باسم خندقجي.. رواية فلسطين العابرة للسجون في خطر

قدمت دار الآداب للنشر هذا العمل للجائزة العالمية للرواية العربية المتعارف عليها اختصاراً باسم "بوكر". شقّت "قناع بلون السماء" طريقها بين 132 عمل روائي، وفي 14 كانون الأول/ ديسمبر أعلنت لجنة التحكيم تأهلها للقائمة الطويلة ضمن 16 رواية. بعد شهرين تماماً أعلنت اللجنة تأهلها للقائمة القصيرة مع خمس روايات أخرى إحداها للكاتب الفلسطيني أيضاً أسامة العيسة.
2024-03-15

لطف الصَّرَاري

قاص وصحافي من اليمن


شارك
غلاف رواية "قناع بلون السماء"، باسم خندقجي، دار الآداب، 2020.

إذا كان غسان كنفاني استحق وصف محمود درويش له بأنه "نقل الحبر إلى مرتبة الشرف"، فما الذي يستحقه باسم خندقجي وقد نقل أدب السجون من بين الجدران الباردة إلى آفاق عالمية؟ ما الذي يستحقه باسم خندقجي وقد نجح في إعادة صياغة تاريخ فلسطين الحقيقي أدبياً في زمن أوغل فيه المحتل في تزوير رواية فلسطين وطمس هويتها وإبادة سكانها؟ أقل ما يستحقه كاتب قضى نصف عمره في السجن وما زال، هو أن تُروى قصته بأكثر من صيغة وأن تُنشر في أكثر منصة، في سياق مواجهة حملة التحريض التي تشنها الابواق الصهيونية ضده.

القصة من آخرها

"قناع بلون السماء" هي الرواية الخامسة لباسم. أصدرتها دار الآداب أواخر سنة 2022، وتم الاحتفاء بها في إحدى فعاليات معرض القاهرة للكتاب كانون الثاني/ يناير 2023. لكن الأهم أن دار النشر قدمت هذا العمل للجائزة العالمية للرواية العربية المتعارف عليها اختصاراً باسم "بوكر". شقّت "قناع بلون السماء" طريقها بين 132 عمل روائي، وفي 14 كانون الأول/ ديسمبر أعلنت لجنة التحكيم تأهلها للقائمة الطويلة ضمن 16 رواية. بعد شهرين تماماً أعلنت اللجنة تأهلها للقائمة القصيرة مع خمس روايات أخرى إحداها للكاتب الفلسطيني أيضاً أسامة العيسة.

أصاب هذا الحدث سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالجنون، ولم تمر عشرة أيام على إعلان القائمة القصيرة للجائزة حتى بدأت وسائل إعلام إسرائيلية بالتحريض على باسم خندقجي. بحسب يوسف، شقيق باسم ووكيله الأدبي، تربط سلطات الاحتلال تحريضها على باسم بأسراها لدى المقاومة في غزة وبما تعيشه حكومة نتنياهو من أزمة سياسية، وهي تعكس ذلك على الأسرى الفلسطينيين بالدعوة إلى الانتقام منهم بأي شكل[1].

خطورة التحريض الإسرائيلي

أفزع التحريض الإسرائيلي عائلة باسم لأنه لا يزال في سجون الاحتلال، ومع ترويج هذا النوع من التحريض عبر وسائل الإعلام، يرتفع مستوى المخاطر على سلامته وحياته داخل السجن. فقد وصفته صحيفة هآرتس بالـ"إرهابي"، مستنكرة ترشيحه لجائزة أدبية أو فوزه بمبلغ 50 ألف دولار إذا فازت روايته بالجائزة الأولى. ولتوسيع دائرة التحريض، أشرك الإعلام الإسرائيلي المستوطنين المتطرفين، ناقلاً عن أحدهم قوله: "أسرانا بغزة لا نعرف أين هم، والإرهابي باسم خندقجي يكتب من داخل سجنه"، بينما تساءل آخر: "هل لديه قناة يوتيوب داخل سجنه؟ ماذا يحدث داخل السجن؟".

