جنود مخفيون في الحرب السورية!

مزارات الأولياء حاضرة بكثرة في الساحل السوري، حيث تنتشر الطائفة العلوية التي يحتل المتصوفون مكاناً هاماً في مرجعيتها الفكرية.. والمزارات في كل مكان هي شكل للتدين الشعبي، وهي ملجأ لأوجاع وهموم الناس إبان الأزمات الكبرى والحروب
2016-08-19

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
إياد القاضي - العراق

تغص المنطقة العربية بآلاف المزارات والأضرحة والمقامات ممتدة في كل بقعة من بقاعها، حاضرة في راهنها كما ماضيها، وفاعلةً في سردياتها الراهنة بأكثر مما يُتوقع، بل يعلو دورها كلما تعمق انتشار الخراب في النفوس والأمكنة.

 يصعب تاريخياً تحديد لحظة بدء ظهور هذه الأضرحة والمزارات، والمشرق كما المغرب مسرح مزدحم بالآلهة ووكلائها وتجلياتها. في المشرق بدأت سلسلة انشقاقات عن جسد الإسلام الرسمي بمفاعيل اقتصادية وسياسية، وبشكل أساسي حضارية، منبعها تراث ضخم (معرفي وعرفاني) لم يهضم فقر رؤية الإسلام الرسمي للعالم، فأدى إلى تشكيل رؤية مغايرة له. ونجد اليوم في ظل خراب مهول وممتد، كثيراً من "الرجعات" و"الكرّات" إلى عالم غيبي ينتظر أن يفتح كوة خلاص محتملة ومرغوبة في السماوات التي لم تتخل بعدُ عن دورها في الانحياز إلى طرف دون الآخر، وللأولياء هنا الدور الأكبر في نقل رسائل التوسل البشرية إلى السماء وتلك التضامنية منها إليهم.

 حضور كل منهم مختلف في درجات التأثير على الذاكرة الجمعية لشعوب المنطقة وجماعاتها الدينية. ففي بعضها يتفوق هذا الحضور إلى درجة التماهي مع التجربة المفارقة عن السياق الرسمي للأديان التوحيدية، وينخفض لدى بعضها الآخر تبعاً لمفاعيل دينية وتاريخية. وفي حالات خاصة يتفق الجميع على رمز مصدره الكتب المقدسة، الخضر ("مار جرجس") أبرزها.

لا يقتصر دور الأولياء على طائفة من دون الأخرى، مع اختلاف نسبية الدور بينها، ففي حين يقترب التصور المسيحي بأنواعه والإسلامي الأقلياتي (العلوي والإسماعيلي واليزيدي والدرزي) من بعضه البعض في دور وساطة الأولياء بين الأرضي والسماوي، ينخفض التصور السني إلى حدود الاحترام والتقدير مع رفض أي معجزات منسوبة لها، ففي ذلك تعدٍ على قدرة الخالق وفق المعروف عن مدارس التفسير الأربعة (والشافعية ربما هي أقلها حدةً).

 يرتفع ويزيد حضور الأولياء والمزارات في الساحل السوري عن غيره من المناطق لعوامل عديدة مرتبطة ببنية التدين. فالعلوية ـ الأكثر انتشاراً هنا ـ هي أساساً قراءة صوفية معرفية يحتل المتصوفون دوراً رئيسياً في مرجعياتها الفكرية وصياغة رؤيتها للعالم والحياة والآخرة، مرتكزين على منجز فلسفي متنوع المشارب، وهو أمر كفل للأولياء (المتصوفين حكماً) حضورهم الكبير في هذه المنظومة (يفوق العدد في الساحل وحمص والغاب 800 مقام، ويندر وجود قرية أو مزرعة من دون ولي).

 بعض الأولياء معروفين كشخصيات لعبت دوراً في تاريخ المنطقة، ويمكن تتبع آثارهم في مخرجات التصوف وكتبه ومأثوراته المنتشرة شفاهياً عن كرامات (وليس معجزات) قاموا بها، خاصة زمن الاحتلال العثماني. ولهم إلى اليوم حضورٌ فاعل وقوي يتجلى في استقطاب مئات الزوّار إلى مقاماتهم، بزيادة ملحوظة منذ بدء الحرب السورية لأسباب لا تَخفى على أحد.

 يُدفن الولي صاحب المقام في حوش أو مقبرة منفصلة عن مقابر العموم، تحيط به أشجار السنديان والبلوط، وعادة ما يحتل قمة من القمم الجبلية لكونه أقام في هذا المكان منعزلاً ومنقطعاً عن البشر. وبناؤه في القمة استمرار لتقليد قديم في بناء المعابد الخصوبية في المشرق على تلك القمم. تقول رواية شعبية إن أول من بنى مقاماً على قمة جبل كان "سام" بتكليف من أبيه النبي "نوح" بعد الطوفان، لتذكير الناس بما حدث، وهي الفكرة التي بنى عليها الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة كتابه "مرداد".

