السودان: نشاط عسكري وخمول سياسي!

يمضي السودان بسرعة في تنفيذ سياسات صندوق النقد الدولي القاضية بخروج الدولة عن أي دعم للسلع الرئيسية، مع تهاوٍ مريع في قيمة العملة الوطنية، وسيولة أمنية، وغياب تام لنشاط القوى السياسية في مثل هذه الأوقات، وتراجع بائن لدور المدنيين في السلطة الانتقالية. إزاء ذلك يتخوف السودانيون من سيناريو الفوضى..
2021-06-23

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
"حميدتي" على رأس قوات الدعم السريع.

حبست الخرطوم أنفاسها لساعات بعد تواتر أنباء عن إعلان حالة الاستعداد القصوى داخل وحدات الجيش من جهة، وقوات الدعم السريع من جهة أخرى، وظن كثيرون أن أوان المواجهة قد اقترب، على الرغم من أن الطرفين - الجيش والدعم السريع – أصدرا نفياً رسمياً. إلا أن القيادة الرئيسية للجيش، والتي تقع في قلب الخرطوم أحاطت نفسها، لأول مرة، بسواتر ترابية. وفي الأثناء خرج نائب رئيس مجلس السيادة، وقائد قوات الدعم السريع من صمت طويل، ليرفض بشدة أمام جمع من الناس أي مطلب أو دعوة إلى دمج قواته داخل الجيش، وهدد بشكل مبطن في الخطاب ذاته بأن الإصرار على هذا المطلب سوف يضع البلاد على حافة التشظي، ودافع بإسهاب عن دوره في المبادرة بإزاحة البشير انحيازاً للشارع.

لكن رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، الذي طرح مبادرة لتوسيع الكتلة الانتقالية، أبدى قلق واضح ازاء التوترات بين الجيش والدعم السريع، ودعا الى تكوين جيش موحد. وهو أول مسئول يتحدث صراحة عن هذه التوترات.

و"الدعم السريع" هي ميليشيا قبلية أسسها الرئيس المخلوع عمر البشير عام 2005، لتعينه في حربه مع حركات دارفور المسلحة، وتحولت بعد الثورة إلى طرف رئيسي في عملية التغيير بجانب القوات النظامية. ويشغل مؤسسها وقائدها محمد حمدان دقلو ("حميدتي") منصب نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي. وتتمتع القوات المثيرة للجدل باستقلالية تامة في الاقتصاد والتسليح، وتحتكر التنقيب في مناطق غنية بالموارد المعدنية في إقليم دارفور.

قوة مستقلة بحسب الوثيقة الدستورية واتفاق جوبا

الوثيقة الدستورية الموقعة بين المدنيين والعسكريين في آب/ أغسطس 2019، بعد إزاحة البشير، عاملت قوات الدعم السريع كقوة مستقلة عن الجيش. ولم يخرج كذلك اتفاق جوبا للسلام الموقعُ بين الحكومة الانتقالية، والحركات المسلحة في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، عن الوثيقة في هذه المسألة، وتُرك الخيار لجيوش الحركات الموقعة على اتفاق السلام في الانضمام للجيش أو الدعم السريع أو الشرطة، ليُثبّت على إثر ذلك قائد الدعم السريع وجوده كقوة لا يُستهان بها في أي مرحلة قادمة. ويُنظر إلى اتفاق جوبا على أنه شيّد أرضيةً صلبة لتحالفات جديدة بين قوات الدعم السريع وقوات الحركات المسلحة، وعلى نحو خاص مسار دارفور الذي يضم أكبر حركتين ("تحرير السودان" بقيادة مني أركو مناوي، و"العدل والمساواة" بقيادة جبريل إبراهيم). وفضّلت بعض الحركات منذ وقت باكر الاندماج في قوات الدعم السريع بدلاً عن الجيش، نظراً ربما للرواتب والامتيازات التي يتمتع بها منسوبو الدعم السريع، والتي هي أفضل من الجيش بأضعاف. ولعل السبب الآخر أن هذا الموقف قد يمثّل توطئةً لنشوء تحالفات مستقبلية، بالنظر إلى الاصطفاف الحاد الذي تعيشه قوى الثورة ومكونات الحكومة الانتقالية. وقد اعتُبر اتفاق سلام جوبا أحد أهم منجزات قائد الدعم السريع، الذي ظل بعد مجزرة القيادة العامة في حالة بحث مضنٍ عما يمكن أن يحسّن صورته.

