلاف السوريين عبر منصات التواصل الاجتماعي بحثاً عن خبرٍ عن معتقلين قضوا سنوات من حياتهم في السجون، منذ بدء الاحتجاجات في 2011 بل وقبلها، ولم يتلق أهاليهم أخباراً عنهم حتى اﻵن.

مقالات ذات صلة

كان أكبر عدد من المفرج عنهم يخص محافظة ريف دمشق، بواقع قرابة خمسين معتقلاً، وأدناه في اللاذقية بواقع سبعة معتقلين. وهي أرقام تستدعي السخرية إذا ما قورنت بالتوثيقات الأهلية والحقوقية المنشورة على الصفحات الزرقاء أو في مواقع انترنت متعددة. وهناك العديد من التوثيقات ﻷسماء معتقلين بتهم "اﻹرهاب" يُعرف عنهم أنهم موجودون في الفروع اﻷمنية في دمشق.

تتدرج التهم صعوداً من استخدام كلمة "النظام" في محادثات الواتساب، وصولاً إلى إسعاف الجرحى من المتظاهرين أو المسلحين، ومروراً بالاعتقال لتشابه اﻷسماء أو اﻷلقاب، وليس انتهاءً بتمزيق صور الرئيس في الشارع أو محل العمل. في إحدى حالات الاعتقال التي حُكم على صاحبها بالسجن المؤبّد كانت التهمة تلقّي حوالات مالية من أشخاص "إرهابيين" في تركيا.

ثم أنّ العدد الكبير للحشود التي تجمعت بشكل عفوي وقضت أياماً في ساحات دمشق في انتظار أخبار عن / أو لقاء مع / معتقليها أو مفقوديها، وشكلت النساء أغلبها، أوضحت أنّ الأرقام المتداولة ليست بدعة من المنظمات الحقوقية أو اﻹنسانية، بل هي حقيقة لم يتوقع من أصدر العفو أنها ستتأكد بهذا الشكل المرير. لقد كانت دمشق تئنّ وتتلوّع على الملأ، وبقلب محروق في ليلها ذاك كما لم تعلن من قبل.

ربما لا جديد في تصرف السلطات السورية مع هذا الملف الممتد عميقاً في هيكل نظام البعث منذ أكثر من نصف قرن، ولكن في الافتراضات والتخمينات، جرى ربط إعلان هذا العفو بالانتشار الكبير لمقطع فيديو عن مجزرة "حي التضامن" الذي نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية نهاية شهر نيسان 2022. ولعلّ الفكرة الرئاسية قد جاءت كمحاولة للتخفيف من وقع وأثر مشاهد الحفرة ـ المجزرة.. التي لا تمحى.

ويقال في تحليل منطق وسلوك النظام السوري وأمثاله، أن الإفراج عن أعداد كبيرة من المعتقلين يمكن أن يسبب حرجاً لأنه يكشف عن حالة ممتدة من الكذب، ناهيك عن تغوّل القمع. ولكن هل تهتم تلك السلطات حقاً بهذا؟

لم يوضح المرسوم الرئاسي ماهية تهم اﻹرهاب التي يشملها، ولم تصدر وزارة العدل تفسيراً مهنياً أو قانونياً لبنود المرسوم على عادتها، وإن كانت التهم تتدرج صعوداً من استخدام كلمة "النظام" في محادثات الواتساب، وصولاً إلى إسعاف الجرحى من المتظاهرين أو المسلحين، ومروراً بالاعتقال لتشابه اﻷسماء أو اﻷلقاب، وليس انتهاءً بتمزيق صور الرئيس في الشارع أو محل العمل. في إحدى حالات الاعتقال التي حُكم على صاحبها بالسجن المؤبّد كانت التهمة تلقّي حوالات مالية من أشخاص "إرهابيين" في تركيا.

أوضحت غالبية نداءات السوريين على منصات التواصل الاجتماعي بحثاً عن معتقلين لهم في السجون السورية، كمية اليأس الكبيرة التي تصاحب هذا الملف، كما غيره، حيث نثر كثيرون معلومات تتضمن الاسم والصورة المتوافرة لمعتقلهم على هذه المجموعة أو تلك، على أمل الحصول على خبرية ولو صغيرة عنه، ولو في صورة تأكيد موت أو حياة.  

