رأس الحكمة.. هل باع المصريون أرضهم لأبناء زايد؟

في العام الجاري 2024، ووفق تسريبات مجهولة المصدر، أُعلن عن بيع مدينة رأس الحكمة بأكملها لمستثمرين إماراتيين في مقابل 22 مليار دولار (بالتزامن مع زيارة ممثلي صندوق النقد الدولي إلى القاهرة، للتفاوض بشأن القرض الجديد الذي تتطلع السلطة إلى زيادته الى نحو 10 مليار دولار بدلاً من 3 مليارات)، بينما قالت بعض المصادر المقربة من السلطة إن الصفقة ستُنفذ مقابل ما يوازي 42 مليار دولار على 7 سنوات.
2024-02-22

سليمى فرج

باحثة مختصة بالاقتصاد من مصر، وتقيم في بريطانيا


شارك
| en
مجسم لمشروع استثماري في مدينة رأس الحكمة، مصر

في الأول من شباط/ فبراير الجاري، انتشرت أنباء مجهولة المصدر، تفيد بأن حكومة القاهرة تنوي تهجير سُكّان مدينة "رأس الحكمة" المُطلة على شاطئ البحر المتوسط، شمال غرب القاهرة[1]، تمهيداً لبيعها لمجموعة من المستثمرين من دولة الإمارات العربية المتحدة. أثارت الأنباء غضباً شعبياً، إذ استحضر المصريون ما حدث مع جزيرتي تيران وصنافير. وقد تنازلت عنهما السلطة المصرية في العام 2017 لحكومة المملكة العربية السعودية، على الرغم من وجود حكم قضائي بمصريتهما.

مشهد أول

في الرابع من شباط/ فبراير الجاري، ارتفعت الاستغاثات الغاضبة من سكان "ضاحية الجميل"، الواقعة في محافظة بورسعيد (إحدى المحافظات الثلاث المشاطئة لقناة السويس، وهي: بورسعيد، والإسماعيلية، والسويس)، بعد أن ظهرت جرّافات السلطة، وشرعت في هدم منازلهم، استعداداً لتهجيرهم وإخلاء الضاحية بأكملها، لطرحها للاستثمار.

مشهد ثان

في الثامن من شباط/ فبراير الجاري، انتشرت أنباء تزعم أن السلطة المصرية تدرس بيع منطقة "رأس جميل"، الواقعة في مدينة شرم الشيخ، قرب مطارها الدولي، وهي المنطقة الأخيرة المقابلة لجزيرتي تيران وصنافير، لكن من دون ذِكر أية تفاصيل تخص الصفقة المرتقبة.

***

منذ أقدم العصور، كانت الأراضي الزراعية مِلكاً للسُلطة، إذ تحفل أدبيات مصر القديمة بالإشارات الواضحة إلى أن أرض مصر منحها الإله للملك (الفرعون)، يتحكم فيها كيفما يشاء. وظلَّ الحكام على مر العصور، يطبقون هذا الحق، يستخدمونه عندما تدعو الحاجة إلى إعادة تنظيم المجتمع وترتيب قُواه الاجتماعية، أو عندما تقع أزمات اقتصادية ضخمة. في الوقت الحاضر، استأثر السيسي بهذا الحق أيضًا - والذي يبدو أنه يرى نفسه خليفة لملوك مصر القديمة، ويظهر ذلك في دفعه لمظاهر عودة فرعونية الدولة - ليقرر في العام 2018 تأسيس ما عُرف ب"صندوق مصر السيادي"، وهو بمثابة بئرٍ عميقة، تُخفي أصول مصر المُعدّة للبيع أو الاستثمار. ويُعرِّف صندوق مصر السيادي نفسه عبر موقعه الرسمي، في هذه السطور: "كما دأب المصريون القدماء على حفظ كل ما هو ثمين ونفيس في المعابد الحصينة والقلاع، فإن صندوق مصر السيادي اليوم هو بمثابة معبد مصر الحديثة، ومركز استثماراتها حيث أكثر ركائزها الاقتصادية قوة التي تعمل على النهوض بالاقتصاد".

