أديرة وصوامع في الجبال العلوية في سوريا

يوضِّح تمازج أماكن العبادة بين الغابرين واللاحقين كيف أنّ التدين الشعبي في الريف والجبال أقوى من التدين الرسمي وأقرب للطبيعة والبساطة البشرية.
2023-09-25

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
مقام الشيخ محمد الرياحي، سوريا.

دائماً ما شكّلتْ الجبال جزءاً رئيسياً من طوبوغرافيات وأيديولوجيات الأديان البشرية بأنواعها التعددية والتوحيدية واللا -إلهية، إذ أنّ التأويلات البشرية المصاحبة لضخامتها وظواهرها سواء منها المرعبة أو اللطيفة، مواردها وعلوّها وطبيعتها، جعلت منها مستقراً مبكّراً للآلهة والأنبياء والغموض والوحي، وساعدت ارتفاعاتها الشاهقة في بعض الأساطير، مثل السومرية، على خلق اعتقاد أنّها متصلة بالسماء وتمتد عمقاً إلى عالم الموتى أسفل الأرض، وهو ما أدّى إلى تقديس مبكر للجبال عند غالبية الشعوب، واستمر الأمر مع الديانات "السماوية" مع تلقي أنبيائها "الوحي" فوق قمم الجبال أو في كهوفها الأقرب للسماء.

جبال الساحل السوري هي من المواقع المأهولة في التاريخ التي شهدت استيطاناً بشرياً مبكراً قبل أكثر من مليون عام. وتشير المواقع الأثرية والطبيعية الباقية إلى أنها لم تنقطع عن كونها مراكز حضرية ذات استيطان متعاقِب. وحتى اليوم ينتشر على امتدادها الواصل من شمال غرب سوريا إلى لبنان مئات المواقع القديمة من أديرة مهجورة وصوامع خربة ومدافن حجرية، يشي مظهرها العام بأنها ذات وظائف متعددة، الوظيفة الدينية من بينها هي الغالبة.

عند السؤال عن هذه المواقع، تتكرر في المجتمعات المحلية عبارات عمومية من قبيل إنّها كانت مراكز عبادة وحياة وعيش ونسك لشعوب وأقوام سالفة تختلف في عباداتها وطقوسها عن الديانات والطقوس السائدة اليوم في جبال الساحل، أي الإسلام بنسخه العلوية والإسماعيلية والسنية، والمسيحيّة المتناثرة حالياً في مواقع قليلة عبر الجبال. ولكن هذه اﻹجابات تتجاهل السياق التاريخي لهذه التحولات طويلة المدى، وكيفية تغيّر تأثيرها بمرور الوقت، وأن هذه المواقع تشكّل جزءاً مجهولاً من تاريخ وجغرافيا المنطقة، كما أنّها لا تقدّم كثيراً من الشروحات ﻷدوارها في المجتمعات المحلية اﻵن وسابقاً، نظراً لتجاهل التأريخ المحلي والعام لها.

آلهة الجبال الفينيقية

بعد آثار العصور الحجرية القليلة والنادرة، الأثر الفينيقي هو ثاني أقدم الأثريات في المنطقة الساحلية السورية، وبقدر ما كان هؤلاء شعباً بحرياً، إلا أنهم اعتمدوا على الجبال في العبادة والتجارة. وبسبب ضيق الشريط الساحلي حيث استوطنوا، فقد بنوا معابدهم الضخمة فوق الجبال. وهذا التفسير ليس وحيداً، ففي الميثولوجيا الفينيقية هناك حضور للآلهة التي تستوطن الجبال. وحتى اليوم، يسمّي أهل اللاذقية جبل الأقرع -شمال المدينة- باسمه الفينيقي الأوغاريتي "بعل صافون". وصافون هي كلمة مشتقة من صفاء أو صاف، والجبل مقدس ومركز للإله السيد ـ صافون، وتذكره "ملحمة البعل" الأوغاريتية التي تحكي قصة صافون رب الصاعقة والمطر، وقد وُجِدَت نقوشٌ له ممسكاً بصاعقةٍ ذات ثلاث شعب، تشبه مذراة القمح أو الشوكة الثلاثية. ما بقي من هذه الآثار أو المعابد نادر، ومنه صومعة هرمية الشكل في منطقة رشّي في جبال مصياف الشرقية، تتميز بشكلها ورسوماتها الفريدة.

قمم يحتلها أنبياء طوال القامة!