من جانبٍ ثانٍ، فإنّ عدم اﻹفراج عن المعتقلين، وعدم الاعتراف بوجودهم أصلاً في السجون اﻷمنية غير الشرعية وغير الملحوظة، سيتيح للنظام اللعب مرة أخرى بهذه الورقة. فمن الواضح أنّ مرسوم العفو هذا لا يندرج في مسار التفكير بالبدء بمرحلة جديدة من علاقة النظام بشعبه، وليس هناك أي تغيير دال مرافق لمرسوم العفو الذي يبدو في شكله العام جنائياً لا سياسياً، بما في ذلك قرار وزارة العدل السورية إلغاء كافة البلاغات والإجراءات (إذاعة بحث - توقيف - مراجعة) المستندة إلى الجرائم المنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب رقم /19/ لعام 2012، بحق "جميع المواطنين السوريين في الداخل والخارج، ما لم يتسبب فعلهم بموت إنسان أو يثبت استمرار انتمائهم إلى تنظيمات إرهابية أو ارتباطهم مع دول أخرى".

وليس أدلّ على كون المرسوم قد كان حلقة جديدة من مسلسل سوري طويل أنه لم يشمل أي معتقلين سياسيين ممن هم متهمون أصلاً بتهم "اﻹرهاب" (كونها التهم اﻷكثر مطاطية في محاكم النظام العسكرية أولاً ثم المدنية)، ومنهم أسماء معروفة في الشأن العام السوري، كالمحامي خليل معتوق، والدكتور عبد العزيز الخيّر وغيرهم آخرون. العفو الصادر هنا ليس منطلقاً لمرحلة سياسية جديدة في البلاد أساسها جبر الضرر ومن ثم المصالحة والعدالة، بل يجب وضعه ضمن منظور السلطة التي تحدثت عن "مكرمة السيد الرئيس" وليس عن حق قانوني للمعتقل في محاكمة عادلة ونزيهة.

نمط "المكرمة" لا نجده سوى لدى أنظمة صادرت من شعوبها حق التقاضي، ناهيك طبعاً عن حق الحياة نفسه. وعلى هذا اﻷساس، فإن مرسوم العفو يحمل تلك الوصمة اللاحقة بالمعتقل نفسه، في أنه أخطأ وأنه يجب أن يكون قد "تربّى" من عقوبة "الدولة" له بسبب مروقه عن صراطها القويم... وبالطبع فلا حديث هنا عن الاختلاف والحق في الرأي المستقل، فهذه خرافة..

في الافتراضات والتخمينات، جرى ربط إعلان هذا العفو بالانتشار الكبير لمقطع فيديو عن مجزرة حي التضامن الذي نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية نهاية شهر نيسان 2022. ولعلّ الفكرة الرئاسية قد كانت محاولة للتخفيف من وقع وأثر مشاهد الحفرة ـ المجزرة.. التي لا تمحى.

وهذه المرة أيضاً كان لوسائل التواصل الاجتماعي دورها البيّن في تطورات مرسوم العفو الرئاسي لجهة الضغط على الأجهزة اﻷمنية السورية لتغيير طريقة تعاملها مع المفرج عنهم. فما يمكن ملاحظته أنه بعد أن كانت تتعامل عادة مع هؤلاء باستهتار، تسببت مشاهد الحشود المتجمعة في المحافظات والمنتقلة بدورها إلى تحت "جسر الرئيس" في دمشق، إضافة إلى الدفق الكبير للأسئلة على منصات التواصل الاجتماعي، والصور المؤلمة للخارجين من المعتقلات، خاصة من فاقدي الذاكرة... في اتباع ترتيبات جديدة دخلت فيها جهات مدنية -مثل مجالس المحافظات- لتقوم بدور في استقبال المفرج عنهم وفي اللقاء بهم على أمل "انصلاحهم"، كما بيّنت بعض الكلمات التي قيلت في هذه اللقاءات، إضافةً إلى تزويد كل مفرج عنه بإخراج قيد سجل مدني، ومبلغ مالي (خمسة آلاف ليرة سورية أي دولار أميركي واحد) وإيصاله إلى محافظته أو بلدته.

توضح غالبية نداءات السوريين على منصات التواصل الاجتماعي بحثاً عن معتقلين لهم في السجون السورية كمية اليأس الكبيرة التي تصاحب هذا الملف، كما غيره، حيث نثر كثيرون معلومات تتضمن الاسم والصورة المتوافرة لمعتقلهم على هذه المجموعة أو تلك، على أمل الحصول على خبرية ولو صغيرة عنه، ولو في صورة تأكيد موت أو حياة.

مقالات من سوريا