تجري مفاوضات متعددة بين مختلف القوى في السودان، لعل أبرزها تلك التي تدور في جوبا بين الجيش و"الحركة الشعبية - شمال" إذ من شأن دخول رئيسها، عبد العزيز الحلو، في اتفاق سلام أن يعيد صياغة معادلة الحكم الحالية بشكل كلي. 

يأتي هذا بالتزامن مع انطلاق مفاوضات سلام بين الحكومة الانتقالية والحركة الشعبية- شمال، وهي من أكبر الفصائل المسلحة، وتسيطر على مناطق جبال النوبة وجنوب كردفان والنيل الأزرق، قبل أن تنقسم على نفسها، وتفقد أراضي واسعة في مناطق النيل الأزرق. والحركة الشعبية - شمال التي يتزعمها عبد العزيز الحلو هي جزءٌ من الحركة الشعبية لتحرير السودان التي قادت حرباً طويلة في جنوب السودان انتهت بانفصاله عام 2011. لكن الفرقتين التاسعة والعاشرة ظلتا "شيطان التفاصيل" إلى أن انفجرت الحرب مجدداً في هذه المناطق بعد الانفصال.

تطرح الحركة الشعبية - شمال بقيادة عبد العزيز الحلو دمج قوات الدعم السريع داخل الجيش. وقد رفض الحلو مؤخراً الجلوس مع قائد هذه القوات في أي طاولة تفاوض، مفضلاً التفاوض مع قيادة الجيش. وفي وقت سابق، التقى رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، بعبد العزيز الحلو، وهي الخطوة التي مهدت لعودة الأخير إلى طاولة التفاوض على وجه السرعة. وهذا كله يوضح طبيعة التحالفات المستقبلية بين المكونين العسكريين المتنافسين في الحكومة الانتقالية (الجيش والدعم السريع) والحركات المسلحة التي انضمت بعد الثورة إلى اتفاقيات السلام. وإن كانت ملامح التفاوض مع عبد العزيز الحلو الذي يجري حالياً بعاصمة جنوب السودان، جوبا، لا تزال بعيدةً عن اتفاق نهائي، لكن الأمور تسير بهدوء بهذا الاتجاه. كما لم يعد هناك خيارٌ أمام جميع الحركات المسلحة إلا الانضمام للسلام. ويستشعر قائد الدعم السريع، "حميدتي"، خطراً مما يجري في جوبا، ليس فقط لكونه يؤدي إلى سحب ملف السلام الذي تزعّمه في وقت سابق، بل لأن ثمة تحالفاً قد ينشأ بين الجيش والحركة الشعبية – شمال، خاصةً إذا تمت الاستجابة لمطلبها القاضي بدمج قوات الدعم السريع بالجيش وهو – إن تم – سيفقده أرضيته التي يتكئ عليها. ومن شأن دخول عبد العزيز الحلو في اتفاق سلام أن يعيد صياغة معادلة الحكم الحالية بشكل كلي.

تسربت مقاطع فيديو توثق لمجموعات تتبع للدعم السريع لحظة فض الاعتصام. وتشير أصابع الاتهام في هذه التسريبات إلى غريم "حميدتي"، مدير جهاز الأمن الأسبق، صلاح قوش، الذي كان شريكاً في عملية إزاحة البشير، قبل أن يُجبر على الاستقالة ومغادرة البلاد فوراً إلى مصر. ويعتقد على نطاق سياسي واسع أن مفاتيح كثيرة لا تزال بيد الرجل.