لم يصمت الإعلام الفلسطيني إزاء هذا التحريض، لكن القليل من وسائل الإعلام العربية تفاعلت مع خطورته على أسير اختار جانب النضال الأقل إثارة لاهتمام الإعلام لكنه من أكثر الجوانب تأثيراً في حفظ الرواية الفلسطينية عبر الأجيال، وعلى امتداد الأبعاد الثلاثة للزمن. تدرك سلطات الاحتلال حجم هذا التأثير وتخاف منه، ويدرك الوسط الثقافي والأدبي في فلسطين والبلدان العربية رهاب سلطات الاحتلال الإسرائيلي من صناعة المعرفة التي تعرّي جرائمها وتاريخها المزيف. لذلك جاء حدث فوز روايتين فلسطينيتين بالقائمة القصيرة لأبرز جائزة أدبية عربية، بمثابة صفعة لإسرائيل، وتلك هي سمة الفنون والآداب في محاربة السلطات الغاشمة.

شخصيات الرواية متخيلة، لكن تاريخ فلسطين حقيقي كنور الشمس. يقول شقيقه يوسف خندقجي: "باسم مُلهم بالتاريخ الفلسطيني القديم والمعاصر"، وقد اعتمد في كتابة هذه الرواية "على قراءاته للأبحاث والدراسات عن التاريخ الفلسطيني، واستند لشهادات بعض الأسرى داخل السجون ومن خارجها وبالأخص فلسطينيي الداخل المُحتل"

حمّلت عائلة باسم خندقجي سلطات الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن سلامته وحياته، وكذلك فعل نادي الأسير الفلسطيني، خاصة بعد فقدان الاتصال بالأسرى والمعتقلين وتعليق زيارات العائلة والمحامين لهم منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. في ذلك الوقت كان باسم في سجن "عوفر" غرب رام الله، وهو السجن الذي يسميه السجناء "غوانتانامو" أو "السجن الأحمر" بسبب سوء المعاملة وقسوتها فيه[2].

وفي مستجدات هذه الحملة الآخذة بالاتساع في الإعلام الإسرائيلي ومؤسساته، أفادت تقارير صحافية أن عائلة باسم أُبلغت لاحقاً من قبل محامي هيئة شؤون الأسرى والمحررين، أن إدارة سجن "عوفر" عزلته على إثر حملة التحريض المستمرة[3].

بناء تراكمي لأدب السجون

تُرجع الكاتبة والباحثة إيمان مصاورة بداية تشكيل أدب السجون الفلسطيني إلى أوائل القرن العشرين. باستثناء الرسائل، كان الشعر هو الجنس الأدبي الوحيد الذي يكتبه السجناء الفلسطينيون. فمن قصائد الشيخ سعيد الكرمي التي كتبها في سجون الإمبراطورية العثمانية أواخر عهدها، إلى قصيدة إبراهيم طوقان الشهيرة التي خلّد فيها ذكرى الشهداء عطا الزير، محمد جمجوم وفؤاد حجازي سنة 1930، وقصيدة الشاعر الشعبي عوض النابلسي "ظنّيت إلنا ملوك تمشي وراها رجال"، التي كتبها بنعاله على جدار السجن ليلة إعدامه سنة 1937، وصولاً إلى نهاية زمن الانتداب البريطاني (1920-1948) وإنشاء دولة إسرائيل على أرض فلسطينية[4].

وصفته صحيفة هآرتس بالـ"إرهابي"، مستنكرة ترشيحه لجائزة أدبية أو فوزه بمبلغ 50 ألف دولار إذا فازت روايته بالجائزة الأولى. ولتوسيع دائرة التحريض، أشرك الإعلام الإسرائيلي المستوطنين المتطرفين، ناقلاً عن أحدهم قوله: "أسرانا بغزة لا نعرف أين هم، والإرهابي باسم خندقجي يكتب من داخل سجنه"، بينما تساءل آخر: "هل لديه قناة يوتيوب داخل سجنه؟ ماذا يحدث داخل السجن؟".