لليوم، تحمل قمم الجبال الساحلية أسماءً موغلة في القدم، حيّةً بين الناس، وتحمل قداستها من وجود مقامات ومزارات دينية بنيت فوق مواقع مقدسة لدى الشعوب الأقدم، وهذا سياق طبيعي في حلول اللاحق محلّ السابق في المكان أو التديّن أو الاقتصاد، ويحدث ذلك بالضرورة بمفردات وطقوس جديدة وأحياناً هي استمرار للطقوس القديمة بمعانٍ جديدة.

حصل اندماج اجتماعي بين سكّان الجبال المسيحيين مع الوافدين بدءاً من العهود اﻹسلامية الأولى، الإسماعيلية بدءاً من القرن الثامن الميلادي، والنصيرية من القرن العاشر الميلادي. ولا تتعلق الأسباب ب"إخفاء" الديانة بل بالتخلص من مضايقات السلطات الحاكمة بالجزية واللباس وغيره، ولقرب المذاهب الوافدة من إيمانهم، فسكان سوريا كانوا "يعاقبة"، من أصحاب الطبيعة الواحدة للمسيح، وكانت كنيسة روما تعاقب بالقتل من يتبع مذهب اليعاقبة!

تحمل بعض قمم جبال الساحل أسماء أنبياء ذكرتهم الكتب المقدسة مثل النبي يونس ("يونان")، أيوب، والنبي شيث، ومتّى، وقابيل، وصالح، وشعيب، ويوسف، في أرياف اللاذقية وطرطوس وبانياس والقدموس ومصياف. آخرون لم تذكرهم الكتب المقدسة، مثل حمزة (ريف اللاذقية الشمالي، لم نعرف له تاريخاً)، وجابر (الشيخ بدر، طرطوس)، والنبي "زاهر" الدريكيش، والنبي "مند" في حمص الذي يزوره سُنّة المنطقة، ولعلّ المفتاح هنا كلمة "نبي" التي تحمل معنى الشخص المتصل باﻹله من غير تبليغه لرسالة أو ما شابه، وقد تكون الأسماء نسبة إلى متصوفين أحدث لكونها في غالبيتها عربية وقد تغيّرت الأسماء الأصلية بتغير القاطنين في المنطقة.

مقالات ذات صلة

هناك قمم أخرى ضمن الجبال نفسها، تحمل أسماءً ﻷولياء محليين تشير أسماؤهم إلى أنهم متصوفون، أو قدموا للتصوف بعد حياة القتال، أو أنهم شيوخ محليون لهم كرامات يعتقد بها السكان المحليون. قسم مهمّ من هذه القمم يقع قرب ينابيع المياه المقدسة حتى اﻵن. من الأمثلة، جبل زين العابدين (بن علي) وجبل كفراع ومقامات الأربعين (قرب حماة) والأقرع وغيرها.

على أنّ هناك قمماً ومواقع تحمل أسماءً لأصحاب عقائد غنوصية (عرفانية) سابقة على الحضور المسيحي والإسلامي - بأشكاله المختلفة - كما أنّ المدافن الصخرية في الجبال تسمّى "ناغوص"، وربما لهذا الاسم دلالة على عهد الغنوصية السابقة للمسيحية والإسلام، ومنها على سبيل المثال في حماة، وعلى سفوح الجبال الشرقية قمة النبي "مليخا" أو "يمليخا"، ويقال هنا شعبياً أنه من "أهل الكهف" على غير دليل، وهناك في طرطوس النبي "كيكي" أو "خيخي" قرب حصن سليمان، وهو نبي كنعاني أو فينيقي. وما تزال هذه المواقع من أركان الثقة المجتمعية والقسم والتوسل عند المعمرين. ويلاحظ أنها في غالبيتها "مقامات" لا قبور، وفي تفسير ذلك فإن هؤلاء الناس الذين قدموا غالباً من مناطق بعيدة، مثل العراق أو اليمن، كان لا بد لهم من ابتكار رموز مادية تعبر عن معتقداتهم الدينية يلجؤون إليها وقت الحاجة، ويتوسلون بها، وهو الأمر المستمر حتى اليوم في كل بقاع الأرض ولا ينفرد أهل الجبال به، وزيارة المسلمين للحجر الأسود لا تختلف عن ذلك.

تتكرر في المجتمعات المحلية عبارات عمومية من قبيل إنّها كانت مراكز عبادة وحياة وعيش ونسك لشعوب وأقوام سالفة تختلف في عباداتها وطقوسها عن الديانات والطقوس السائدة اليوم في جبال الساحل، أي الإسلام بنسخه العلوية والإسماعيلية والسنية، والمسيحيّة المتناثرة حالياً في مواقع قليلة عبر الجبال.