واستشعار حميدتي للخطر يمتد إلى احتمال توريطه دون سواه في مجزرة فض اعتصام القيادة العامة. قبل أيام أحيا الآلاف هذه الذكرى مطالبين بتطبيق العدالة. ووجهت منظمة أسر شهداء ثورة ديسمبر – لأول مرة - اتهاماً صريحاً لحميدتي، وشقيقه عبد الرحيم دقلو بالتورط في مجزرة فض الاعتصام، وهو ما أحدث انقساماً داخل المنظمة، التي يعتقد بعض منسوبيها أن حالة الاستقطاب الحاد بين الجيش والدعم السريع لم تسْلم منها. وبالتزامن مع إحياء ذكرى فض الاعتصام، تسربت مقاطع فيديو في مواقع التواصل الاجتماعي توثق لمجموعات تتبع للدعم السريع لحظة فض الاعتصام. وتشير أصابع الاتهام في هذه التسريبات إلى غريم "حميدتي"، مدير جهاز الأمن الأسبق، صلاح قوش، الذي كان شريكاً في عملية إزاحة البشير قبل أن يُغدر به من قبل المجلس العسكري – حينها - ويُجبر على الاستقالة ومغادرة البلاد فوراً إلى مصر، الذي لا يزال يكابد من أراضيها للعودة مجدداً إلى المشهد السياسي. ويعتقد على نطاق سياسي واسع، أن مفاتيح كثيرة لا تزال بيد الرجل.

جيوش متعددة وترتيبات أمنية متعثرة

لم يحجب النفي الرسمي الإقرار بوجود أزمة بين الجيش والدعم السريع. وهذا ما أكده السياسي البارز في الحركة الشعبية، ياسر عرمان. وسعت بعض الأطراف داخل السلطة الانتقالية لنزع فتيل الأزمة بين الطرفين. الأزمة بين البرهان وحميدتي هي تنازعٌ وتنافس على السلطة لها ظلالها الآتية من خارج السودان. صحيح أن البرهان يتعرض لضغوط من داخل الجيش من أجل دمج قوات الدعم السريع. لكن الإمارات التي ظلت داعمةً لحميدتي فيما يبدو، كفت يدها مؤخراً متأثرةً أو مقتنعة بالرؤية المصرية في هذا الصدد، والتي تنطلق بالأساس من مبدأ دعم الجيش بدلاً عن الميليشيا، وهو الأمر الذي أجبر "حميدتي" على البحث عن حاضنة إقليمية بديلة، فاضطر للاتجاه صوب تركيا. لكن الأخيرة رفضت طريقة إدارته للقضايا، إذ تفضل التعامل عبر مؤسسات الدولة لا شخوصها. وفي خضم بحث الرجل المضني عن حاضنة إقليمية بديلة، يبدو بوضوح أنه فقد حلفاءه الداخليين من داخل "قوى الحرية والتغيير"، كما أنه بدأ يفقد حاضنته التقليدية من الإسلاميين بسبب فقدان الثقة فيه.

يستشعر قائد الدعم السريع، "حميدتي"، خطراً مما يجري في جوبا، ليس فقط لكونه يؤدي إلى سحب ملف السلام منه، وهو الذي تزعّمه في وقت سابق، بل لأن ثمة تحالفاً قد ينشأ بين الجيش والحركة الشعبية – شمال، خاصةً إذا تمت الاستجابة لمطلبها القاضي بدمج "قوات الدعم السريع" بالجيش وهو – إن تم – سيفقد حميدتي أرضيته التي يتكئ عليها.