حمّلت عائلة باسم خندقجي سلطات الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن سلامته وحياته، وكذلك فعل نادي الأسير الفلسطيني، خاصة بعد فقدان الاتصال بالأسرى والمعتقلين وتعليق زيارات العائلة والمحامين لهم منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. في ذلك الوقت كان باسم في سجن "عوفر" غرب رام الله، وهو السجن الذي يسميه السجناء "غوانتانامو" أو "السجن الأحمر" بسبب سوء المعاملة وقسوتها فيه

بعدها دخل أدب السجون الفلسطيني مرحلة جديدة في مواجهة مع احتلال لا ينوي المغادرة، وكان لأدباء فلسطين الأكثر شهرة نصيب من بشاعة سجون الاحتلال، كمحمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم... وغيرهم. سنة هزيمة 1967 كانت فاصلة بالنسبة للسجناء الفلسطينيين، إذ دفعهم الإحساس بالفراغ الفكري والثقافي إلى تنظيم احتجاجات للمطالبة بإدخال الكتب والأقلام والدفاتر والصحف، وصولاً إلى الإضراب الكبير سنة 1970. وقد تدخّل بعد ذلك الصليب الأحمر الدولي ورضخت سلطات الاحتلال لمطالب السجناء. ومع بداية عقد الثمانينيات الفائتة، شهد أدب السجون في فلسطين ولادة أولى الأعمال السردية، ومنها رواية "زنزانة رقم 7" لفاضل يونس (1983)، والمجموعة القصصية "الطريق إلى رأس النافورة" لحبيب هنا (1984). هكذا فرض آلاف الأسرى والمعتقلين حالة ثقافية في السجون الإسرائيلية، وأنتج المئات منهم أعمالاً أدبية وفكرية، بمن فيهم الأسيرات اللاتي كانت أبرزهن: ناهدة نزال، زكية شموط، ختام خطاب، سعاد غنيم، جميلة بدران، حليمة فريتخ، وعائشة عودة[5].

أدب عابر للسجون

استفاد باسم خندقي من تراكم نضالات أولئك السجناء والسجينات، بما في ذلك إضراب سنة 1992 الشهير، الذي انتزع حق السجناء في التعليم المدرسي والجامعي. في تلك السنة كان باسم في سنّ الحادية عشرة يواصل تعليمه الأساسي في مدرسة المعرّي بمدينة نابلس. كان وعيه الثقافي ووجدانه الوطني يتشكلان على إثر الانتفاضة الأولى، دون أن يعلم أنه بعد عشر سنوات فقط، سينضم إلى قائمة سجناء الاحتلال من ذوي الأحكام العالية. في سنّ الخامسة عشرة، التحق بحزب الشعب الفلسطيني الذي كان عمه عضواً فيه، وأمل في نابلس الثانوية العامة، لكن علاماته لم تؤهله للالتحاق بالجامعة. مع ذلك، وأمام إصراره على إكمال الدراسة الجامعية، باعت أمه ذهبها ليلتحق بجامعة النجاح على النفقة الخاصة.

مقالات ذات صلة

في الجامعة شكّل باسم حالة ثقافية شديدة الارتباط بالقضية الفلسطينية ومقاومة المحتل. كان في السنة الأخيرة بتخصص صحافة وإعلام عندما اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، معتبرة إياه العقل المدبّر لعملية سوق الكرمل التي نفذها فدائي شاب في اليوم السابق. خضع باسم لتحقيقات ومحاكمات طويلة قبل أن يصدر بحقه حكماً بالسجن المؤبد 3 مرات وغرامة بمبلغ 42 مليون شيكل. وبسبب نشاطه الثقافي والتعليمي والأدبي في السجن، عمدت إدارة السجون الإسرائيلية إلى نقله من سجن إلى آخر: "جلبوع"، "نفحة"، "ريمون"، "هداريم"، "عوفر"... ولا يخلو وجوده في كل سجن من بصمة معرفية وثقافية. أكمل تعليمه الجامعي، بكالوريوس وماجستير، وانخرط في التدريس وحلقات النقاش، سيما في سجن "هداريم" الذي يقضي فيه الدكتور مروان البرغوثي محكوميته بخمسة مؤبدات.

في السنوات الأولى من السجن، كتب باسم خندقجي المقال والشعر، وكان مهتماً بأن تنشر كتاباته في كتب أكثر من مجرد مقالات وقصائد متفرقة. إصداره الأول كان عشرة مقالات في كتاب عنونه بـ"مسودات عاشق وطن"، و"هكذا تحتضر الإنسانية"، ثم كتاب "أنا الإنسان.. نداء من الغربة الحديدية"، ثم أصدر أربع مجموعات شعرية: "طرق على جدران المكان"، "شبق إكليل الورد"، "طقوس المرّة الأولى"، و"أنفاس قصيدة ليلية". بعدها توجه نحو الرواية.

