ما هي التغييرات الحاصلة في الرأسمالية المهيمنة؟

يقع أصل التحولات الهيكلية الحالية للرأسمالية، في الفصل بين الإنتاج المادي البضاعي وبين الاقتصاد المالي. وقد ترافق هذا الفصل مع التفكيك المتدرج للتدابير التنظيمية المؤطِّرة للأسواق المالية وللبورصة في الولايات المتحدة وأوروبا.
2024-03-07

عمر بن درة

خبير اقتصادي من الجزائر


شارك
| fr en
وول ستريت، نيويورك

الوضع الحالي للاقتصاد الغربي هو إلى حد كبير ثمرة مسار من القطيعة التدريجية بين الدوائر المالية ودوائر الاقتصاد الحقيقي القائم على إنتاج السلع والخدمات. وهو تطور كبير انطلق في بداية عقد السبعينيات، عندما ألغى الرئيس نيكسون قابلية تحويل العملة الأمريكية، الدولار، إلى ذهب، وفَك الارتباط بينهما. منذ ذلك الحين، صار بإمكان السلطات الأمريكية المتحررة من هذا العائق الجوهري طباعة دولارات من دون أي قيود.

المرحلة التي استهلت فك الارتباط بين الاقتصاد الإنتاجي والاقتصاد المالي هي في أصل التحولات البنيوية الحالية للرأسمالية، عبر التفكيك المتدرج للضوابط التنظيمية المؤطِّرة للأسواق المالية في الولايات المتحدة وأوروبا. طُبِّق ذلك الفصل منذ بداية ثمانينيات القرن الفائت، بحجة تحفيز النمو والخروج من حال الركود. وهو ينبع مباشرة من الفكر الاقتصادي الليبرالي المتطرف، القائم تحديداً على التقليص الحاد للميزانيات ذات الطابع الاجتماعي والإنفاق العمومي[1] بالإضافة إلى فتح الأسواق أكثر ما يمكن، وتوسيع نطاق الامتيازات الضريبية للفئات الاجتماعية الأكثر ثراء.

شكّل هذا المذهب، الذي يُعد فريدريش هايك ولودفيج فون ميزس[2] من أشهر منظِّريه، ألف ياء "الريغانوميكس" - نسبة إلى الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان[3] - وسياساته الاقتصادية. ومَثَّلت مارغريت ثاتشر الوكيل الأوروبي الأشهر إعلامياً له. سياسة القطع مع الكينزية (التي هيمنت خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية)، حررت الأسواق من عدد كبير من القيود. وكانت أهدافها المعلنة هي تحفيز النشاط الاقتصادي، ومضاعفة الأنشطة المولِّدة للقيمة، والحد من البطالة، وفي نهاية المطاف تحسين الأداء العام للاقتصاد. وشكّلت دولة الشيلي في ظل الديكتاتورية العسكريةالتي استولت على الحكم إثر انقلاب 1973، مختبر هذا التوجه الليبرالي المتطرف الذي روج له وطبّقه اقتصاديو "مدرسة شيكاغو" تحت رعاية ميلتون فريدمان.

"الأمولة" ونقل الأنشطة إلى الخارج

تزامن التحول الليبرالي المتطرف للرأسمالية الغربية الذي سنسميه "الأمولة"[4]، مع عودة العلاقات الدبلوماسية بين بكين وواشنطن في 1978 خلال فترة رئاسة جيمي كارتر، والإصلاحات الاقتصادية التي أطلقها في السنة نفسها الحزب الشيوعي الصيني تحت قيادة دينغ شياوبينغ. اندفع المستثمرون الغربيون إلى هذا الانفتاح الصيني، لينقلوا إليه بشكل واسع القطاعات الصناعية ذات الحاجة المكثفة للأيادي العاملة، ويستفيدوا من الأجور المتدنية جداً للعمال الصينيين، الوفيرين في أعدادهم وذوي التكوين الجيد والأداء العالي. كما أن هناك ميزة أخرى لا تقل أهمية، تتمثّل في استقرار البلاد الذي شكل عاملاً محفِّزاً لعمليات نقل الأنشطة إلى الصين، حيث "النظام" يسود ولا وجود للإضرابات. وما بين 1978 و2014، وتحت تأثير هذه الإصلاحات، كان معدل النمو السنوي في البلاد - وهذا أداء غير مسبوق - في حدود 9.5 في المئة. وفي غضون سنوات قليلة، انتقلت الصين من كونها "مصنع العالم" إلى مرتبة القوة الاقتصادية الأولى عالمياً وفي طليعة الدول علمياً وتكنولوجياً.