خطورة الوضع لا تنحصر في خلافات الجيش مع "قوات الدعم السريع"، وتهديدات حميدتي بإدخال البلاد في دوامة تشظٍ، واحتمال وقوع مواجهة داخل الخرطوم.. الخطورة تتعدى ذلك إلى ما هو أهم، وهو تعثر تنفيذ بند الترتيبات الأمنية الخاص باتفاق جوبا، الذي أكمل شهره السابع دون تقدّم يذكر، بينما هذا البند بالغ الأهمية.

غير أن خطورة الأمر ليست فقط في خلافات الجيش مع الدعم السريع، وتهديدات حميدتي بإدخال البلاد في دوامة تشظٍ، واحتمال وقوع مواجهة داخل الخرطوم، وليست الخطورة فقط في التنافس المحموم بين البرهان وحميدتي، والذي يرتكز بالأساس على وجود دعم إقليمي لكليهما. الخطورة تتعدى ذلك إلى ما هو أهم، وهو تعثر تنفيذ بند الترتيبات الأمنية الخاص باتفاق جوبا، الذي أكمل شهره السابع دون تقدّم يذكر في هذا البند بالغ الأهمية. وتحفظ الذاكرة السياسية السودانية بالتجربة القاسية لعودة الحرب من ثغرة الترتيبات الأمنية، وهو البند المعني بدمج جيوش الحركات داخل القوات النظامية بعد اتفاقيات السلام. ووصلت الخرطومَ في أعقاب اتفاق جوبا أرتالٌ من السيارات المسلحة والجنود التابعة لبعض الحركات، واستقرت في بعض المناطق داخل العاصمة، في انتظار بدء الترتيبات الأمنية التي تحتاج إلى أكثر من 187 مليون دولار.

وتُقدر جيوش الحركات المسلحة السودانية بـ 40 الف مقاتل، وهي تقديرات غير رسمية، وعادةً ترفض الفصائل المسلحة الكشف عن أعداد جنودها. وتبادلت مراراً الحركاتُ المسلحة والجيش الاتهامات في المسؤولية عن تباطؤ تنفيذ الترتيبات الأمنية، التي وإن كان ظاهرها تعثر الميزانية في بلد يتهاوى اقتصاده يومياً، إلا أن بعض المعلومات تشير إلى أن القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان طلب من جميع الحركات تسليم سلاحها وعتادها أولاً، وهو أمر لا تقبله الحركات. ولا سيما أن نص الاتفاق يقول إن لجنة مشتركة من الطرفين، تنشأ عنها آليات مشتركة، هي المعنية بتنفيذ الترتيبات، ولا ينفرد بالأمر أيُّ طرف. لكن يبدو أن البرهان، وفي حربه المكتومة مع نائبه حميدتي، يحاول قصقصة أطرافه، ومحاصرة من يُتوقع أن يكونوا حلفاء له.

يبحث "حميدتي" عن حاضنة إقليمية بديلة عن الإمارات التي دعمته طويلاً، وقد اتجه صوب تركيا التي لم ترحب به. ويبدو أنه فقد حلفاءه من داخل "قوى الحرية والتغيير"، كما أنه بدأ يفقد حاضنته التقليدية من الإسلاميين بسبب انحسار الثقة به.

ولا تلوح في الأفق أيُّ إرادة سياسية لتنفيذ اتفاق السلام، الذي يتولى أمرَه العسكريون بشكل كامل، على الرغم من أن الوثيقة تركت ملف السلام لرئيس الوزراء، علاوةً على مضي السودان بسرعة صاروخية في تنفيذ سياسات صندوق النقد الدولي القاضية بخروج الدولة عن أي دعم للسلع الرئيسية، مع تهاوٍ مريع في قيمة العملة الوطنية، وسيولة أمنية، وغياب تام لنشاط القوى السياسية في مثل هذه الأوقات، وتراجع بائن لدور المدنيين في السلطة الانتقالية. إزاء ذلك يتخوف السودانيون من سيناريو الفوضى الذي إن حدث في ظل هذه الأوضاع، فسيقود إلى مآلات ليست في الحسبان.  

مقالات من السودان

للكاتب نفسه