تقع مدينة رأس الحكمة في محافظة مطروح على ساحل البحر الأبيض المتوسط، متوسطة الطريق إلى مدينة الضبعة النووية المصرية. ويُعد إجراء مصادرتها وبيعها تطوراً نوعياً في سياسة السلطة، التي عادةً ما كانت تنزع ملكيات ضمن أحياء صغيرة. لكن هذه المرة قررت أن تنتزع مدينة كاملة من أصحابها. فما قصة المدينة؟ وكيف انتُزعت؟

لا تضع السلطات قيوداً على عمليات بيع مناطق متاخمة لحدود ليبيا (مثل مدينتي رأس الحكمة والعلمين الجديدة)، مما قد يصل بالأراضي المصرية إلى حد يهدد أمن مصر القومي، إذ لا يستبعد محللون أن تمنح الإمارات بعضاً من حصصها في الأصول المصرية لسلطة الاحتلال الإسرائيلي، خاصة بعد عملية التطبيع الكاملة منذ العام 2020.

تُحيلنا التقاطعات الثلاثة السابقة إلى السلطة المصرية الآن، وقد صارت متحكِّمة في كافة الأراضي في داخلها، سواء المملوكة لكيانات/ أفراد ملكيات خاصة، أو عامة. تستخدم أداتها الأكثر قوة وتأثيراً: قانون المنفعة العامة [2]، لنزع ملكيات دوماً ما كانت للمواطنين، بذريعة ضمها إلى مشروع قومي، أو تمهيداً لضمها إلى أحد الصناديق الاستثمارية التابعة للصندوق السيادي.

ومن بين الملكيّات التي عمدت السلطة إلى انتزاعها مؤخراً، جاءت مدينة رأس الحكمة في محافظة مطروح على الساحل الشمالي لمصر. ويعد الإجراء تطوراً نوعياً في سياسة السلطة، التي عادةً ما كانت تنزع ملكيات ضمن أحياء صغيرة. لكن هذه المرة قررت أن تنتزع مدينة كاملة من أصحابها. فما قصة المدينة؟ وكيف انتزعت؟

القاهرة تنتزع رأس حكمتها

وفق مقابلاتنا الهاتفية مع عدد من أبناء القبائل في مدينة رأس الحكمة، نفت شهاداتهم حول الواقعة موافقتهم على بيع مدينتهم لمستثمر أجنبي أو محلي. لكنّ الأزمة تتمثل في موافقة بعض من الأهالي، الذين تملّكوا حيزاً من الأفدنة وهم من خارج المدينة، ولا يرون أن هناك مشكلة في التنازل مقابل تعويضات عينية أو مادية مجزية. على الرغم من ذلك، فالسلطة قررت أن تنزع ملكياتهم جميعاً بتعويضات بخسة، لا تتجاوز 150 ألف جنيه للفدان الواحد، من دون تعويض عن المنازل، في حين أن قيمة الفدان الحقيقية تصل إلى نحو مليون جنيه أو تزيد.

الأهالي من السكان الأصليين، الذين يعيشون وفق علاقات ونظام قبلي، وعددهم وفق شهاداتهم يتجاوز 25 ألف نسمة (لا نملك تعداداً رسمياً لهم، حيث أن السُلطة تعمد إلى إخفاء العدد الحقيقي لسكان بعض المناطق الحدودية، والأقليات الدينية والعرقية)، يقولون إن جرّافات السُلطة وشركات التطوير وصلت في 19 شباط/ فبراير الجاري إلى مدينتهم، وبدأت في تنفيذ عمليات هدم لبعض المنازل بالفعل. لكنهم يؤكدون أنهم لن يقبلوا التهجير القسري، ويسعون إلى التفاوض، وفق ما قرره مجلس القبائل في اجتماعهم المُنْعقد في 11 شباط/ فبراير الجاري، والذي تصاعدت فيه الأمور إلى حد الاشتباك السريع مع قوات شرطية محدودة.

