لم تنتهِ حكاية أسرى فلسطين: غداً تطير العصافير

في العام 2000، تبلورت فكرة تهريب السائل المنوي للأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية وإيصاله إلى زوجاتهم، ليبدأ بعد ذلك مشوار آخر.. كان ذلك واحداً من سبلهم للحصول على ملامح من الحياة الموسومة بالحرية والفرح، وكذلك بالتحدي: ولادة طفل لهم بينما هم معتقلون!
2019-12-02

عبد الله أبو كميل

صحافي من غزة


شارك
الحسن، ابن الاسير تامر الزعانين من قطاع غزّة ولد في العام 2014

تتعثر إمكانيّة الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين بالمفاوضات، فيبحث هؤلاء عن سبيل للحصول على ملامح من الحياة الموسومة بالحرية والفرح، وكذلك بالتحدي. وما هو الشيئ الأكثر تجسيداً لهذه القيم من ولادة طفل جديد لهم بينما هم معتقلون!

في عام 2000، بلورت الحركة الأسيرة فكرة تهريب السائل المنوي للأسرى الفلسطينيين من داخل السجون الإسرائيليّة وإيصاله إلى زوجاتهم، ليبدأ بعد ذلك مشوار آخر. أثارت الفكرة خلافات بين الأسرى، وقد عارضها بعضهم.. إلى أن كُتبت رسالة من داخل الزنازين تسأل عن موقف التشريع الإسلامي الذي أعلن إجازتها عبر فتاوى عديدة. فبدأت قيادات الفصائل في السجون الإسرائيلية تمرر الفكرة اجتماعياً، وأن الأب الغائب حاضر في قلوب أسرته، فصارت ثورة خاضها الأسير الفلسطيني ليسجل أوَّل إنجاز من نوعه على المستوى العالمي.

أوَّل قصة نجاح وما تلاها

سُجلت أوّل النجاحات في عام 2012، حين استطاع الأسير عمار الزبن (من سكان الضفة الغربيّة) المحكوم ب 27 مؤبداً وفوقها 25 عاماً، ، تهريب نطفة إلى زوجته، التي نجحت في حقنها بواسطة عملية طبية لترزق بمولود أسموه مهنّد.

وفي أواخر عام 2006، وأثناء اجتياح القوات الإسرائيلية للحدود الشمالية لقطاع غزّة، اعتقل الممرض الفلسطيني تامر الزعانين بتهمة الانتماء لأحد الفصائل الفلسطينيّة، وحكم عليه بالسجن لمدة 12 عاماً. كان لم يمض على زواج تامر 70 يوماً من رفيقته هناء، وكالعادة كانت الزيارة متقطعة بسبب الرفض الإسرائيلي سواء للزوجة أو لوالديه. حصل تامر أثناء اعتقاله على عدّة تخصصات، فامتلك شهادة بكالوريوس تخصص التاريخ، صحافة وعلوم سياسية، دبلوم إدارة، ودبلوم خدمة اجتماعية.

واحد وخمسون أسيراً فلسطينياً استطاعوا أن ينجبوا سبعة وستين طفلاً بفضل تهريب السائل المنوي.. وإسرائيل اعتبرت هؤلاء الأطفال إرهابيين، وغير شرعيين.

