هل مصر بلد فقير حقاً؟

.. الأمر لا يعنيكَ وليس عليكَ ان تمتلك رأياً، وأنكَ في افضل الاحوال تسمع ما يقوله المسئولون وتكتم انفاسك وتعابير وجهك، والأفضل ألا تستمع أصلاً، فما شأنك والقضايا الكبرى؟ بل وما دخلك في الشأن العام؟
2018-10-25

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
عبد الخالق فاروق

هل مصر بلد فقير حقاً؟ .. فلو أجبتَ بـ"لا" وبرهنتَ على رأيك بالادلة، لكنتَ مجرماً يستحق الاعتقال. ولو أجبت بـ"نعم" لكنتَ كذلك مجرماً يستحق الاعتقال. في الاولى أنت تخالف رئيس الجمهورية الذي قال في خطبة علنية "إحنا فقرا قوي"، كما انكَ في دفاعك عن رأيك تتناول مسائل خطيرة من قبيل كيف يدار إقتصاد مصر، وهل خيارات هذه الادارة رشيدة، وما نصيب الفساد في تكوين الحالة البائسة التي يعيش في ظلها الناس.. وهذا - علاوة على التطاول على المقامات - اسمه "اشاعة أخبار كاذبة". وفي الثانية فأنتَ تهين البلد وتقلل من مكانته وتحبط معنويات الناس..

والقصد أن الأمر لا يعنيكَ وليس عليكَ ان تمتلك رأياً، وأنكَ في أفضل الاحوال تسمع ما يقوله المسؤولون وتكتم انفاسك وتعابير وجهك، والأفضل ألا تستمع أصلاً، فما شأنك والقضايا الكبرى؟ بل وما دخلك في الشأن العام؟

هذا ما لم يفهمه الصديق والزميل عبد الخالق فاروق، الباحث والمحلل الاقتصادي الذي أصدر ما يربو عن خمسين مؤلفاً تتناول كل أوجه حياة المصريين (بما فيها "كم ينفق المصريون على الحج والعمرة"، أو "كيف نكتشف مواهب أطفالنا فى نظامنا التعليمي.. نحو استراتيجية قومية لإدارة الوقت الصيفي في النظام التعليمي المصري"!). وهو ما يضيف الى التهم الموجهة اليه حالياً تهمة الفضول التي فاتت المحققين الذين يعقدون معه جلسات مطولة منذ اعتقاله قبل أيام بسبب كتابه الأخير: "هل مصر بلد فقير حقاً". ومن جهة أخرى فالرجل لم يكن على الهامش حتى "يُظن به السوء" من قبيل أنه ثوري جداً أو "أندرغراوند" مثلاً أو ينتمي مثلاً الى التيار "الأناركي" او اللاسلطوي المعادي تعريفاً للدولة. بل هو تسلّم مناصب حكومية عديدة، منها ما كان في مكتب رئيس الوزراء في وقت ما (1982) أو في "مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية" بالأهرام، المؤسسة الرسمية جداً، أو في "الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة" وغيرها.. وأنه حاصل على جوائز الدولة التشجيعية في مناسبات شتى.

مشكلة عبد الخالق فاروق أنه مقتنع بإمكان تحسين الحال، وبأن علمه وخبرته يمكن ان يساهما في ذلك، أو وكما قيل عنه بعد اعتقاله، أن تهمته هي "الأمل". والدليل أنه قبل هذا الكتاب الأخير، أصدر مؤلفاً عنوانه "مأزق الاقتصاد المصري وكيفية الخروج منه".. من دون أن ينتبه أنه بذلك يعاكس جهود السيسي في اقناع المصريين بالتأقلم مع أوضاعهم البائسة، والقبول بها بل والرضا عنها.

حسناً، ما دخل صاحب المطبعة التي طُبع فيها الكتاب حتى يوقف ويتهم كذلك بنشر أخبار كاذبة؟ اليس أنه تلقى نصاً ومعه ترخيص من الدوائر المعنية فقام بطباعته؟ هذا تمرين ليفهم أصحاب المطابع أن الترخيص غير مهم، وأنه عليهم رفض الطباعة حين يبدو العمل ثقيل الدم، أو الوشاية به الى وزارة الداخلية.