يقول أبناء قبيلة الزغيري، وهي من أكبر القبائل، إن بعضاً منهم هُجرِّوا بالفعل في العام 2015، حين صدرت أوامر بإخلاء المنطقة الواقعة ما بين استراحتي الملك فاروق والرئاسة، وهي مِلك لنحو 40 أسرة من قبيلتهم، لتنتزع مئات الأفدنة منهم، ويُعلن عن تعويضات زهيدة. وافق السكان وقتئذٍ رغبة في المساهمة في تنمية المدينة حسبما أوضح المسؤولون، وانتقلوا للاستقرار في منطقة مجاورة، أقاموا منازلَ واستصلحوا أراضيَ أخرى، للزراعة مقابل أموال التعويضات. لكنّهم فوجئوا مطلع الشهر الجاري بزيارة من وزير النقل والمواصلات الحالي، وكان رئيساً للهيئة الهندسية للقوات المسلحة - ويصفه السكان بأنه "سمسار السيسي" - للتفاوض معهم من جديد من أجل نزع ملكياتهم الجديدة بغية الاستثمار في المدينة، وهذه المرة من دون تعويضات، لأنهم - وفق المسؤول - تلقوها بالفعل في العام 2015. وقد رصد السكان طائرة إماراتية إلى جانب قصر الرئاسة على الشاطئ، خرج منها المستثمر الإماراتي ورئيس "شركة إعمار العقارية". وبحسب المواطنين، فإنه هو المسؤول عن إتمام الصفقة، كممثل لحكومة أبوظبي مع القاهرة.

يُعرِّف صندوق مصر السيادي نفسه عبر موقعه الرسمي، في هذه السطور: "كما دأب المصريون القدماء على حفظ كل ما هو ثمين ونفيس في المعابد الحصينة والقلاع، فإن صندوق مصر السيادي اليوم هو بمثابة معبد مصر الحديثة، ومركز استثماراتها حيث أكثر ركائزها الاقتصادية قوة التي تعمل على النهوض بالاقتصاد".

وقد أُعلن في العام 2018، عن توقيع مصر اتفاقية مع برنامج المستوطنات البشرية التابع للأمم المتحدة (الموئل)، تهدف إلى إطلاق مشروع "رأس الحكمة"، امتثالاً للأجندة الحضرية الجديدة وأهداف التنمية المستدامة ورؤية مصر 2030. ووفق موقع "المستوطنات البشرية" فاز التحالف الدولي، المُكوّن من شركة بريطانية وأخرى مصرية​، كشركاء للمنظمة والحكومة المصرية في التخطيط للمدينة الجديدة وعدد آخر من مدن الجيل الرابع الذكية. بدأت القاهرة في إخلاء مساحة نحو 2 كيلو متراً موازية للشاطئ بعمق 25 كيلومتراً داخل المدينة، ونزع ملكيتها من المواطنين ويقدرون بنحو 3 آلاف أسرة. وبحسب شهاداتهم، لم يتلقَ غالبيتهم التعويضات المناسبة حتى اللحظة.

بينما في العام الجاري، ووفق تسريبات مجهولة المصدر، أُعلن عن بيع المدينة بأكملها لمستثمرين إماراتيين في مقابل 22 مليار دولار (بالتزامن مع زيارة ممثلي صندوق النقد الدولي إلى القاهرة، للتفاوض بشأن القرض الجديد الذي تتطلع السلطة إلى زيادته الى نحو 10 مليار دولار بدلًا من 3 مليارات)، بينما بعض المصادر المقربة من السلطة قالت إن الصفقة ستُنفذ مقابل ما يوازي 42 مليار دولار على 7 سنوات. وهذا يؤهل القاهرة لسداد حصة كبيرة من الدين الخارجي وفوائده في السنوات المقبلة (من المقرر أن تسدد القاهرة العام الجاري، حصّة 32.8 مليار دولار، ما يوازي نحو 20 في المئة من إجمالي التزامات الديون الخارجية، البالغة - وفق بيانات البنك المركزي - نحو 164.7 مليار دولار في نهاية العام الماضي). ويوضح أبناء القبائل أن السلطة بدأت في مفاوضاتها الجادة معهم، بشأن تنفيذ إخلاء المرحلة الثانية من المدينة، بواقع 2 كيلو متراً بطول الشاطئ وعمق 40 كيلو متراً.

أعلنت الحكومة في أوائل شباط/ فبراير 2023، عن نيّتها بيع حصص في 32 شركة مملوكة للدولة بحلول شهر آذار/مارس 2024، وفق وثيقة ملكية الدولة التي صادق عليها السيسي في كانون الأول/ ديسمبر 2022، والهادفة إلى تخارجها من 65 في المئة من الاقتصاد المصري، وضمه إلى شركاء استراتيجيين أو محليين.