وفي مساء يوم لم تغب شمسه تلقى تامر اتصالاً هاتفياً من زوجته هناء، طرحت فيه فكرة القبول بالحمل المهرّب من زوجها. هو لم يستطع الإجابة بالرفض أو القبول: "لازم أخبر أهلي" فقالت "أهلك موافقون". كانت زوجته قد عرضت الأمر على ذويه، فوافق تامر، وبدأ كِلا الزوجين يجهز تدابيره. تامر أبلغ صديقه المقدسي بضرورة تهريب نطفته من خلاله، وبدأت الزوجة بالفحوصات الطبيّة والتهيئة لإتمام العملية فور وصول العينة.. وفي شباط/ فبراير2013 كان رفيق تامر موعود بزيارة من ذويه وهم من سكان القدس المحتلة، فتم التنسيق معهم ليباشر بترتيب طريقة التهريب. يقول لنا تامر: "عملت على استخلاص السائل المنوي ووضعته في كيس بقايا الدواء لبعض الزملاء المرضى، ثم في كيس شرائح البطاطس، أغلقته جيداً بالحرارة، ومن ثم أعطيته لصديقي". العائلة المقدسيّة التي استلمت العينة من ابنها وخرجت بها إلى محل إقامتها، تواصلت مع شخص سيزور غزّة في اليوم ذاته عن طريق معبر "بيت حانون" (إيريتز). لاحظ الواقفون على النقطة التابعة لحكومة القطاع ("حرس الحدود") شيئاً غريباً يجري، فما الذي يتم تسليمه؟ أخبرهم والد تامر فسمحوا له. كان الحظ حليف تامر، إذ لم تستغرق عمليّة تهريب العينة إلى قطاع غزّة سوى خمس ساعات. سار ذوو الأسير وزوجته ل"مركز بسمة" المختص بعمليات التلقيح الصناعي للبويضة. فحصت العينة وتم التأشير بصلاحيتها. أجريت العمليّة بعد عدة مرات من التلقيح بالسائل المنوي، والتأكد على بشائر إتمام الحمل. في اليوم الذي استلمت فيه العائلة العينة تلقت اتصالاً من تامر ليطمئن على وصولها وعلى حال زوجته: "لا تقلق كل شيء بالسليم، وعقبال ما نشوف ابنك وأنت معه". وبعد ثلاثة أشهر من هذه المكالمة تلقى تامر اتصالاً يبشره بتأكيد حمل زوجته، وفي اليوم العاشر من كانون الثاني/ يناير عام 2014 جاء مخاض الولادة، وقدِم الحسن ليكون بكراً لوالده الأسير. وبعد عامين من الحدث، عاد الحظ ليحالفه من جديد عندما سمح للطفل بزيارة والده. يروي أبو الحسن لنا: "رأيت والدي وأمي يسيرون باتجاهي وطفل متعلق بحضن أمي، بدأت أتسأل: هوَّ الحسن، ولا أنا بتخيل؟ اقتربوا مني، لم يفصلنا سوى الزجاج العازل"، سقط على ركبتيه وقبله من خلف الزجاج. يتوقف أبو الحسن عن الرواية ويمسح الدمع الذي سال على وجنتيه فيما لم تفارقه البسمة. يكمل: "استطعت أن أحتضن ابني لعشر دقائق لم أتوقف فيها عن البكاء من الفرح". انتهت الزيارة: "شعرت أنّها أقل من نصف دقيقة". أبو الحسن كان محظوظًا عندما استطاع أن يلتقي بولَدِه ست مرات دون اعتراض إسرائيلي، ولعلَّ انتباهه وعائلته إلى ضرورة تسجيل ابنه فور ولادته لاستخراج شهادة الميلاد ورقم البطاقة من الشؤون المدنيّة التي تطّلع عليها إسرائيل كانت تذليلاً لعقبة ستظهر بعد ذلك.

طريق الوصول

التقينا ببعض زوجات الأسرى، الذين أنجبوا طفلاً عن طريق ماء الزوج المهرّب. في بداية الأمر رفضن الإفصاح عن الطريقة التي حصلن بها على المادة الثمينة. فتواصلنا مع أطباء أجروا عمليات الحقن، وكشفوا لنا بعض الطرق التي وصلتهم بها عينات الماء المنوي للأسرى: كانت بأكياس رقائق البطاطس وأخرى بواسطة مغلفات السكاكر، وبعضها وُضع داخل دمى الأطفال. تلك الحاويات التي يتركها أطفال الأسرى، ستتحول إلى خزان لنقل النطف المهربة التي سيحملها الأطفال في جيوبهم في الزيارة المقبلة لآبائهم.

"عملت على تهريب السائل المنوي لأحد رفاقي في الأسر. وضعت السائل في كيس بلاستيكي بعد أن تم إحكام إغلاقه ومن ثمّ وضعناه في حبة تمر بدل نواتها، وفور خروجي سلمته لأم رفيقي". أبو جياب لم يكشف عن اسم رفيقه كونه لا يزال معتقلاً في السجون الإسرائيلية.

ولكن ثمَّة طريقة أخرى تعرّفنا عليها خلال البحث. الأسير المحرر إياد أبو جياب المفرج عنه بعد قضائه 12 عاماً في السجون الإسرائيلية يقول: "عملت على تهريب السائل المنوي لأحد رفاقي في الأسر. وضعت السائل في كيس بلاستيكي بعد أن تم إحكام إغلاقه ومن ثمّ وضعناه في حبة تمر بدل نواتها، وفور خروجي سلمته لأم رفيقي". أبو جياب لم يكشف عن اسم رفيقه كونه لا يزال معتقلاً في السجون الإسرائيلية.