أدّى أفول الشيوعية البيروقراطية مع انهيار الاتحاد السوفياتي في 1990 إلى تقلص تدريجي ومتواصِل للاقتصاديات الدولتية. تخلصت الأوليغارشيات الغربية من خطر الاعتراض على سيطرتها على الدول، فأُطلقت يدها لتفرض إصلاحات قاسية، هدفها تخليص السوق من القواعد التي تؤطر المعاملات، وتخفيف العبء الضريبي على مداخيلها، وتقليص الإنفاق العمومي بأكثر ما يمكن. وهكذا صار السوق الحر العقيدة الحصرية في البلدان المتقدمة اقتصادياً، الأمر الذي أعلنته مارغريت ثاتشر في عبارة وجيزة: " ليس هناك خيار بديل" (There Is No Alternative) . هذه الصيغة التي اختُصرت إلى الأحرف الأولى من كلماتها (TINA) عرفت ازدهاراً كبيراً منذ ذلك الحين.

ومع تبنيها من قبل صندوق النقد والبنك الدوليّين وترويجهما لها، وحّدَت العقيدة الليبرالية الاقتصاد العالمي بشكل فظ وظالم. وصار "إجماع واشنطن"[5] الذي ظهر في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، هو دليل السلوك "المسؤول" لكل سياسة اقتصادية. وسرعان ما تكشفت آثاره الاجتماعية الكارثية تماماً، من بؤس ومجاعات وانتشار الأمراض والأمية، بفعل التطبيق المُوحَد لهذه المبادئ في عدة دول مفلسة، أُجبرت على التقيد "بالاشتراطات " الليبرالية للغاية لصندوق النقد الدولي.

في مفترق الألفيتين الثانية والثالثة، جرى نقل الأنشطة الإنتاجية من دول الشمال المتقدمة إلى الاقتصاديات الصاعدة ـ الآسيوية بالأساس - في سياق من "الأمولة" المتصاعدة للاقتصادات الغربية. وصارت الأسواق المالية في حي الأعمال اللندني City وشارع "وول ستريت" النيويوركي، هي المراكز العصبية لاقتصاديات تتخلى عن النشاط الصناعي، لفائدة قطاع الخدمات والوساطات المالية والمضاربات من كل صنف. وخلال تسعينيات القرن الفائت، تكاثرت صناديق التحوط[6]، وهي صناديق للاستثمار في المضاربة، تعمل بشكل يشبه البنوك، ويتركز أكثرها شهرة في الجنات الضريبية، وتلعب دوراً بارزاً في سوق المشتقات المالية عبر تجميع رؤوس الأموال المتأتية من مصادر مختلفة، وإعادة تدويرها في الاقتصاد الجديد المتفلت من الضوابط.

يرى الخبراء الاستراتيجيون الغربيون أن الإبقاء على قاعدة إنتاجية عالية الرسملة، وفي طليعة الابتكار التكنولوجي، كافٍ للحفاظ على تفوقهم الصناعي. وتمثِّل شركات التكنولوجيا في "وادي السيليكون" Silicon Valley في كاليفورنيا المرجع المثالي، لنموذج مبني بشكل كبير على قطاعات التسليح والأمن. ويقوم التقسيم الجديد للعمل في العالم، على الإبقاء على الصناعات "الحساسة" في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ضمن هذا الترتيب الجديد، نُصِّبَتْ إسرائيل كمركزٍ عالمي رئيسي لتطوير أنظمة الأسلحة الحديثة والتجسس.