من الملاحظ في بعض هذه المقامات أنّ طول القبور يتجاوز ستة أمتار وأحياناً يصل إلى عشرة، ولا يوجد تفسير مؤكد لهذه الحال، ومنها بالقرب من القدموس حيث يقع مقام للنبي شيث، وقد ذكره الشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته "حلة الذهب اﻹبريز". وطول المقام نفسه في بعلبك اللبنانية ستة عشر متراً.

الأمكنة المسيحية في الجبال العلوية

يؤكد الانتشار الكبير لأسماء القرى التي ما زالت تحتفظ بكلمة "دير" أو "دوير" أو "كنيسة" ومشتقات هذه الأسماء، الأهمية البالغة التي شكّلتها الجبال الساحلية السورية في حياة الرهبنة المسيحية على مدار قرون، سواء كان ذلك هرباً من الاضطهاد الروماني على ما تقول الأدبيات المسيحية الأولى أو بسبب مواقع الأديرة المنعزلة وملاءمتها لحياة الرهبنة التي بدأت منذ القرن الثاني. ويبدو من المنطقي أنّ انتشار المسيحية في الجبل حدث عندما تبنى قسطنطين المسيحية ديناً رسمياً للبلاد السورية، وأنهم بقوا في الجبال حتى العهد الإسلامي وبعده.

بإحصاء بسيط، وجدنا ما يفوق مئة موقع في جبال الساحل والساحل نفسه، تحمل اسم "دير" و"كنيسة" ومشتقاتهما، وغالبيتها مأهول حتى الساعة، وتتوافر فيها مواقع كنسية ومدافن حجرية وأديرة مهجورة ومخربة في غالبيتها.

وإذا كان من الصحيح أن كلمة "دير" السريانية تحمل معنى "البيت" فإنّ وجود بقايا كنائس ومدافن في غالبية هذه المواقع يؤكد الوجود المسيحي، الرهباني أو السكاني فيها منذ القرن الثاني الميلادي تقريباً، حيث يسجّل دير الفاروس في مدينة اللاذقية أقدمها (181 ميلادي) ويحتل دير مار الياس المرتبة الثانية (طرطوس - الصفصافة). أما سكانياً، وعلى سبيل المثال، فإنّ قرية "السيسنة" في صافيتا تحتضن كنيسة تضم قبر الشماس "سالم بن داود" مع إنجيل مكتوب بخط اليد على ورق البردى، يعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي، قد حفظ قبر الشماس الإنجيل المكتوب بالعربية.

لليوم، تحمل قمم الجبال الساحلية أسماءً موغلة في القدم، حيّةً بين الناس، وتحمل قداستها من وجود مقامات ومزارات دينية بنيت فوق مواقع مقدسة لدى الشعوب الأقدم، وهذا سياق طبيعي في حلول اللاحق محلّ السابق في المكان أو التديّن أو الاقتصاد، ويحدث ذلك بالضرورة بمفردات وطقوس جديدة وأحياناً هي استمرار للطقوس القديمة بمعانٍ جديدة.

من الملاحظ في بعض هذه المقامات أنّ طول القبور يتجاوز ستة أمتار وأحياناً يصل إلى عشرة، ولا يوجد تفسير مؤكد لهذه الحال، ومنها بالقرب من القدموس حيث يقع مقام للنبي شيث، وقد ذكره الشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته "حلة الذهب اﻹبريز". وطول المقام نفسه في بعلبك اللبنانية ستة عشر متراً. 

مثالٌ ثانٍ يعود إلى فترة أقرب، يشير بوضوح إلى تواجد مسيحي متأخر في المنطقة، هو قرية بويضة (حالياً "بويضة السويقات" التابعة لناحية صافيتا) التي كانت قرية مسيحية كبيرة حتى العام 1595 ميلادي، وفق الأسماء الواردة في دفاتر الأرشيف العثماني (TTD 193). وهناك نموذج آخر أكثر تقدماً يعود إلى القرن السادس عشر، هو قرية "بيرة الجبل" في حماة منطقة سلحب، حيث توجد فيها كنيسة بيزنطية خربة، والكنائس البيزنطية كثيرة في الجبل أكبرها في بيت ياشوط - جبلة.