هناك ندرة في الحصول على معلومات رسمية بشأن صفقات القاهرة، وهي مثار قلق للمصريين الذين يُفجَأون بين الحين والآخر بإعلان السلطات عن بيع بعض الأصول، أو تصفية قلاع عمّالية وصناعية ضخمة ورابحة، مع تزايد غضبهم حيال عدم تمكنهم من حماية ممتلكاتهم وأرضهم، أو مواكبة زيادة ارتفاع الأسعار والضغوط الاقتصادية الناتجة عن سياسات الحكومة.

في الوقت نفسه، قالت صحف محلية حكومية إن القاهرة تُجري مشاورات مع شركات وصناديق استثمار عالمية بشأن اتفاقية تطوير المدينة، لكن من دون التطرق إلى أية تفاصيل أو نفي أو تأكيد نية البيع، مرجحة أن السلطة ستعلن قريباً عن الصفقة. وقد تبع ذلك تأكيد رئيس الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة، حسام هيبة، الصفقة، مشيراً إلى أن الحكومة تلقت عروضاً من عدة تحالفات استثمارية دولية لمشروع رأس الحكمة في الساحل الشمالي، ووقع الاختيار على تحالف إماراتي لتنفيذ المشروع، سيكون مسؤولاً عن التمويل والتطوير والإدارة، وأنه تم الانتهاء من المفاوضات وحالياً في مرحلة توقيع العقود. وأشارت مصادر أخرى إلى أن التحالف الإماراتي، سيحصل على 80 في المئة من المدينة، بينما يتبقى للمصريين (من المستثمرين والحكومة) نحو 20 في المئة فقط [3].

تمهيد مسبق

اتخذت حكومة القاهرة عدداً من الإجراءات الاستباقية للتمهيد لعملية بيع أصولها وأراضي الدولة. ففي كانون الثاني/ يناير مطلع هذا العام، وافق البرلمان على المشروع المقدم من الحكومة لتعديل بعض أحكام القانون رقم 143 لسنة 1981 بشأن الأراضي الصحراوية. ويهدف التعديل الى منح المستثمر الأجنبي الحق في الحصول على الأراضي اللازمة لمزاولة نشاطه أو التوسع فيه، من غير التقيد بما تتضمنه المادتان (11، 12)، من قانون الأراضي الصحراوية من وجوب ألا تقل ملكية المصريين عن 51 في المئة من رأس مال الشركة، وألا تزيد ملكية الفرد على 30 في المئة من رأس مالها، ومن اقتصار التملك على المصريين فقط، ناهيك عن تعديلات سابقة في العام 2023، للقانون رقم 230 لعام 1996، و يتيح للأجانب الحصول على العقارات بدون عدد محدود - بعدما كان العدد عقارين فقط وفي مدينتين مختلفتين. ما يعني وفق مركز حلول للسياسات البديلة - مركز بحثي يتبع الجامعة الأمريكية بالقاهرة - أن السلطة استنفدت كافة وسائلها لإصلاح ما أفسدته بذريعة برنامج الإصلاح الاقتصادي منذ العام 2016، وأنها شرعت في بيع أصولها بالدولار، رغبة في توفير العملة الأجنبية، لسداد ديونها واستكمال مشروعاتها، التي يبدو أنها لن تتوقف، على الرغم من تضخم الدين الخارجي بشكل غير مسبوق في تاريخ مصر. وهي لا تضع في سبيل ذلك قيوداً على مناطق متاخمة لحدود ليبيا (مثل مدينتي رأس الحكمة والعلمين الجديدة)، ولا تفرض أية قيود على عمليات البيع، مما قد يصل بالأراضي المصرية إلى حد يهدد أمن مصر القومي (إذ لا يستبعد محللون أن تمنح الإمارات بعضاً من حصصها في الأصول المصرية لسلطة الاحتلال الإسرائيلي، خاصة بعد عملية التطبيع الكاملة منذ العام 2020).

لماذا الإمارات؟

أعلنت الحكومة في أوائل شباط/ فبراير 2023، عن نيّتها بيع حصص في 32 شركة مملوكة للدولة بحلول شهر آذار/مارس 2024، وفق وثيقة ملكية الدولة التي صادق عليها السيسي في كانون الأول/ ديسمبر 2022، الهادفة إلى تخارجها من 65 في المئة من الاقتصاد المصري، وضمه إلى شركاء استراتيجيين أو محليين. وقد طرح ذلك تساؤلات حول ما إذا كانت الضغوط الاقتصادية التي تواجهها القاهرة، توفر للحكومة فرصة لتنفيذ استراتيجية محدّدة مسبقاً لبدء عملية تحويل الاقتصاد، خاصة أن الحكومات الخليجية، ومنها حكومة أبوظبي، قد تحولت من منح مساعدات للنظام الحالي، إلى طلب مقابل لدعمه غير المشروط عبر سنوات منذ صعوده (ساهمت الودائع الخليجية في البنك المركزي المصري بدور محوري، في دعم مخزون العملة الأجنبية واستقرار قيمة العملة المحلية بين 2013 و2014)[4]، لتتحول الدفّة من المساعدات إلى الاستثمارات.

 الحكومات الخليجية، ومنها حكومة أبوظبي، تحولت من منح مساعدات للنظام الحالي، إلى طلب مقابل لدعمه غير المشروط عبر سنوات منذ صعوده (ساهمت الودائع الخليجية في البنك المركزي المصري بدور محوري، في دعم مخزون العملة الأجنبية واستقرار قيمة العملة المحلية بين 2013 و2014) ، لتتحول الدفّة من المساعدات إلى الاستثمارات.

يتشكك المصريون في أن تكون الإمارات وسيطاً لشراء دولة الاحتلال الإسرائيلي أصولاً في مصر، عبر منح جنسيتها لإسرائيليين. ففي تموز/ يوليو 2021 قالت وسائل إعلام دولية إن حكومة أبو ظبي منحت الجنسية الإماراتية لنحو 5 آلاف إسرائيلي، بذريعة الاستثمار، ما قد يسمح لهؤلاء بالتنقل بين الدول العربية، ومنها مصر لاحقاً بحرية تامة، تحت غطاء أنهم يحملون جنسية عربية خليجية.

ويبدو أن أبوظبي قد بيتت النية مسبقاً لسيناريو الحصول على أملاك مصرية، مقابل مساعداتها للنظام منذ العام 2013، واستخدمت وسائل لإخضاعه لمخططها. فقد ضغطت دول خليجية بقيادة الإمارات، أثناء جولات المراجعة الخاصة بصندوق النقد الدولي في العام 2022، لعرقلة منح القاهرة المتعثرة، قرضاً بقيمة 9-12 مليار دولار، ليتوصل الطرفان إلى اتفاق مبدئي على قرض بقيمة 3 مليار دولار فقط، ويصبح الملاذ الوحيد أمام القاهرة هو التدفقات النقدية الخليجية. لكنّ الأمر تبدّل بعد أن شرعت السلطة في بيع جزء من حصصها في الأصول العامة إلى الإمارات، وأعرب مسؤولو الصندوق في زيارتهم الأخيرة، عن إمكانية زيادة القرض إلى نحو 7 مليار دولار. في المقابل مددت أبوظبي أجل استحقاق وديعة بقيمة مليار دولار، كانت تستحق في تموز/ يوليو 2023، ليصبح تاريخ استحقاقها في العام 2026. ويبلغ إجمالي ودائعها لدى البنك المركزي 5.7 مليار دولار.

وحسب تصريحات حكومية، فقد وضع الممولون الخليجيون شروطاً للاستمرار في مِنَحهم، تهدف إلى تحويل المساعدات إلى صفقات ضمن صناديق استثمارية، تبيع فيها القاهرة مشاريعَ وأصولاً مهمة لهم، مقابل الديون. وبالفعل، أعلنت شركة أبوظبي التنموية القابضة (صندوق ثروة سيادي إماراتي)، في آذار/ مارس من العام 2022، عن نيتها استثمار 2 مليار دولار في مصر، من خلال شراء حصص في عدد من الشركات المملوكة للدولة، واستحوذت على حوالي 18 في المئة من البنك التجاري الدولي، بينما استثمرت في قطاعات مثل الأسمدة. لكنها تركّز على الاستثمار في الموانئ والخدمات اللوجستية المصرية (من خلال مجموعة موانئ أبو ظبي المملوكة للدولة، والتي تعد المنافس الإقليمي لشركة قناة السويس في حقيقة الأمر)، لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية، ويظهر ذلك في سعيها إلى الاستحواذ على منشآت في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس منذ العام 2023، فيما وقَّعت بالفعل 3 اتفاقيات بشأن موانئ البحر الأحمر في سفاجا وشرم الشيخ والغردقة، العام الماضي.

أقلق هذا الواقع المصريين وجهات أمنية ترى أن سيطرة دول خليجية مطبّعة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، يمس الأمن القومي المصري، خاصة أنها أيضاً تضغط على حكومة القاهرة، لبيع أصول ومشروعات تابعة للجيش أو لطرحها في البورصة المصرية، منعاً من سيطرة الجيش، وتجنباً لخلافات قد تحدث مستقبلاً مع إدارته الاقتصادية.

وما يقلق المصريين أن الإمارات قد بدلت من سياستها الخارجية، مركِّزة على تقاربها مع الاحتلال الإسرائيلي. وفي الوقت الذي يبدو أنها داعمة لحكومة القاهرة، تبيِّن سياستها تجاه إثيوبيا وليبيا والسودان - وهي دول تمثل أخطاراً إقليمية محتملة أو فعلية بالنسبة للقاهرة (تسعى إثيوبيا لاستكمال سد النهضة بعد فشل مفاوضاتها مع مصر، ما يهدد أمن القاهرة المائي، بينما تدور حرب مشتعلة في السودان بين قوات "الدعم السريع" والجيش النظامي، في حين أن الأوضاع في ليبيا غير مستقرة نسبياً، وتلعب الإمارات دوراً فاعلاً في تأجيج الصراع في تلك الدول الثلاث)، ما يزيد من الشكوك حول أهدافها.

يبدو أن أبوظبي قد بيتت النية مسبقاً لسيناريو الحصول على أملاك مصرية، مقابل مساعداتها للنظام منذ العام 2013، واستخدمت وسائل لإخضاعه لمخططها. فقد ضغطت دول خليجية بقيادة الإمارات، أثناء جولات المراجعة الخاصة بصندوق النقد الدولي في العام 2022، لعرقلة منح القاهرة المتعثرة، قرضاً بقيمة 9-12 مليار دولار، ليتوصل الطرفان إلى اتفاق مبدئي على قرض بقيمة 3 مليار دولار فقط، ويصبح الملاذ الوحيد أمام القاهرة هو التدفقات النقدية الخليجية.

 تركّز الامارات على الاستثمار في الموانئ والخدمات اللوجستية المصرية (من خلال مجموعة موانئ أبو ظبي المملوكة للدولة، والتي تعد المنافس الإقليمي لشركة قناة السويس في حقيقة الأمر)، لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية. ويظهر ذلك في سعيها إلى الاستحواذ على منشآت في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس منذ العام 2023، فيما وقَّعت بالفعل 3 اتفاقيات بشأن موانئ البحر الأحمر في سفاجا وشرم الشيخ والغردقة، العام الماضي.

عودة إلى رأس الحكمة، ووفق محلِّلين، فإنه في ظل الغياب التام للمعلومات الرسمية، فإن ذلك يفتح المجال أمام تكهنات واسعة حول نية الإمارات الاستثمار في المدينة الساحلية، التي تتوسط الطريق إلى مدينة الضبعة النووية المصرية. وربما يتشكك المصريون في أن تكون وسيطاً لشراء الاحتلال الإسرائيلي أصولاً في مصر، عبر منح جنسيتها لأبنائه، خاصة وأنه في تموز/ يوليو 2021 قالت وسائل إعلام دولية إن حكومة أبو ظبي منحت الجنسية الإماراتية لنحو 5 آلاف إسرائيلي، بذريعة الاستثمار، ما قد يسمح لهؤلاء بالتنقل بين الدول العربية، ومنها مصر لاحقاً بحرية تامة، تحت غطاء أنهم يحملون جنسية عربية خليجية. وادعت مصادر أن الإمارات تعتزم استخدام رأس الحكمة كممر بحري مستقبلي، لتسليم البضائع من دول الخليج إلى الاحتلال، ثم التوسع مستقبلًا في نقل تلك البضائع إلى أوروبا عن طريق البحر المتوسط. ومع ذلك، لم يتم التحقق من هذا الادعاء من قبل أي مصدر رسمي.

.. وتبقى ندرة الحصول على معلومات رسمية بشأن صفقات القاهرة مثار قلق للمصريين الذين يُفْجَأون بين الحين والآخر بإعلانها عن بيع بعض الأصول، أو تصفية قلاع عمالية وصناعية ضخمة ورابحة، مع تزايد غضبهم حيال عدم تمكنهم من حماية ممتلكاتهم وأرضهم، أو مواكبة زيادة ارتفاع الأسعار والضغوط الاقتصادية الناتجة عن سياسات الحكومة.

*نشر النص قبل عدة أيام من اعتراف الحكومة المصرية بأنها باعت "رأس الحكمة" للإمارات.

______________________

هذا المقال عن أوضاع مصر المندفعة الى الهاوية - بسبب خيارات سلطاتها أولاً وبتشجيع ثانيا من تحالف عميق بين صندوق النقد الدولي ومن خلفه الولايات المتحدة واسرائيل، مع دولة الامارات - هو جزء من العمل البحثي الذي انطلق تفاعلاً مع الإعلان الذي صاغه ونشره السفير العربي: "الأمر لا يتعلق بغزة أو بفلسطين فحسب"، والاعلان موجود على موقعنا بالعربية والفرنسية والانجليزية.

______________________

  1. تتسم بموقعها الجغرافي الاستراتيجي على البحر المتوسط بين شرق مدينة العلمين و غرب مرسى مطروح - التي تتبعها إدارياً وتبعد عنها نحو 85 كيلو متراً. وهي عبارة عن خليج بحري، يقع في الساحل الشمالي الجديد ضمن شريط ساحلي بطول 50 كيلو متراً، امتداداً من منطقة الضبعة في الكيلو 170 في طريق الساحل الشمالي الغربي وحتى الكيلو 220 في مدينة مطروح، وتقع على بعد حوالي 350 كيلو متراً (217 ميلاً) شمال غرب العاصمة القاهرة. وهي تغطي مساحة تزيد عن 180 كيلو متراً مربعاً. ويقع خليج رأس الحكمة بالقرب من العديد من المطارات، أهمها مطارا: مرسى مطروح وبرج العرب الدوليين. وموانئ مثل: ميناء العلمين الجوي، وميناء الحمرا للبترول. كما تتوسط المدينة طريق "فوكة الجديد" الرابط بين مدينة القاهرة والساحل الشمالي.
  2. فعّلت الدولة القانون رقم 577 لسنة 1954 بشأن نزع الملكية للمنفعة العامة أو التحسين، والقانون رقم 10 لسنة 1990 بخصوص الشأن ذاته، وتعديلاته اللاحقة. وهَدَف منح السلطة التنفيذية الحق في إخلاء مناطق عشوائية، أو شق طريق حيوي، أو إقامة المشروعات التي تخدم الدولة، وتوسعت السلطة الحالية في استخدام المنحة التشريعية إلى الحد الذي جعل القانون سيفاً على رقاب المصريين، من دون تعويضات مناسبة.
  3. وفق تسريبات مجهولة المصدر، تنسب إلى الإعلامي خيري رمضان، اجتمع مسؤول بارز في الدولة مع إعلاميين وصانعي قرار، في جلسة سرية لإعلامهم بأن استثمارات بقيمة 100 مليار دولار، ستضخ إلى القاهرة خلال الفترة المقبلة، منها 42.5 مليار دولار قيمة صفقة رأس الحكمة وحدها. وذكرت التسريبات أن رجال أعمال مصريين من بينهم محمود الجمال، الذي تربطه علاقة مصاهرة مع الرئيس الأسبق حسني مبارك، وهشام طلعت مصطفى، والعقاري حسن علام، وعائلة ساويرس التي تمتلك مجموعة "أوراسكوم"، سيكونون ضمن التحالف المصري، الذي يستحوذ على نسبة الأقلية في المشروع.
  4. قدمت المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت ودائع بقيمة 24 مليار دولار لمصر، علاوة على منح نقدية وعينية وأموال دعم للمشاريع. وخلال مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصري في آذار/ مارس 2015، قدم مجلس التعاون لدول الخليج 12.5 مليار دولار أمريكي إضافية.

مقالات من مصر

عبد الله النديم، ثائر لا يهدأ

أشهرت البعثة البريطانية إفلاس مصر فى السادس من نيسان/ إبريل عام 1879. وفي أعقاب ذلك الإعلان، قام السلطان العثماني بعزل الخديوي إسماعيل وتولية ابنه "محمد توفيق باشا" على مصر بدلاً...

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...