تقهقر الديمقراطية في الغرب

حققت الطبقة الغربية الحاكمة مكسباً مهماً من النقل المكثف للأنشطة إلى خارج الولايات المتحدة وأوروبا وإعادة توجيه الاقتصاد نحو "الأمولة". ويتمثل هذا المكسب في تآكل قدرات التفاوض لدى فئات اجتماعية كانت في السابق مندمجة في مسار الإنتاج الرأسمالي الكلاسيكي وخالقة للثروات. في الواقع، تعتبر الطبقة العاملة "البيضاء" الضحية الأولى للتوجه الاستراتيجي الجديد، فلقد شهدت الأحزاب المناهضة للاستغلال والنقابات تقلصاً كبيراً في ثقلها الانتخابي وقدرتها على التعبئة والتحريك.

بإضعافها لهذه الأجسام الوسيطة وخنقها للاحتجاجات، تعيد الأوليغارشيات تعريف الحقل السياسي وتحديده، عبر تنصيب رجال تابعين لها في قيادة الدول، وهم مجرد وكلاء، أولويتهم الأساسية تفكيك بُنى الحماية الاجتماعية التي تعطِّل ـ حسب العقيدة النيوليبرالية - السير الحر للسوق. رئيس الوزراء ريتشي سوناك في المملكة المتحدة، والرئيس ماكرون في فرنسا، يجسدان هذا التحول بامتياز.

في مفترق الألفيتين الثانية والثالثة، جرى نقل الأنشطة الإنتاجية من دول الشمال المتقدمة إلى الاقتصاديات الصاعدة ـ الآسيوية بالأساس - في سياق الاقتصاد المالي المتصاعد في الدول الغربية. أصبحت الأسواق المالية في حي الأعمال اللندني City وشارع "وول ستريت" النيويوركي هي المراكز العصبية، لاقتصاديات تتخلى عن النشاط الصناعي لفائدة قطاع الخدمات والوساطات المالية والمضاربات من كل صنف.

يقوم التقسيم الجديد للعمل في العالم على الإبقاء على الصناعات "الحساسة" في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وقد نُصِّبت إسرائيل في هذا الترتيب الجديد كمركز عالمي رئيسي لتطوير أنظمة الأسلحة الحديثة والتجسس.

يحجب صعود التيارات الشعبوية الهوياتية والمعادية للأجانب على امتداد القوس الغربي، تركّز الثروة وتنامي التفاوتات والتصدعات الاجتماعية الناجمة عن الحوكمة النيوليبرالية. ووسط مزايدة ديماغوجية متواصلة، تحدِّد هذه التيارات - المسنودة علناً من قبل أوليغارشيات محلية[7] - للفئات المفْقرة عدوها: الأجانب والمهاجرون والمسلمون. أعداء يمكن تمييزهم بسهولة، بدلاً من المسؤولين الحقيقيين عن صعوبات العيش المتنامية في المناطق التي كان الرخاء فيها، حتى وقت قريب، مستقبلاً محتملاً للأغلبية.

تَعمَّق التوجه المالي للاقتصاد الذي روجت له السلطات السياسية الغربية، ونفذته الشركات متعددة الجنسيات، وبالأخص البنوك والهيئات المالية الأخرى، من دون أن يلقى معارضة حقيقية، كما أنه تنوَّع على إيقاع تطور المبادلات وتَرابط أسواق جديدة. وقد شهد التوجه المضارباتي للرأسمالية الغربية قفزة مذهلة مع تعميم الإنترنت خلال العقد الأخير من القرن العشرين.

الإنترنت كناقل للعولمة المالية

عرفت أنشطة السوق قفزة عملاقة إلى الأمام، بفضل تكنولوجيا المعلوماتية التي أتاحت، بالإضافة إلى فورية المعاملات المالية وتجاوز عقبات بُعد المسافات، إمكانية القيام بهندسات مالية غير مسبوقة، تدر أرباحاً وفيرة لكنها عالية المخاطر، والانفتاح على ما لا يُعد ولا يُحصى من المتعهدين المتحررين من أي رقابة مؤسساتية. هذه العمليات المالية، التي كانت فيما مضى حكراً على قلة من المهنيين من ذوي الاختصاص في بنوك الأعمال، ستشهد "دمقرطة" شملت فاعلين من كل حدب وصوب.