وشرح لنا أبو جياب طريقة أخرى كانت عبارة عن الاحتفاظ بالسائل المنوي داخل كبسولة طبيّة بعد أن يتم تغليفها بأكياس بلاستيكية، وتشميعها بالحرارة ثم تغليفها مرة أخرى بأكياس بلاستيكية صغيرة تلتف حولها خيوط، يبتلعها الأسير الذي سيطلق سراحه، وفور خروجه يقوم بإخراجها عن طريق الفضلات، وتسلّم إلى ذوي الأسرى بعد التنسيق مع الزوجة وأفراد من عائلة الأب، لإثبات أبوّة المولود شرعاً وعرفاً.

عملية التلقيح

تمكن 51 أسيراً فلسطينياً من إنجاب 67 طفلاً. يمكن للسائل المنوي العيش لقرابة الثلاثة أيام بعد استخلاصه، ما قد يتيح إمكانيّة نقل العينة بنجاح من داخل السجون الإسرائيليّة إلى قطاع غزّة أو الضفة الغربيّة المحتلة، لتسلم إلى المركز المختص. يوجد في فلسطين ما لا يقل عن 14 مركزاً طبياً مختصاً في عمليات التلقيح الصناعي، لعلَّ أبرزها "مركز رَزان" في الضفة الغربيّة المحتلة، الذي يأخذ على عاتقه تحمل كافة التكاليف المالية لإجراء العملية لزوجات الأسرى أصحاب المحكوميات العالية، بينما تصل عادة تكلفة إجراء العملية إلى قرابة الثلاثة آلاف دولار أمريكي. وفي قطاع غزّة، يشرح "مركز بسمة الطبي" طرق التلقيح التي تنقسم إلى قسمين أساسيين، التلقيح عن طريق طفل الأنابيب، أو عن طريق الحقن المجهري: في الحالة الأولى يقوم الطبيب المختص بتنشيط المبايض لإخراج أكبر عدد من البويضات الصالحة للتخصيب، تسحب البويضات وتوضع في أنبوب حيث توضع مجموعة من الحيوانات المنوية العائدة للزوج، بعد التأكد من إخصاب البويضة، يتم إرجاع البويضات إلى رحم الزوجة، عن طريق غرسها في جدار الرحم. تسمى العملية "إرجاع الأجنّة".

وتتشابه الطريقة الثانية (الحقن المجهري) مع الأولى، بخلاف طريقة التلقيح، حيث يعمل الطبيب على أخذ حيوان منوي واحد بواسطة إبرة ويغرسه في البويضة، لتخصّب بشكل مباشر. وبعد التأكد من التخصيب يتم إرجاع البويضة بغرسها في جدار الرحم.

ضوابط الشريعة الإسلاميّة

وضعت الشريعة الإسلاميّة ضوابط لإجراء عمليّة التلقيح الصناعي أو ما يعرف بزراعة "طفل الأنابيب"، بهدف حفظ النسل وعدم اختلاط الأنساب. فأجازت تلقيح زوجات الأسرى الفلسطينيين بالسائل المنوي المهرب، لكن ضمن شروط بدونها يكون الحمل باطلاً، أهمُّها أن يكون السائل المنوي مؤكداً للأسير ذاته، وأن يكون استلام عينة السائل بوجود شهود من كلا الطرفين، وأن تكون العلاقة الزوجية بين الطرفين قائمة، وأن تكون الزوجة مدخول بها، وأن يتم إشهار الحمل والإنجاب، وأن يقوم ذوو الزوجين بإعلام الأقارب والجيران بقيامهم بعملية التلقيح.

ثلث الأسرى متزوجون

أشارت مراكز الإحصاء الفلسطيني وهيئة شؤون الأسرى والمحررين إلى أنَّ قرابة خمسة وثلاثين في المئة من الأسرى الفلسطينيين لديهم أزواج، واللافت للنظر أنَّ تلك النسبة يكمن خطرها بأن أغلبهم اعتقلوا في مقتبل العمر من زواجهم، ولديهم محكوميات عالية، مما يجعل فرصة إنجاب مولود صعبة بعد تقدم العمر. وبالإشارة إلى أنَّ عدد الأسرى وصل قرابة 6400 أسير، وكان من بيهم 300 طفل، وقرابة 140 فتاة، و1100 مريض، وهم موزعون على 22 سجناً ومركز اعتقال. وقد وزع الأسرى حسب أماكن اعتقالهم إلى 4600 أسير في الضفة الغربيّة، و490 أسير في القدس المحتلة، 90 أسير من أراضي 1948 المحتلة، 325 قطاع غزّة، حسب ما أفادتنا به هيئة الأسرى والمحررين.