سنة هزيمة 1967 كانت فاصلة بالنسبة للسجناء الفلسطينيين، إذ دفعهم الإحساس بالفراغ الفكري والثقافي إلى تنظيم احتجاجات للمطالبة بإدخال الكتب والأقلام والدفاتر والصحف، وصولاً إلى الإضراب الكبير سنة 1970. وقد تدخّل بعد ذلك الصليب الأحمر الدولي ورضخت سلطات الاحتلال لمطالب السجناء

اقتحم باسم عالم فن الرواية بإصدار رواية "مسك الكفاية: سيرة سيدة الظلال الحرة" سنة 2014، ثم أتبعها بأربع روايات أخرى خلال السنوات العشر التالية: "خسوف بدر الدين"، "نرجس العزلة"، "أنفاس امرأة مخذولة"، وأخيراً وليس آخراً، "قناع بلون السماء".

من خصائص أدب السجون تناول السجن كموضوع في العمل الأدبي، لكن باسم خندقجي خالف القاعدة، وكتب من داخل السجن عن خارجه. هو ليس الوحيد من أبناء جيله من يكتب الرواية داخل السجن، لكن اللافت في تجربته أنه ابتعد عن الطابع السياسي والتنظيمي المباشر في الكتابة، كما أن استخدامه للرمز في رواياته لفت انتباه النقاد إلى وعيه العالي بتقنيات فنّ الرواية. لوهلة، يبدو أنه أفرغ حالة السجن وتجربته الشخصية فيه، في نتاجه الأدبي من الشعر والمقالة، وأنه نحّى كل ذلك جانباً عندما أقدم على كتابة الرواية. فقط كان يطلب المزيد من كتب التاريخ في كل زيارة يحظى بها من عائلته أو محاميه. يقول الناقد خالد جمعة "من الواضح أن اتساع مدارك خندقجي نتيجة ثقافته العميقة التي حصل عليها بعد الحكم عليه بثلاثة مؤبدات، قد عكست نفسها على عالمه الروائي"[6].

بخلاف الأسرى والسجناء الفلسطينيين الذي كتبوا الرواية، لم يكتب باسم سيرته الذاتية. اقتحم عالم الرواية التاريخية الذي لا يقتحمه سوى الكتّاب النوابغ ذوي النفس الطويل في البحث والتنقيب، ذلك النوع من الكتّاب الذين يتمتعون بصبر صاغة المنمنمات. فمن "مسك الكفاية" التي تدور في مدينة "شبوة" عاصمة مملكة حضرموت في اليمن، وفي زمن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الذي وجّه جيشاً لإخضاع المدينة فعاد إليه بفتاة أسيرة، إلى رواية "خسوف بدر الدين" وبطلها الصوفي بدر الدين، أحد أقطاب الصوفية في عصره، ورحلة تمرّده على السلطة وتحديه للفاسدين ووعّاظ السلاطين، وكيف طاوعه "النور" ليصبح قادراً على رؤية المستقبل. ثم تأتي روايته الأخيرة، "قناع بلون السماء"، التي أثار نجاحها جنون الصهاينة.

لون السماء وهوية الأرض

ليس القناع في هذه الرواية سوى بطاقة الهوية التي عثر عليها شاب فلسطيني مهتم بالتاريخ والآثار في جيب معطف اشتراه من سوق المستعمل في يافا. هوية زرقاء تحمل اسم شاب إسرائيلي من يهود الإشكناز اسمه "أور شابيرا". وهنا يشتغل خندقجي على ثيمة "النور" مجدداً. يعني الاسم "أور" "نور" بالعربية، وهو اسم الشاب الفلسطيني (نور الشهدي)، فيستغل تلك البطاقة، إضافة إلى ملامحه القريبة من يهود الإشكناز، في التسجيل بمعهد أولبرايت الإسرائيلي للعلوم الأثرية بهدف التنقيب عن التاريخ الفلسطيني الحقيقي. شخصيات الرواية متخيلة، لكن تاريخ فلسطين حقيقي كنور الشمس. يقول يوسف خندقجي: "باسم مُلهم بالتاريخ الفلسطيني القديم والمعاصر"، وقد اعتمد في كتابة هذه الرواية "على قراءاته للأبحاث والدراسات عن التاريخ الفلسطيني واستند لشهادات بعض الأسرى داخل السجون ومن خارجها وبالأخص فلسطينيي الداخل المُحتل، وهنا أذكر المؤرخ الفلسطيني الدكتور جوني منصور الذي مدَّ باسم بالمعلومات عن قرية اللجون وكيبوتس مشعار هعيمق والفيلق الروماني السادس"[7].