تدر هذه المعاملات هوامش ربح كبيرة جداً بشكل سريع، لصالح مساهِمين ومستثمِرين يضغطون باستمرار لضمان أعلى عائد على الاستثمار في أقصر الآجال، وكل هذا في سياق شديد التنافسية، مما يغذي دوامة مضاربات لا يمكن التحكم في تزايد سرعتها.

بَلغ فك الارتباط بين الاقتصاد الإنتاجي للبضائع والخدمات وبين الاقتصاد المالي مستويات هائلة، وتنامى بشكل سريع ما بين سنتي 2000 و2007. وحتى انهيار البورصات الذي تسببت فيه فقاعة الإنترنت في 2001، كان أثره طفيفاً على التوسع الحثيث للاقتصاد المالي. وهكذا (وفق الاقتصادي المختص في المجال، "فرانسوا موران")، فإن "المعاملات التي تدخل في نطاق ما يسمى بالاقتصاد الحقيقي، والمقدّرة حسب الناتج المحلي الإجمالي العالمي، شكلت في سنة 2007، 1.6 في المئة فقط من مجمل المعاملات (المالية والحقيقية)، أي 64 مرة أقل من المعاملات المالية"[8]

حققت الطبقة الحاكمة في الغرب مكسباً مهماً جراء إعادة توجيه الاقتصاد نحو "الأمولة"، يتمثل في تآكل قدرة التفاوض لدى فئات اجتماعية كانت في السابق مندمجة في مسار الإنتاج الرأسمالي الكلاسيكي وخالقة للثروات. الطبقة العاملة هي فعلياً الضحية الأولى للتوجه الاستراتيجي الجديد.

شهد التوجه المضارباتي للرأسمالية الغربية انفجاراً مذهلاً مع تعميم الإنترنت خلال العقد الأخير من القرن العشرين. فقد عرفت أنشطة السوق قفزة عملاقة إلى الأمام بفضل تكنولوجيا المعلوماتية التي أتاحت فورية المعاملات المالية وتجاوز عقبات بُعد المسافات، وإمكانية القيام بهندسات مالية تدر أرباحاً وفيرة لكنها عالية المخاطر، والتخلص من الرقابة المؤسساتية.

كشفت الأزمة المالية في 2008، عن طبيعة وحجم المخاطر المتولدة من انزلاق الاقتصاد العالمي إلى المضاربة المنفلتة. الكارثة التي كانت تهدد النظام المالي إثر إعلان إفلاس بنك "ليمان براذرز" النيووركي، تمّ احتواؤها بصعوبة، عبر التدخل المكثف والمنسَّق للبنوك المركزية التي ضخت عشرات (وربما مئات) مليارات الدولارات في القطاع البنكي. حُددت بشكل سريع الاحتمالات المقلقة والحقيقية أيضاً لسلسلة من الإفلاسات، ومكّنت الاستجابة الحثيثة للسلطات النقدية من تجنب انهيار تام للثقة وتجفيف كارثي لسوق الإقراض بين البنوك.

سمحت وسائل امتصاص أزمة 2008 بالخروج منها من دون أضرار كبيرة، لكن لم تتم معالجة أصل الداء. ظلّ حجم المعاملات المنفصلة تماماً عن أنشطة الإنتاج والتبادل غير متناسب، إذ يبلغ آلاف أضعاف المعاملات المتولدة من اقتصاد إنتاج السلع والخدمات. ومن الأمور ذات الدلالة أن المراقبة الصارمة للسوق المالية، مَكّنت الصين من تفادي الأزمة كلياً وعدم "استيراد" انعكاساتها.

الوجه الخفي لـ"الأمولة": تبييض وإعادة تدوير

سرعان ما نسّقت فيما بينها السلطات النقدية الغربية، التي كانت قد أدركت بالفعل ضرورة مراقبة التدفقات البنكية في مواجهة "الإرهاب الدولي"، ووضعت جملة من الإمكانيات العملياتية لمراقبة وتأطير الأنشطة البنكية بهدف الوقاية قدر الإمكان من تكرار كوارث مماثلة. لكن من الواضح أن هذا العزم على مراقبة الشرعية التقنية والقانونية للنشاط البنكي، وضمان استمرارية وفائه بالتزاماته عبر سلسلة من الإجراءات التصريحية، مقيدٌ بحقيقة أن المعاملات المالية الدولية ليست حكراً على البنوك وحدها. شركات التمويل أو الوساطة والمقاصات وإدارة الأصول، وحتى الشركات التجارية، تقوم هي الأخرى بعمليات عابرة للحدود، لا يرتبط الغموض فيها بسرية الصفقات فقط...

يمنح التدفق الهائل للمعاملات غير المرتبطة بتبادلات أو استثمارات، ستاراً فعالاً لحركات رؤوس الأموال غير الشرعية، التي تحتاج إلى غسيل قبل ضخها في المسالك الرسمية. لذلك فإن الهندسات المالية المفصّلة خصيصاً "على المقاس"، والجنات الضريبية المرفوضة على المستوى الرسمي، هي في الواقع ضرورية لسير الاقتصاد الليبرالي المعولَم. تُدرك السلطات والهيئات التنظيمية هذا الأمر، لذا تعتمد مقاربة انتقائية للحفاظ على سيولة المعاملات. وبلا شك، تشجع "أمولة" الاقتصاد الأنشطة المافيوية وعمليات إعادة التدوير غير القانونية.

"المعاملات التي تدخل في نطاق ما يسمى بالاقتصاد الحقيقي، المقدَّرة حسب الناتج المحلي الإجمالي العالمي، شكلت في سنة 2007، 1.6 في المئة فقط من مجمل المعاملات، أي 64 مرة أقل من المعاملات المالية".

مع تبنيها من قبل صندوق النقد والبنك الدوليين وترويجهما لها، وحّدت العقيدة الليبرالية الاقتصاد العالمي بشكل فظ وظالم. وصار " إجماع واشنطن" الذي ظهر في أواخر ثمانينيات القرن العشرين هو دليل السلوك "المسؤول" لكل سياسة اقتصادية. فكانت الآثار الاجتماعية في الدول المفلسة كارثية تماماً.

في الواقع، تصطدم الرغبة المعلنة في تنسيق المراقبة على التدفقات المالية الدولية، التي تمَ التعبير عنها من خلال إنشاء "مجموعة العمل المالي" في[9] 1989 من قبل "مجموعة السبع"، بنقاط تماس سياسية لا تهتم بمسألة الشفافية. هناك تسامح مع الجنات الضريبية ومراكز تبييض رؤوس الأموال المتأتية من التهرب الضريبي والفساد والأنشطة الإجرامية الأخرى، بل هي تحظى أحياناً بحماية خفية. وإذا ما احتلتْ بعض الجنات الضريبية البعيدة، مثل باناما أو جزر البحر الكاريبي، الصفحات الأولى للجرائد، فإن هذا الأمر لا ينطبق فعلاً على كل الجنات. بكل تأكيد تخضع مناطق أوروبية، مثل ليختنشتاين ولوكسمبورغ وموناكو وجزر القنال الإنجليزي، للمراقبة، لكنها على ذلك تواصل إيواء أصول مالية مشبوهة، ورؤوس أموال متأتية من أنشطة غير قانونية، ومعها بالطبع العمولات والعمولات المْرتَجعة المحصّلة عند توقيع عقود دولية. والجدير بالملاحظة أن هذه المناطق لا ترد في قائمة البلدان[10] الخاضعة لرقابة مجموعة العمل المالي.

ونظراً لصعود أقطاب نفوذ جدد، ولتضاعف الحاجة إلى الخدمات المالية، ظهرت مراكز وساطة جديدة، واستطاعت في غضون بضع سنوات اكتساب مكانة وسمعة مرموقتين، على غرار دبي.

على الرغم من تواتر المقالات الصحافية حول دورها كمغسلة خارج الحدود لرؤوس أموال خفية المصدر، يبدو أن الإمارات في مأمن من عواقب حقيقية، على الرغم من أنها تظهر منذ سنة 2022 على القائمة "الرمادية" للبلدان الخاضعة لمراقبة مجموعة العمل المالي.

يصعب فهم الدور السياسي للإمارات العربية المتحدة، وتحالفاتها، من دون الأخذ بعين الاعتبار هذا البعد المهم لمكانتها كمركز عالمي لإعادة تدوير الأموال[11] وتمويل أنشطة مشبوهة، باعتبارها تحظى بموقع مميز على مقربة من أوروبا وآسيا وأفريقيا. في الواقع، فإن الثقل السياسي لهذا البلد الذي يتجاوز حتى ثقل منطقة الخليج، غير متناسب موضوعياً مع حجمه الديموغرافي وأبعاده الاجتماعية - الاقتصادية. كثافة عمليات زعزعة الاستقرار في شمال أفريقيا وغربها، وكذلك منطقة "الساحل" Sahel [12] ، التي تقوم بها هذه الدولة ضئيلة الحجم والمدججة بالسلاح، إضافة إلى اصطفافها وراء إسرائيل ودعمها لمواقف حلف شمال الأطلسي تشكل جزء من المقابل السياسي للتساهل الغربي فيما يتعلق بمراقبة الأنشطة المالية. ومن المرجح رفع الإمارات من هذه القائمة الرمادية الشهيرة، بضغط من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين[13]. ويكتسي دور المعبر المالي ما بين الأنشطة الشرعية والعمليات ذات المصادر الأقل شفافية الذي تلعبه الإمارات، طابعاً استراتيجياً.

تحولات

شهدت الرأسمالية الغربية تحولاً. ومع تغييرها لطريقة عملها، غيّرت أيضاً طريقة إدارتها. تمت الاستعاضة عن كبار الصناعيين والتجار عابري القارات، ليحل مكانهم مسيّرو البنوك متعددة الجنسيات وكبار المضاربين الماليين. تتحكم أقوى الشركات المالية القابضة - مثل "فانغارد" و"بلاك روك" و"ستيت ستريت"، دون الحديث عن بقية الفاعلين البنكيين - بشكل مباشر أو غير مباشر، في قسم مهم من كبرى الشركات المُدْرجة في البورصات العالمية الرئيسية، مما يمنح مديريها والمساهمين فيها ـ وهم في أغلب الأحيان غير معروفين للجمهور - قدرة استثنائية على التأثير في التحولات السياسية التي يعيشها الغرب. هذا التأثير، وإن لم يُدركه الرأي العام، فهو أكثر نفوذاً من تأثير مليارديرات مجتمع "الفرجة" الذين يحتلون واجهات وسائل الإعلام الجماهيرية.

ومثلما هو الأمر مع سياستها الاقتصادية، فإن السياسة الخارجية للولايات المتحدة تُوجِّهها مجموعات ضغط غير رسمية، تتلاقى أيديولوجياً حول مصالح ـ وعداوات - مشتركة، وهي تتنظم في محيط مجالس إدارة البنوك الضخمة والمؤسسات العملاقة المختصة في إدارة الأصول. هذه الأوساط الفاعلة، حيث تتركز ملكية رأس المال، هي التي رَسّخت منذ رئاسة ريغان، عبر وكلائها السياسيين والإداريين وشبكاتها الإعلامية والفكرية، نهج المحافظين الجدد - تحت أشكال متنوعة - ومعادله الاجتماعي/ الاقتصادي النيوليبرالي كقوام أيديولوجي للمؤسسة السياسية الأمريكية.

منح التدفق الهائل للمعاملات غير المرتبطة بتبادلات أو استثمارات ستاراً فعالاً لحركات رؤوس الأموال غير الشرعية التي يتم غسيلها قبل ضخها في المسالك الرسمية. لذلك فإن الهندسات المالية والجنّات الضريبية - المرفوضة على المستوى الرسمي - ضرورية لسير الاقتصاد الليبرالي المعولَم. وأمولة الاقتصاد هذه تدعم الأنشطة المافيوية.

على الرغم من تواتر المقالات الصحافية حول دورها كمغسلة خارج الحدود لرؤوس أموال خفية المصدر، يبدو أن الإمارات في مأمن من عواقب حقيقية، على الرغم من ظهورها منذ سنة 2022 على القائمة "الرمادية" للبلدان التي تخضع لمراقبة "مجموعة العمل المالي".

حتى وإنْ تبرأ كثيرون منها ونأوا بأنفسهم عنها، خاصة منذ نهاية فترة رئاسة جورج بوش الابن، فإن ركائز المحافَظة الجديدة ما تزال متغلغلة في عمق الطبقة السياسية الأمريكية، جمهوريين وديمقراطيين على حد سواء. تهيمن الرؤية الإمبريالية للعالم، المبنية بوجه خاص على الحفاظ على التفوق الاستراتيجي للولايات المتحدة والدفاع عن إسرائيل، على قمة الأجهزة الأيديولوجية للدولة وتطبع استمرارية السياسة الخارجية.

الحرب والأسواق المالية هما الجناحان الفعليان للنسر ذي الرأس الأبيض، الرمز الإمبراطوري الأمريكي. وما يتجاوز قوة أساطيل الولايات المتحدة ـ ذات القدرات العسكرية التي لا تضاهى في الانتشار [14] والتدمير - هو الدولار، الأداة البنيوية للهيمنة. الحصار الاقتصادي هو السلاح المفضّل لواشنطن في مواجهة مَن يعارضون رؤاها. تتعرض البلدان والشركات المتهَمة بإجراء معاملات مالية مع إيران وروسيا وكوبا أو كوريا الشمالية، إلى إجراءات خانقة مثل تجميد الأرصدة الدولارية والإجبار على دفع غرامات هائلة، أو بكل بساطة الإقصاء الكامل من آليات المدفوعات الدولية. ومما يُسهِّل أكثر تنفيذ هذه الإجراءات، التي تمنح القرارات الأحادية للولايات المتحدة بُعداً كونياً وعابراً للحدود بشكل يتجاوز المنطق، أن إدارة هذا البلد تتحكم فعلياً في مجمل المدفوعات الدولية، عبر شبكة "جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك" (سويفت)[15]. مجمل المعطيات المتعلقة بالتحويلات المالية الدولية مخزّنة فعلاً على خوادم موجودة في هولندا والولايات المتحدة.

______________________

ترجمه من الفرنسية محمد رامي عبد المولى

______________________

هذا المقال، الضروري للغاية لكي نفهم أكثر، هو جزء من العمل البحثي الذي انطلق تفاعلاً مع الإعلان الذي صاغه ونشره السفير العربي: "الأمر لا يتعلق بغزة أو بفلسطين فحسب". والإعلان موجود على موقعنا بالعربية والفرنسية والانجليزية.

______________________

  1. - باستثناء النفقات العسكرية
  2. https://www.wikiberal.org/wiki/%C3%89cole_autrichienne -
  3. - رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ما بين 1981 و1989
  4. - ملاحظة المترجم: الأمولة ( financiarisation في الفرنسية، و financialisation في الإنجليزية)، هي توصيف للتطور الذي تعيشه الرأسمالية منذ ثمانينيات القرن الفائت، مع تراجع قيمة الاقتصاد الإنتاجي المادي في المعاملات، والهيمنة التدريجية للمضاربات والأسواق المالية.
  5. - يشكل هذا الإجماع الضمني غير المعلن قاعدة برامج التعديل الهيكلي لصندوق النقد الدولي، وقد صيغت على أساس التوصيات العشر لجون ويليامسون (1989):
    -انضباط موازنة عامة صارمة: (لا مجال للعجز في الميزانية).
    -إعادة توجيه الإنفاق العمومي: (إعطاء الأولوية للنجاعة المالية).
    -توسيع القاعدة الضريبية، وتقليص الضريبة على الدخل وفوائض القيمة.
    -استقرار نقدي: (نسب تضخم متدنية، وتقليص العجز، والتحكم في الاحتياطيات النقدية).
    -اعتماد سعر صرف موحد وتنافسي.
    -تحرير التجارة الخارجية.
    -إلغاء العوائق أمام الاستثمار الأجنبي المباشر.
    -خصخصة المؤسسات العمومية.
    -إلغاء الأطر والقواعد التنظيمية للأسواق: (لا سياسات حماية ولا قيود على التصدير).
    -الاحترام الصارم لحقوق الملكية (بما في ذلك الملكية الفكرية).
  6. - صناديق استثمارية مضارِبة، Hedge Funds, Private Banking تدير أصولاً واستثمارات وفق طرق مبتكرة وتكنولوجيات السوق، مثل المشتقات المالية والرافعة المالية والبيع على المكشوف. ويشمل عمل هذه الصناديق الإدارة الفعالة للمخاطر، التي قد تكون عالية جداً في بعض الأحيان. https://www.agefi.fr/asset-management/actualites/les-20-hedge-funds-les-plus-performants- au-monde-ont-gagne-67-milliards-de-dollars-nets-en-2023
  7. - في فرنسا مثلاً، من المعلوم للجميع النشاط السياسي لبعض كبار الرأسماليين، على غرار فينسان بولوريه الذي يترأس مجموعة إعلامية ذات توجه يميني متطرف.
  8. - https://blogs.alternatives-economiques.fr/gadrey/2014/09/13/la-finance-pese-t-elle-100-fois-plus-que-l-economie-reelle-10-fois-plus-bien-moins
  9. - https://www.fatf-gafi.org/fr/the-fatf/who-we-are.html
  10. - https://www.douane.gouv.fr/actualites/actualisation-par-le-gafi-de-la-liste-des-pays-sur-liste-grise-et-noire
  11. - https://deontofi.com/dubai-paradis-blanchiment-pandora-papers
  12. - "الساحل" مصطلح لمنطقة جغرافية تفصل بين مناخين، رطب وقاحل، وتشمل عملياً وبالمعنى الواسع 10 دول، هي: بوركينا فاسو، والكاميرون، وغامبيا، وغينيا، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، ونيجيرها، والسنغال، وتشاد.
  13. -https://thecradle.co/articles/uae-seeks-removal-from-financial-gray-list-following-reforms
  14. - تقوم قدرة الانتشار الأمريكية على أسطول مكون من 11 حاملة طائرات، وشبكة تضم مئات القواعد العسكرية الموزعة على كل القارات.
  15. - https://e-finances.fr/tout-savoir-sur-le-protocole-swift/

مقالات من العالم

جوليان أسانج حرّ

2024-06-27

فعل أسانج المحظور الأكبر في هذا العالم. كشف اللثام عن أكبر أكاذيب العالم وأكثر أساليب الدول وحشية، وفضح تلك البرودة الفظيعة التي يتمتع بها الجميع خلف الكواليس، وتلك السهولة الرهيبة...

عودة إلى فانون: عن فلسطين وسيكولوجيا الاضطهاد والتحرّر

لا يمكننا التكلم عن فانون دون التطرق لتحليله للعنف وسايكولوجيا الاضطهاد، خصوصاً خلال الحقبة الحالية التي يطبعها الدمار والموت. ماذا كان فانون ليقول عن الإبادة الاستعمارية و"سيل القتل" اللذين يحدثان...

للكاتب نفسه

من الكفاح ضد الاستعمار إلى التعبئة من أجل الحريات: كرة قدم الشعب في الجزائر

عمر بن درة 2023-05-30

أصبح الملعب مركزاً للتعبئة الشعبية، ومنتجاً لدلالات سياسية عملية تناقلها الرأي العام بشكل واسع على اختلاف شرائحه الاجتماعية. والتحمس لهذه الرياضة ليس أمرا مستجدا. فقد لعبت كرة القدم دوراً مهماً...