والحق أن كتب عبد الخالق فاروق كلها خطيرة، وأنه في مؤلفه الأخير ذهب بعيداً، إذ فنّد بالارقام حجم الفساد والهدر، وتناول ما اسماه "رأسمالية المحاسيب"، ودور الخصخصة التي اعتبرها "عملية نهب إستعماري عالمي مغلّف بمنظومة فكرية جديدة"، وعالج "نهب البترول والغاز المصري" من قبل إسرائيل تحديداً. وهو لم يترك شيئاً، لا البنوك ولا العقارات ولا الأراضي والزراعة إلخ، وبذل جهداً جباراً في توفير الأرقام والأسماء، مما يمكن اعتباره فضيحة كبرى لتلك الطبقة النهّابة ولشركائها في السلطة، على فرض أن بينهما "شراكة" وليس تطابقاً في الحمض النووي.. ما يقوله عبد الخالق فاروق في رسم خرائط بيانية لشبكات القرابة والمصاهرة بين دوائر السياسة والمال!

وفي الفصل الثالث من كتابه "كيف نهبت مصر؟"، وهو بعنوان "السمكة تفسد من رأسها"، وبعكس ما قد يوحي به العنوان، فهو لا يخص السيد السيسي.. بل الحكام السابقون عليه وعلاقاتهم مع المخابرات المركزية الأميركية CIA.. ما أسماه في تتمة العنوان ذاته: "السي أى أيه تحت الوسادة". ها هو يوسع دائرة الفضيحة ويخرب علاقات مصر الدولية!

ولأنه مصاب بداء الأمل (بالإذن من محمود درويش)، فقد قرر نشر كتابه على صيغة PDF على الانترنت ليطّلع عليه كل من يرغب، مطبقاً مبدأ المشاع الفكري، غير آبه بحقوقه وبعائداته المالية. لا بد من قصاصه إذاً! فهو على كل ما سلف يخالف قوانين السوق، بل ويخرِّبها. وقد كان ثاقب الرؤية إذ جعل اعتقاله نصه الالكتروني ينتشر كالنار في الهشيم.

ما الذي سيطال عبد الخالق فاروق؟ تمديد الاعتقال 15 يوماً بعد الأخرى إلى ما شاء الله، وهو المصير الذي يعرفه زميلنا اسماعيل الاسكندراني منذ ثلاثة أعوام بالتمام والكمال؟ أم سجن العقرب الرهيب لمزيد من التأديب، وهو حال الباحث هشام جعفر؟

ولأن "الصدفة خير من ألف ميعاد"، فتوقيف عبد الخالق فاروق قد تمّ مع اقرار مجموعة قوانين متكاملة تخص النشر والإعلام الالكتروني، جرى نقاشها وتداولها لما يقرب من عام، وعرفت شداً وجذباً وجدلاً.. بلا طائل. أهمها "قانون تنظيم الصحافة والإعلام" و"قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات"، وهما يشرِّعان حجب المواقع الإلكترونية متى إرتأيا ذلك، كما يقيمان الرقابة على وسائط التواصل الاجتماعي كافة (التي تفقد بذلك صفتها تلك وطبيعتها!). يقول القانون: "ينظِّم الإعلام الإلكتروني النشاط الذى يتضمن نشر أو بث المواد أو النماذج أو الخدمات الإعلامية ذات المحتوى الإلكتروني التي يتم إنتاجها أو تطويرها أو تحديثها أو تداولها أو بثها أو نشرها والنفاذ إليها من خلال شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) أو أى شبكة اتصالات أخرى". والمرجع هو "المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام"، الذي يمنح التصاريح المطلوبة اليوم من كل ناشط على تلك الوسائط اللعينة. ومن غير الحصول عليها، فالطريق الى "العقرب" نافذ ومؤكد.

النظام المصري وصل الى درجة من الإدقاع بفعل رعب القائمين عليه من مشهد 25 يناير الذي لا يفارق خيالهم، وهو يستغل لحظة الاختلال الشديد في العالم كله كمحصلة لتطبيق السياسات والقيم النيوليبرالية التي تمخضت فأنجبت دونالد ترامب.. وهو مستعجل، عن غباء لاعتباره الحال الراهن فرصته (غير آبه او متنبه الى الانهيار الهائل في شعبيته ما بين 2013 واليوم)، أو عن هلع ورغبة في إحكام الموقف عساه لا يتفلت من بين يديه ولا ينزلق الى ما لا تحمد عقباه، أو عن طمع أعمى بالمغانم.. لذا يتصرف بهذا المقدار الفج والرث من القمع الأهوج الذي لا يترك أي هامش لاعتبارات تنفيس الاحتقان أو لسياسات الاستيعاب الناعم. ولكنه على ما يبدو جاهلٌ بتجارب من كان أعظم منه وأقدر، ومزود بايديولوجيات ودوافع "مقنِعة".. ثم، وفي نهاية المطاف، إنهار كبناء من كرتون، ودفع ثمن استغفال الناس واضطهادهم.

.. والنظام المصري الحالي سيدفع الثمن كذلك. فهي لو دامت لغيره لما وصلت إليه.. أليس كذلك؟

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...