فرض آلاف الأسرى والمعتقلين حالة ثقافية في السجون الإسرائيلية، وأنتج المئات منهم أعمالاً أدبية وفكرية، بمن فيهم الأسيرات اللاتي كانت أبرزهن: ناهدة نزال، زكية شموط، ختام خطاب، سعاد غنيم، جميلة بدران، حليمة فريتخ، وعائشة عودة

في الرواية يشترك بطلها "نور" في العمل مع مؤسسة أمريكية ستنقب عن الآثار في كيبوتس "مشمار هقميق" المقام على أراضي قرية أبو شوشة المهجّرة، إحدى الأماكن التي دارت فيها أشرس المعارك أثناء نكبة 1948. يقنع "نور" نفسه بأن اشتراكه في هذا التنقيب يهدف للبحث عن صندوق مريم المجدلية لكي يُثبت بعض الوقائع التاريخية، لكن صديقه "مراد" الذي يتراسل معه يسأله إذا ما كان الأجدر به أن يوجه بحثه كخبير آثار للتأكيد على ملكية أراضي الشيخ جراح بدلاً من البحث في تاريخ مريم المجدلية! ويلتقي نور بباحثة فلسطينية اسمها "سماء" تعمل ضمن الفريق وتجاهر بتأففها من الهوية الإسرائيلية المفروضة عليها، رغم أنها تبدي تعاطفها "مع ضحايا النازية، ولكن ليس مع الصهيونية التي استغلت الضحايا لتصنع ضحايا آخرين من الشعب الفلسطيني".

في إحدى محطات قصة الرواية، يعترف "نور" لـ"سماء" "بأنه فلسطيني لاجئ يسكن مخيماً في رام الله، ويسرد لها قصة الهوية، فترد عليه بأسف: أنتظرُ عمراً كاملاً للخلاص من هذه الهوية، وأنت خسرت عمرك كله لترتدي هذا القناع"؟

مشروع الروائي "الأسير"

عندما تأهلت رواية "قناع بلون السماء" للقائمة الطويلة بجائزة الرواية العربية "بوكر"، أوردت بعض وسائل الإعلام العربية اسم باسم خندقجي مسبوقاً بلقب "الأسير"! نعم "أسير"، لكن لديه مشروع روائي أفضل من الطلقاء. وعلى الرغم من ظروف السجن القاسية ونقله من سجن لآخر، احتفظ باسم بمشروعه وأفكاره في رأسه أكثر من تعويله على الأوراق التي كان السجانون يمعنون في إتلافها ومصادرتها.

يذكر الصحافي عاطف دغلس في أحد تقاريره أن "قناع بلون السماء" هو الكتاب الأول ضمن ثلاثية يعمل عليها باسم تحت عنوان "ثلاثية المرايا". يقول أيضاً إنه أنهى الرواية الثانية في الثلاثية بعنوان "سادن المحرقة"، وأنه "يعكف على إعداد الجزء الثالث والأخير بعنوان "شياطين مريم الجليلية"[8]. هكذا يتشابك الديني والتاريخي مع جغرافيا الوطن في مشروع باسم خندقجي، وبينما يقول على لسان صديق البطل "نور" أن عليه التأكيد على ملكية أراضي الشيخ جرّاح، يقول في موضع آخر: "لماذا ينتزع كاتبٌ أجنبيٌّ المجدليَّة من سياقها التاريخيّ الجغرافيّ الفلسطينيّ ليُلقي بها في مهاوي الغرب؟ لماذا؟".

كان في السنة الأخيرة بتخصص صحافة وإعلام عندما اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، معتبرة إياه العقل المدبّر لعملية سوق الكرمل التي نفذها فدائي شاب في اليوم السابق.

كيف يمكن لأسير ينقله سجانه من سجن إلى آخر وينكّل به ويتلف أوراقه وكتبه، أن يكتب روايات طويلة وينجح، ليس فقط في تهريبها إلى خارج السجن، بل في منافسة الكتّاب الطلقاء؟ يقول يوسف إن باسم كتب رواية "قناع بلون السماء" خلال ستة أشهر فقط، لكن بحثه الروائي لها استغرق عدة سنوات في ظروف معقدة وشديدة الصعوبة كان يفقد خلالها الكثير من مادة البحث والمسودات الأولى للرواية. مع ذلك، كان ينجح في إعادة الكتابة وإيصالها إلى يد شقيقه عبر سجناء محررَّين، وفي بعض المرات عبر البريد الإسرائيلي نفسه، ويا لها من إرادة! كل هذا الإنتاج الغزير يكتبه خلال ساعتين في اليوم، "من الخامسة إلى السابعة صباحاً... قبل أن يتم عدّ الأسرى من قِبل مصلحة السجن وقبل صعود ضوضاء السجّان". هذا ما قاله باسم لشقيقه يوسف في إحدى الزيارات التي لا تتجاوز 45 دقيقة في سجن "عوفر".

أما رفيقه في القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية، أسامة العيسة، فيصفه بأنه "واحد من الذي حفروا في الصخر، فكتب في عتمة الزنزانة دون يأس، وعمل بدأب على تطوير أداته الفنية والمعرفية وناضل على الجبهة الثقافية"، وهذا "ما لا تستطيع عقلية الاحتلال استيعابه".

لا تنتهي قصة باسم خندقجي عند هذا الحد، فهناك الكثير ليقال ويكتب عنها، وهناك تحريض إسرائيلي مستمر ضده، بينما ينتظر الوسط الثقافي الفلسطيني والعربي إعلان الفائز بالجائزة الأولى في نيسان/ أبريل القادم. هناك أيضاً مستجدات عزله ضمن حملة التحريض التي طالته في سجنه، وهي تتصاعد في الإعلام الإسرائيلي كل يوم.

______________________

  1. تصريحات يوسف خندقجي للجزيرة نت 1/3/2024 "إسرائيل تحرض على الأسير باسم خندقجي"
  2. "الاحتلال يحاول كسر قلم "باسم" وحالة الاشتباك الثقافي"، وكالة وطن للأنباء 29/2/2024 https://www.wattan.net/ar/radio/428965.html
  3. "صحيفة الأيام 03/ 03/ 2024 https://shorturl.at/pGKO9
  4. إيمان مصاورة "أدب السجون في فلسطين، دراسة توثيقية"، الإصدار الإلكتروني رقم 136، 2020، شبكة محررون.
  5. المرجع السابق.
  6. وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) "قراءة في رواية الأسير خندقجي" 1/3/2024.
  7. حوار مع باسم خندقجي الذي أجاب على أسئلته شقيقه يوسف ونُشر على الموقع الرسمي للجائزة العالمية للرواية العربية:
    https://www.arabicfiction.org/ar/node/2344
  8. "إسرائيل تحرّض على الأسير باسم خندقجي"، الجزيرة نت 1/3/2024.

مقالات من فلسطين

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....

للكاتب نفسه

حلم أمريكا المتجدد: إضافة سقطرى إلى سلسلتها النارية العابرة للمحيطات

تمضي المواجهة العسكرية في المياه البحرية لليمن بوتيرة بطيئة نوعاً ما، لكن إيقاعها غير المتسارع، ينذر بتحوّلات جذرية لصراع القوى الإقليمية والدولية المتنافسة على النفوذ في مضيق باب المندب، الذي...

هل تكون اللغة المهرية مفتاح لغة اليمن المندثرة؟

تُصنّف اللغة المهرية ضمن اللغات السامية التي نشأت جنوب الجزيرة العربية، وأبرزها اللغة اليمنية القديمة المعروفة بلغة "المُسند" أو كما يسميها المستشرقون "العربية الجنوبية القديمة". وإلى جانب المهرية توجد خمس...