نظام "الخلوة" تكفله القوانين والتشريعات الدولية، وإدارة السجون الإسرائيلية تسمح للأسرى اليهود، الجنائيين والأمنيين، بالخلوة مع زوجاتهم. فقاتل اسحاق رابين قابل حبيبته وتزوج منها وأنجب عدّة أطفال. بينما تمنع ذلك عن الاسرى الفلسطينيين، بمن فيهم من يحمل الجنسية الاسرائيلية (سكان أراضي 1948).

رغم حالات النجاح التي سُجلت في عمليّة تهريب السائل المنوي للأسرى، فثمة زوجات لم يتقبلن إمكانية الإنجاب بهذه الطريقة. التقينا بهم لمعرفة الأسباب، فقالوا: "لم نقتنع بها، كيف سأنجب طفلاً لم يكن أبوه حاضناً له، لن أعيد المأساة مرة أخرى، ولن أجعل طفلي يربى دون كنف والده". أما البعض الآخر فكان خوف الفشل، أو عدم قَبول المجتمع وراء موقفهم.

الخلوة الشرعيّة مع الزوجات

من المفارقة العنصريّة لإدارة السجون الإسرائيلية أنَّها تسمح للأسرى اليهود، الجنائيين والأمنيين، بالخلوة الحميمة مع زوجاتهم أو صديقاتهم، كالسماح للأسير الأمني قاتل رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحاق رابين بمقابلة حبيبته والزواج منها فأنجب عدّة أطفال. وقد أقرت الهيئة القضائية العليا في إسرائيل حق الأسرى الأمنيين في الإنجاب على اعتبار أنه عمل إنساني، لكنها استثنت الأسرى الفلسطينيين الذين يطالبون بالسماح لهم بالخلوة الشرعية مع زوجاتهم.

الإعلامي المختص في الشأن الإسرائيلي فايز أبو رزق قال لنا إن عدة قيود مشددة تفرضها إدارة السجون الإسرائيلية على الأسرى الفلسطينيين، منها منع الأسرى من الاختلاء بزوجاتهم، مشيراً إلى أنَّ التشريعات والقوانين الإسرائيليّة سمحت للسجناء الإسرائيليين، الأمنيين والجنائيين، من الجنسين بذلك.

ويوضح أبو رزق، أنَّ نظام "الخلوة" تكفله القوانين والتشريعات الدولية، ومُجاز في غالبية الدول الأوروبية وبعض الدول العربية، وهو دليل إضافي على التمييز العنصري الذي تمارسه إسرائيل، حتى الأسير الفلسطيني الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية (سكان أراضي 1948 المحتلة) يُحرم من الحقوق التي يتمتع بها السجين اليهودي.

فشل السجان باكتشاف التهريب

إدارة السجون الإسرائيلية لم تتمكن من اكتشاف الطرق التي يتم من خلالها تهريب السائل المنوي إلى زوجات الأسرى الفلسطينيين، بل لم يكن لديهم أيّة معلومات حول العملية، لولا وسائل الإعلام التي تحدثت عن تفاصيل قضية التهريب، مما دفع الإدارة الإسرائيلية لتشديد الإجراءات والقيود على أبناء الأسرى الذين أُنجبوا بواسطة التهريب فمُنعوا من زيارة آبائهم، ولم يعترفوا بشهادات ميلادهم ولا بأرقام بطاقاتهم الشخصيّة، مفترضين أن ذلك قد يثني عزيمة الأسرى.

مقالات من فلسطين

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....

وليد دقة الذي عاش ومات حرّاً

2024-04-11

عاش وليد دقّة غصباً عن القيد، غصباً عن السجان، غصباً عن الزنزانة، غصباً عن دولة الاحتلال بأكملها، غصباً عن العالم المختلّ بأسره، غصباً عن المرض أيضاً، غصباً عن العمر المنهوب...

للكاتب نفسه