هل كان العلويون مسيحيين؟

تشير أسماء المواقع إلى جملة احتمالات تتعلق بالسكان المقيمين في هذه المناطق، فهل كانوا مسيحيين وتعلونوا؟ أم أنّ الوافدين كانوا علويين واندمجوا مع المسيحيين وتفوقوا عليهم عددياً ثم دينياً؟

كان أوّل من انتبه إلى التشابه في العادات والتقاليد والطقوس بين العلويين والمسيحيين العالم البلجيكي اليسوعي هنري لامنس (1862-1937) الذي كتب بحثاً بعنوان "العلويون: هل كانوا مسيحيين"؟ ونشره في مجلة "الشرق المسيحي" العام 1901 بالفرنسية في بيروت.

وقد اعتمد في مقاربته على جملة من المتغيرات، منها أنّ شيخ دين علوي في قرية مريمين (حمص) التي زارها العام 1899 قام "بمسح طفل أمامه بالزيت على صدره بشكل صليب"، وأفهمه الشيخ أنهم يدهنون كل الأطفال بالزيت بعد أشهر قليلة من ولادتهم، ويعتبر لامنس أن هذه العادة بقيت لدى العلويين من إرثهم المسيحي إذ أنّ مسيحيي الشرق كانوا "يدهنون الطفل بالميرون بعد المعمودية". وفي الحقيقة فهذه العادة لا تخص المسيحيين فقط، بل هي عادة مشرقية منتشرة قبل المسيحية. ويضيف لامنس عناصر أخرى، منها الاحتفالات العلوية بعيد الميلاد وعيد القديسة بربارة، ثمّ "الآثار المسيحية الرومية البيزنطية الكثيرة المتبقية في القرى ذات الطابع العلوي والتي لا يزال العلويون كالمسيحيين يزورونها للتبرك حتى اليوم". وهو يعدد أماكن فيها كنائس وأديرة، ويقول إنّ إشارات الصليب والكتابات اليونانية في بلداتهم أكثر من أن تعد وتحصى. وينتهي لامنس إلى أن منطقة سكن العلويين (جبل برجيلوس) و"مدن وادي العاصي والساحل" منذ القرن الثامن الميلادي تعرضت للغزو من قبل المسلمين - ولا يحدد من هم وقبائلهم - وسكنتها قبائل "لم تكن معتدلة" إطلاقاً، فاضطر أولئك المسيحيون إلى إخفاء دينهم المسيحي وتكييف عاداتهم المسيحية مع بعض المظاهر الإسلامية كي يصبحوا مقبولين من "الحاكم الإسلامي" فكانت "الطائفة العلوية".

تقترب طروحات لامنس من الدعاية الاستشراقية بشكل واضح، خاصة أن الكنيسة البيزنطية غيرها لم تسجل في وثائقها صراعات وازنة بين الفريقين المفترضَين. والأكيد أنه لو حدثت صراعات لسجّلتها الكنائس المحلية أو لبقيت في تراثها الشفوي. والأكثر منطقيةً، هو حصول اندماج اجتماعي بين سكّان الجبال المسيحيين وغيرهم مع الوافدين بدءاً من العهود اﻹسلامية الأولى، مع احتمال حدوث تحوّل ديني للسكان المسيحيين في زمن رجّح أنّه ابتداءً من القرن السابع الميلادي، باتجاه الديانات الوافدة، الإسماعيلية في الأطراف الجبلية بدءاً من القرن الثامن الميلادي، والنصيرية من القرن العاشر الميلادي، ﻷسباب لا تتعلق بإخفاء الديانة، بل لمضايقتهم من السلطات الحاكمة بالجزية واللباس وغيره، وقرب المذاهب الوافدة من إيمانهم، خاصة أنّ سكان سوريا كانوا "يعاقبة" (منسوب إلى يعقوب البرادعي) من أصحاب الطبيعة الواحدة للمسيح، وكانت كنيسة روما تعاقب بالقتل من يتبع مذهب اليعاقبة، فهربوا إلى الجبال العالية. ويقول "يارون فريدمان" في كتابه "العلويون النصيريون" إنّ كثيراً من اليعاقبة تحوّلوا إلى العلوية، مما يفسر تناقص أعدادهم وتزايد أعداد العلويين في الجبال، من غير ينفي ذلك احتمال هجرة مسيحيين مع الغزو الصليبي الذي استمر مئتي عام.

تبدّل واستمرار الأمكنة المقدسة

يوضح تمازج أماكن العبادة بين الغابرين واللاحقين كيف أنّ التدين الشعبي في الريف والجبال أقوى من التدين الرسمي وأقرب إلى الطبيعة والبساطة البشرية.