 يشيّد على الضريح بناء يتوج عادة بقبة نصف دائرية لها دلالتها في التفسير الصوفي للعالم (فالعالم كرة وهو نقطة أيضاً). والقبة كما هو معروف أحد أهم الرموز المعمارية المشرقية. ومن ثَمّ يزين الضريح بالأثواب الخضراء (لون راية النبي محمد)، وتسمى هذه الأثواب "خلْعات" (مفردها خلعة) وتعني أُغطية. إضافة إلى وجود عشرات النسخ من القرآن بشكل رئيسي، والإنجيل والتوراة في بعض المقامات (مقام الشيخ "يوسف" في "ربعو" من طرطوس).

 وإلى اليوم، ما زالت قدرات أصحاب المقامات حاضرة في مخيال شرائح مهمة من البشر (حول العالم)، مؤمنة بكراماتهم وبركاتهم، يلجأ إليها الناس لقضاء حوائجهم المستعصية مثل عدم الإنجاب والشفاء من أمراض قاسية. ولا يتم ذلك بشكل اعتباطي، فلكل مقام اختصاصه الذي تحفظه الذاكرة الشعبية، متناقلة معجزاته المسنودة إلى شهود موثوقين. في سياق الأزمة الراهنة في سوريا، زاد دور المقامات المختصة بإرجاع الغائبين (ومنها مقام الشيخ "يوسف" ذاك ويزوره مختلف أبناء الطوائف بحثاً عن عون بشأن أبنائهم المفقودين والمخطوفين، وتناقلت المحافظة قصصاً عن الأمر سلباً وإيجاباً). وبالطبع لا يتم ذلك من دون تقديم الهبات إلى خدّام الولي وذبح القرابين وتقديمها للفقراء أو للمعتاشين حول المقام.

في سياق سابق، جرت محاولات عدة للتعدي على هذه المقامات من قبل تيارات رافضة للتدين الشعبي هذا، رابطةً إياه بالغيبيات والتخلف، آخرها جرى مؤخراً في مدينة حمص من قبل مجموعة مجهولة اسمها "المصباحية"، سبقها أواسط التسعينيات محاولات أعضاء في جمعية "المرتضى" حرقت فيها بعض مقامات الساحل السوري. وفي الحالتين كان هناك رفض شعبي لهذا الفعل مطلقاً.

 يلاحظ في مقامات المشرق العربي بمختلف طوائفها خلوها التقريبي من قصص فك السحر والشعوذة وقراءة الطوالع وغيرها من الممارسات التي اختص بها مجتمع المدينة، واقتصار العلاقة التي تربطها مع زوارها على التدين الشعبي قديم العهد، الطقوسي السلمي. وفي تفسيره الأنطولوجي، فهو يستعيد الذكرى الإبراهيمية بطريقة متصالحة مع السماء والطبيعة، فيمنع مثلاً قطع وتحطيب أية شجرة في محيط المقام، وهو أمر ساهم فعلاً في الحفاظ على ملامح الطبيعة، عدا عن تشكيله أرضية سياحية شعبية لم يحسن استخدامها جيداً حتى اليوم.

 لم يكن لهذه المقامات أي دور سياسي عبر تاريخها، وعانى بعضها من الإهمال رغم وفرة مدخول الزيارات إليها من هبات وذبائح، في غياب سياسة وقفية ممنهجة (في الساحل السوري تحديداً). ولكنها استعادت جزءاً مهماً من دورها الحمائي ـ الإيماني في سياق الحرب الراهنة، فهناك إيمان شعبي يقول بأن هذه المقامات هي "أعمدة الله على الأرض"، لذلك يزورها بعض الجنود قبل التوجه إلى المعارك.

 وكثيراً ما تناقلت الأوساط الشعبية حكايات عن رسائل ظهرت لأشخاص لدى زيارتهم لهذا المقام أو ذاك، أو إخباريات عن أحداث سوف تقع في الحرب السورية، من بينها أن هذه الحرب سوف تستمر سنوات سبع وتنتهي بعد "أن تغطي الأرض الدماء لسبعة أيام فلا تعود أمٌّ تدري من أمامها أهو ابنها أم عدوها". وتتقاطع هذه الرؤى مع طروحات "نهاية العالم" الإسلامية التي تقول باقتراب الساعة بعد معركة "الملحمة الكبرى" بالقرب من دمشق. وهذه سيتواجه فيها فريقا الكفر والإيمان للمرة الأخيرة قبل يوم القيامة...

 من الملاحظ أخيراً أنّه لا يوجد أي مقام أو ضريح لامرأة، ليس في الساحل السوري فقط بل في عموم المشرق العربي. ولعل تفسير ذلك يعود إلى غياب أو تغييب دور المرأة في قطاع كانت فيه الذكورة هي الآمر الناهي.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه