وليد دقة الذي عاش ومات حرّاً

عاش وليد دقّة غصباً عن القيد، غصباً عن السجان، غصباً عن الزنزانة، غصباً عن دولة الاحتلال بأكملها، غصباً عن العالم المختلّ بأسره، غصباً عن المرض أيضاً، غصباً عن العمر المنهوب ثُلثاه (38 عاماً!) في السجن. حياةً نال فيها الماجستير أسيراً، أحبّ وتزوّج فيها في السجن، أنجب فيها طفلةً جميلة بنطف مهرّبة، كتب فيها شعراً ونثراً، كتباً عن الأسر والنضال، صنع عوداً، مسرحاً، قصة... كلّها "في الزمن الموازي".
2024-04-11

شارك
بورتريه عائلي متخيل.. لوحة للفنانة الفلسطينية سهاد الخطيب
إعداد وتحرير: صباح جلّول

في سجن جلبوع التقى وليد دقّة بالأسير فِداء الشاعر. كان الأخير موسيقياً حبيساً بلا أداته الموسيقية الحبيبة، أحبطه رفض محكمة الاحتلال طلبه بإدخال عودٍ إلى السجن. "بنعمل عود"، قال له زميله في الأسر وليد دقة، ثمّ اجتهد فوراً لإنجاز المهمة: أوتار مهرّبة في بناطيل، أجزاء من مكانس وكراسٍ خشبية لجسم العود، براغٍ معادة التدوير، وهِمّة الأسرى ومواهبهم، فكانَ عود. بالطبع، صادره السجانون فور اكتشافهم أمره لاحقاً، لكن لبرهة من الزمن، كان هناك موسيقى وغناء ومتنفّس جديد داخل الزنازين. كان ذلك لأنّ واحداً من الأسرى قال: بنعمل... وكان اسمه وليد دقة.

يذكر الكاتب عبد الرحيم الشيخ في مقال له في مجلة الآداب أن الأسير وليد دقة معروف "بتعدد الأدوات التي يتوسّلها لإيصال صوته وصوت الأسرى الفلسطينيين". وفي هذا السياق كانت كتابته لمسرحية غنائية في السجن بعنوان "حكاية المنسيين في الزمن الموازي". والزمن الموازي "مفهومٌ مفتاحيٌّ لدى وليد دقَّة"، يقول عبد الرحيم الشيخ، "يصوِّر الجوانبَ الفلسفيّةَ التي يحياها الأسرى الفلسطينيّون في السجون الصهيونيّة، في مقابل "الزمن الاجتماعيّ الذي يعيشه مَن هم خارج السجن".

والدة وليد دقة التي رحلت عن الدنيا فيما ولدها في السجن- أمام صورة لوليد دقة

نرى الآن، بوضوح شديد، إذ نرثي الأسير الشهيد المقتول بالإهمال الطبي المتعمَّد في السجن الصهيوني، كيف أن "الزمن الموازي" الذي كتب عنه كان فلسفة مارسها الشهيد عملياً، لا نظرياً فحسب.. "حياةً موازية" كاملة أفقدت سجّانيه صوابهم. لقد عاش وليد دقّة غصباً عن القيد، غصباً عن السجان، غصباً عن الزنزانة، غصباً عن دولة الاحتلال بأكملها، غصباً عن العالم المختلّ بأسره، غصباً عن المرض أيضاً، غصباً عن العمر المنهوب ثلثاه (38 عاماً!) في السجن. حياةً نال فيها الماجستير أسيراً، أحبّ وتزوّج فيها في السجن، أنجب فيها مع زوجته، الناشطة الحقوقية والمترجمة سناء سلامة، طفلةً جميلة بنطف مهرّبة، كتب فيها شعراً ونثراً، كتباً عن الأسر والنضال ورسائل، صنع عوداً، مسرحاً، قصة... كلّها "في الزمن الموازي". تكاد حكاية وليد دقة تبدو وليدة خيال يبالغ في تصوير الأسير البطل خارقاً لا ينال منه وحشٌ في طول الأرضِ وعرضها، لكنّ كلّ من تابع رحلته النضالية، مراحل أسره وعذاباته، يعرف أنه لم يكن بخارق. كان مريضاً بنوعٍ نادر من سرطان النخاع الشوكي لم يثنِ الاحتلال عن الاستمرار في سجنه ومناكفته بمنع العلاج المطلوب عنه من جهة (هو الذي قدم الأسير زكريا الزبيدي طلباً للتبرع له بنخاعه الشوكي)، وتمديد حبسه رغم انتهاء محكوميته قبل عام تقريباً (في 23 آذار / مارس 2023) مع العلم بخطورة وحساسية وضعه، حتى وفاته، بل قتله بالإهمال، يوم 7 نيسان/ أبريل 2024.

كل ما فعله الاحتلال بوليد دقة كان انتقاماً من حبّه للحياة وقدرته عليها رغماً عن الاحتلال، فالتهم الوحش جلّ عمره إذ كان كمن أكل شوكة بقيت عالقة في حلقه. فكيف له أن يفهم لماذا وكيف يتزوج رجل سجين في ظروف شديدة التعقيد من امرأة خارج السور، يحبها وتحبه، في زفاف انتُزع من بين القضبان انتزاعاً؟ وكيف يفهم أن يبلغ حلم إنسان مبلغاً يدفعه لتهريب نطفه وابتداع عائلةٍ مع زوجته بـ"ميلاد" جديد؟ وكيف وكيف... تلك رسالة أملٍ لا تفنى.

مما قال وليد دقة..

"الكتابة هي نفقي الذي أحفره تحت أسواري حتى أبقى على صلة مع الحياة، حياة الناس وهموم شعبنا وأمتنا العربية، وهذا لا يعني أن الكتابة انفصال عن واقعي داخل الأسر"...

"الكف عن الشعور بالصدمة والذهول، والكف عن الشعور بأحزان الناس... أي ناس، وتبلّد المشاعر أمام مشاهد الفظائع... أي فظائع، كان بالنسبة إلي هاجساً يومياً، ومقياسي لمدى صمودي وصلابتي. إنّ الإحساس بالناس وبألم البشرية هو جوهر الحضارة، جوهر الإنسان العقلي هو الإرادة، وجوهره الجسدي هو العمل، وجوهره الروحي هو الإحساس، والإحساس بالناس وبألم البشرية هو جوهر الحضارة البشرية. وهذا الجوهر بالذات هو المستهدَف في حياة السجين على مدار الساعات والأيام والسنين. أنت لستَ مستهدَفاً ككائن سياسي بالدرجة الأولى، وأنت لستَ مستهدَفاً ككائن ديني أو كائن استهلاكي تُمنع عنه ملذات الحياة المادية. قد تتبنى أي قناعة سياسية تريد ويمكنك أن تمارس شعائرك الدينية، وقد يتوفر لكَ الكثير من الحاجات الاستهلاكية، لكن يبقى مستهدَفاً بالدرجة الأولى الكائن الاجتماعي والإنسان فيك"...

(من كتاب "صهر الوعي")

"حكايتُنا لم تنتهِ. لكلّ الحكايات بدايةٌ ونهاية، إلّا حكايتنا، لم نَكْتُبْ لها نهايةً بعد. فحين يتحوَّل وطنٌ بكامله سجناً، ويكتفي الناسُ بالمشاهدة، نخشى أن نصبح فرجةً وصندوقَ عجبٍ يُكرِّر نفسَه، ويغدو المشاهدون زنازينَ متنقّلةً حتى لو اعتقدوا أنّهم أحرار. فحذارِ أن تصبحوا أنتم زنازينَ متنقّلة."

(من مسرحية "حكاية المنسيين في الزمن الموازي")

غلاف مخطوطة مسرحية الزمن الموازي بخط وليد دقَّة

_________________________________________________________________

لتحميل كتاب وليد دقة "صهر الوعي" مجاناً:
https://tinyurl.com/3vfw433n

مقالات من فلسطين

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....