فلا يكاد يوجد مكان في الجبال الساحلية إلا وهو مزيج من طبقات حضارية متمازجة لا متموضعة فوق بعضها بعضاً، ومثاله الأوضح "الخضر" الذي تملأ مقاماته الجبال السورية، وهو "شخصية" أو "حالة" غامضة أو "نبي" أو "وليّ" ميزته أنه "حي لا يموت"، ويوضح انتشاره الكبير واستمراره حياً في قلوب وعقول مختلف أنواع السكّان في الجبال منذ زمن غير معروف حتى اﻵن، تراكب طبقات من الإيمان به لدى هؤلاء. والملفت أنّ مقاماته مشتركة بين الطوائف والأديان وطقوس الاحتفال حول مقاماته واحدة، وهو القديس جورج كما هو الخضر الإسلامي رفيق النبي موسى. وكمثال حيّ، ففي منطقة عرامو (صلنفة - اللاذقية) نجد ديراً فيه مقام للخضر يزوره أهل المنطقة من مسيحيين ومسلمين.

مثال آخر، هو دير "مار الياس" أو دير "مار الياس الريح" (كيلومتر واحد عن قرية الصفصافة - 20 كم عن طرطوس) وهو نموذج مثالي للأبنية الدينية التي تنقلت بين أبناء الديانات المختلفة، أو بين أيدي أبناء الديانة نفسها الذين ينتمون إلى مذاهب مختلفة. فالدير رسمياً يتبع حالياً الروم الأرثوذكس، ولكنه بني في عهد الامبراطور قسطنطين وأمه هيلانة في القرن الخامس الميلادي، ومع العهد الإسلامي تحوّل إلى "مزار محمد الرياحي"، وذلك اعتباراً من القرن الثامن الميلادي، ومع مجيء الصليبيين عاد ديراً، وما زال الدير حتى الآن باعتراف أبناء الديانتين يسمى دير "مار الياس الريح" وتقام قربه احتفالات شعبية كبيرة في عيد النبي الياس في 19 - 20 تموز/يوليو من كل عام.

بإحصاء بسيط، وجدنا ما يفوق المئة موقع في جبال الساحل والساحل نفسه، تحمل اسم "دير" و"كنيسة" ومشتقاتهما، وغالبيتها مأهول حتى الساعة، وتتوافر فيها مواقع كنسية ومدافن حجرية وأديرة مهجورة وخَرِبة في غالبيتها.

أيضاً بين مدينتيّ طرطوس وبانياس هناك مقام الشيخ "محمد الرياحي"،(وهو يحمل اسم دير مار الياس نفسه وتحتاج معرفة السبب إلى بحث واستقصاء) وهو من شيوخ العلوية، ويعتبره المسيحيون (الموارنة) قديساً مسيحيّاً يدعى مار مانوس، ويقول بعضهم إنه كان مطراناً، ومعظم كنائس القلاع البيزنطية والصليبية، حوّلها المسلمون بعد فتحها إلى مساجد فتبادلت الأدوار بين الدينين تبعاً للسيطرة.

الأسئلة مستمرة ﻹدراك الحاضر

الأسئلة التي تطرحها هذه الأمكنة لا تتعلق فقط بمجال التاريخ، بل قد تكون مفاتيح لإدراك الحاضر وأنّ تحوّلات الهوية الإنسانية بمعانيها الحضارية والدينية والسياسية، مبنية على منطق التراكم والانزياح والجيرة البشرية بما تحمل من طقوس وعادات وانفتاح أو انغلاق على الآخر، وهذه الانزياحات بمجملها هي ما يخلق الثقافة والحضارة ويطلق نمواً للهوية الوطنية بمعانيها التعددية.

مقالات ذات صلة

إضافةإلى ما سبق، فإنّ مجال التاريخ مربوط مع الجغرافيا يخلق متسعاً للمساهمة في تبديد ضباب يغطي فترات زمنية (شبحية) فيها كثير من قلة المعلومات، حيث تجري محاولات استيضاح حركية الناس في سياق بناء التراكم الحضاري بأشكاله المختلفة، وخاصة ما يظهر منه في المعمار، الذي يعكس في كل منطقة جوانب من أوضاع المجتمعات المحلية وطقوسها وأديانها وحياتها بما فيها تغيراتها المعاشية وأكلها وشربها واحتفالاتها المستمرة بأثواب مختلفة مع الجماعات الجديدة. 

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه