هل دنت العدالة في السودان بتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية؟

لماذا تأخر تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية بعد التغيير الذي حدث في السودان؟ بل ربما يقبل السؤال التوسع بشكل أكبر ليشمل تأخر العدالة ككل.
2021-08-25

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، خلف القضبان.

بعد أكثر من عامين على إزاحة نظام عمر البشير، لا يزال السودانيون يترقبون تحقق العدالة في هذه البلاد التي تقلبت في المذابح والانتهاكات طيلة سنوات حكمه (1989 - 2019).

يُنظر إلى محاكمة عمر البشير، ورموز نظامه باعتبارها أبرز ملفات العدالة في السودان، وخاصةً بالبعد المتمثل بالمحكمة الجنائية الدولية. كما يشكل هذا الملف محكاً حقيقياً أمام حكومة الفترة الانتقالية المكونة من مدنيين كانوا في خانة المعارضة في عهد البشير، وعسكريين تربطهم صلات مباشرة وغير مباشرة بنظامه ذاك.

في العام 2009 أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف ضد كل من: عمر البشير، ووزير دفاعه عبد الرحيم محمد حسين، وأحمد هارون الذي تنقل في مواقع قيادية في عهد البشير، وثلاثتُهم قابعون في سجن مركزي بالخرطوم، بالإضافة إلى علي كوشيب، وهو زعيم ميليشيا متحالفة مع حكومة البشير، وقد سلم نفسه طواعية في حزيران/ يونيو 2020، وعبد الله بندة قائد لحركة متمردة، جميعهم صدرت بحقهم مذكرات اعتقال دولية لاتهامهم بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور في الفترة 2003 - 2004.

حراك دولي وترقب محلي

شهدت الفترة التي أعقبت سقوط نظام عمر البشير زيارات مكوكية لقضاة المحكمة الجنائية الدولية إلى الخرطوم، تُوجت بتوقيع مذكرة تفاهم بين حكومة السودان والمحكمة في شباط/ فبراير 2021، ربما لتقنين وضع التعاون في تسليم المطلوبين للمحكمة منذ 11 عاماً. وبعد انتهاء فترة المدعية السابقة، فاتو بن سودا التي بدأ في عهدها سير محاكمة المتهم علي كوشيب بعد تسليم نفسه للمحكمة، زار السودان المدعي العام الجديد كريم أسد خان، وتم توقيع مذكرة تفاهم أيضاً بين الطرفين في آب/ أغسطس الجاري. وفي الشهر ذاته أعلنت الحكومة الانتقالية انضمام السودان لنظام روما، وهو الميثاق المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.

هذا الحراك في ملف المحكمة الجنائية الدولية قد يوحي بأن هناك إرادةً للمضي قدماً في قضية العدالة التي تعثرت كثيراً، والتي بلا شك تبدأ بمحاكمة البشير وأعوانه الكبار في الجرائم الكبيرة. وعلى نحو أكثر خصوصية، يمثل تسليم المطلوبين للمحكمة مطلباً رئيسياً لضحايا الحرب في دارفور، وقد أظهر الاستقبال الحاشد للمدعية السابقة للمحكمة خلال زيارتها للسودان الحاجةَ الملحة للعدالة، وأكدت الهتافات المدوّية التي رددها النازحون في دارفور أن قضية تسليم البشير تمثل لهم الأولوية القصوى، بل إن بعض اللاجئين يضعونها شرطاً للعودة إلى موطنهم.

لدى كبار العسكريين في الحكومة الانتقالية مخاوف جمة من أن تلاحقهم التهم ذاتها الموجهة للبشير وأعوانه، إذا ما مثل المطلوبون أمام المحكمة. لكن يبدو أنهم حصلوا على تطمينات بأن المحكمة الجنائية الدولية لن تضيف متهمين جدد. وهذه هي المسألة الوحيدة التي تُبرر الشجاعة التي تحلت بها الحكومة، لتعلن قرارها على الملأ من أنها سوف تسلّم المطلوبين.

ربما كان السؤال الموضوعي الذي يتبادر لكل متابع للشأن السوداني، هو لماذا تأخر تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية بعد التغيير الذي حدث في السودان؟ بل ربما يقبل السؤال التوسع بشكل أكبر ليشمل تأخر العدالة ككل.

من المهم الإشارة إلى طبيعة الشراكة التي نتجت بعد إزاحة البشير. فهي، وبشكل مجرد، يُمكن وصفها بالعقبة الكؤود أمام التغيير الذي يتعطش له السودانيون. لكن يهمنا هنا بشكل خاص قضية العدالة. فهؤلاء العسكريون، بجانب الصلات التي تربطهم بالنظام السابق، فهناك مخاوف جمة لدى كبارهم من أن تلاحقهم التهم ذاتها الموجهة للبشير وأعوانه، إذا ما مثل المطلوبون أمام المحكمة. هذه المخاوف الحقيقية حالت دون إحراز تقدم في ملف المحكمة الجنائية الدولية طيلة الفترة السابقة، ولم يعد خافياً للسودانيين أن العسكريين هم الطرف الذي يقف حاجزاً ضد تسليم البشير تحت حجج ومبررات لا تخرج عن كونه كان قائداً عاماً للجيش السوداني في وقت سابق، وأن "شرف" العسكرية بالنسبة لهم يمنع تسليمه لمحكمة أجنبية، في حين لم يشعر السودانيون بوجود أي إرادة لمحاكمته داخلياً. لكن السبب الحقيقي لتلك المخاوف هو أن يُضاف بعضهم إلى قائمة الاتهام، خاصةً وأن المدعية العامة السابقة قالت إن بالإمكان إضافة متهمين جدد.

تسليم البشير.. كَسْرُ حاجز عتيد

لأول مرة، يُعلن السودان رسمياً أنه قرر تسليم البشير وأعوانه المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، حيث قالت وزيرة الخارجية، مريم الصادق، عقب لقائها المدعي العام خلال زيارته للخرطوم في آب/ أغسطس الجاري، إن حكومتها قررت تسليم المطلوبين. وهي المرة الأولى التي تخرج فيها الحكومة الانتقالية من خانة "تعتزم" إلى خانة "تُقرر". وقبلها بفترة قصيرة، نقلت تقارير صحافية أن مجلس الوزراء الانتقالي – الذي يضم عضوين عسكريين فحسب، هما وزيرا الدفاع والداخلية لم يبديا على ما يظهر اعتراضاً - قرر في إحدى جلساته المغلقة التعاون الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية. وبدا القرار وكأنه محاولة لفرز موقف المدنيين في الحكومة الانتقالية، مقابل موقف العسكريين الرافض للتسليم أو المماطل في أفضل حالاته.

صحيح أنه لم يجرؤ أحد على الصدح بوجود تسوية لطي ملف "مجزرة القيادة العامة" التي حدثت خلال فض الاعتصام في حزيران/ يونيو 2019، والمتورط فيها "المجلس العسكري" آنذاك، المكون العسكري الحالي في الحكومة الانتقالية. لكن هناك أصواتاً رسمية عديدة تخرج علناً، وتدعو إلى ذلك، لضرورات "التسامي فوق الجراح، وبهدف التعافي الوطني".

ووفقاً لحديث المدعي العام كريم أسد خان في ختام زيارته، فإن الحكومة الانتقالية لم تحدد زمناً قاطعاً لتسليم المطلوبين، لكن المعلومات المتداولة في دوائر ضيقة تشير إلى أن العسكريين في الحكومة الانتقالية حصلوا على تطمين: أن المحكمة الجنائية الدولية ليست مستعدةً لإضافة متهمين جدد. وهذه هي المسألة الوحيدة التي تُبرر الشجاعة التي تحلت بها الحكومة لتعلن قرارها على الملأ من أنها سوف تسلّم المطلوبين.

وثمة مسألة أخرى ربما تجعل العسكريين أكثر اطمئناناً، وهو ملف "مجزرة القيادة العامة" التي حدثت خلال فض الاعتصام في حزيران/ يونيو 2019، والمتورط فيها "المجلس العسكري" آنذاك، المكون العسكري الحالي في الحكومة الانتقالية. صحيح أنه لم يجرؤ أحد على الصدح عن وجود تسوية جرت، أو تجري لطي ملف هذه المجزرة التي شكلت لها الحكومة لجنةً للتحقيق، ولم تُكمل مهمتها بعد. ولا تحوز اللجنة التي طلبت التمديد مراراً على ثقة أهالي الضحايا، ولا ثقة قوًى سياسية رئيسية. لكن مؤخراً بدأت تتعالى أصوات وسط القوى المحسوبة على الثورة بضرورة إجراء مصالحة بين المدنيين والعسكريين، ثم وبصريح العبارة دعا عضوان بارزان في التحالف الحاكم الأسبوع الماضي خلال مقابلة تلفزيونية إلى "نسيان" هذه المجزرة لضروريات التسامي فوق الجراح، بهدف التعافي الوطني من وجهة نظرهم.

ما تحقق في ملف العدالة في السودان أقل من ضئيل، ولا يتعدى عدداً محدوداً من بلاغات القتل العمد لعدد من الضحايا الذين سقطوا إبّان الاحتجاجات في 2019-2020، ولم تطل هذه البلاغات القادة الكبار الذين يصدرون الأوامر، بل اكتفت بصغار الضباط والجنود. 

هذه الأصوات ليست مجرد آراء تخص قائليها. هذا توجهٌ يمضي داخل مكونات الحكومة، وما حديث العضوين إلا محاولةً للتمهيد للأمر أمام الرأي العام. وهذا التوجه، يمثل في نظر كثير من الفاعلين داخل الحكومة المخرجَ من الأزمة التي تحيط بها، لأن المجموعة العسكرية تريد ضمانات من جانب الشركاء المدنيين، وهذا ما يُرجح أن يكون بعضهم قدّم تعهدات للعسكريين بطي ملف المجزرة مقابل التعاون الكامل في تسليم البشير وأعوانه. وبلا شك يمثل تسليم البشير إنجازاً كبيراً للحكومة الانتقالية، يُمكن بفضله أن تستعيد ثقة الشارع حول أدائها في الملف العدلي، لكن وفي السياق نفسه فلن يكن مقبولاً أن يكون التسليم مقابل "العفو" عن المكون العسكري في الحكومة الانتقالية.

وبالنظر بشكل عام إلى سير ملف العدالة في السودان، فإن الذي تحقق أقل من ضئيل، ولا يتعدى عدداً محدوداً من بلاغات القتل العمد لعدد من الضحايا الذين سقطوا إبّان الاحتجاجات في 2019-2020، ولم تطل هذه البلاغات القادة الكبار الذين يصدرون الأوامر، بل اكتفت بصغار الضباط والجنود، أما رموز النظام السابق فلم تطلهم بعد يد العدالة إلا في بلاغ يتيم (انقلاب 89) وحتى هذا تحولت محكمته إلى مسرح عبث.

تسليم البشير وأعوانه للمحكمة الجنائية الدولية، ومهما كانت ردة الفعل عليه من قبل منسوبي النظام السابق، هو خطوة واسعة في اتجاه إثبات إرادة الحكومة الانتقالية في تحقيق العدالة، وبه سوف ينكسر حاجزٌ كبير يعرقل سير العدالة. لكن تسليم المطلوبين لا يمثل المحطة النهائية في قضية العدالة، بل هي البداية! 

مقالات من السودان

للكاتب نفسه