خالدة جرار مسجونة في قبر!

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا (...) لم يتركوا لي أي مساحة للتنفس، ولا يوجد سوى فتحة صغيرة أجلس بجانبها معظم الوقت للتنفس، أنا أختنق في زنزانتي وأنتظر مرور الساعات حتى أجد ذرات من الأكسجين لأتنفس وأبقى على قيد الحياة".
2024-11-21

شارك
خالدة جرار وسط استقبال الناس لها بعد خروجها من السجن الإسرائيلي عام 2016.
إعداد وتحرير: صباح جلّول

لا يمكن فهم ما تفعله دولة الاحتلال الإسرائيلي بالأسرى والأسيرات الفلسطينيين والفلسطينيات إلا كعقابٍ جماعي جحيمي متكرر ومتجدد لفكرة مقاومتهم، حتى وهم في قيد الاعتقال. نذكر جيداً المشهد القاهِر للمناضلة الفلسطينية النسوية وأحد الوجوه البارزة في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" خالدة جرار تزور قبر ابنتها الشابة، الناشطة "سُهى جرار"، (توفيت عن 31 عاماً)، فور خروجها من السجن الإسرائيلي عام 2021، بعد عامين أمضتهما في السجن. خسرت خالدة جرار ابنتها فجأة وهي مُبعدة عنها قسراً، ولم تكن تلك الخسارة الوحيدة لها في السجن. ففي فترة اعتقال أخرى خسرت جرار والدها، وخسرت والدتها، ومثلها العديد من الأسرى الذين يرفض الاحتلال طلباتهم لتوديع أحبائهم حتى. وتلك عقوبة شيطانية يقصد بها كسر الظهر.. قالت خالدة حينها أن هذا "احتلال لا يفهم أصلاً معنى الإنسانية". لعلّ الجملة بسيطة وبديهية، نعرفها كلنا منذ ما قبل الإبادة الحالية في غزة وخلالها، لكنّ الفكرة في كلّ مرّة صادمة - فكرة أننا نتعامل مع كيانٍ عمله اليوميّ وجهده الدؤوب هو محو إنسانيتنا ونكرانها. واليوم، يعاود الاحتلال الكرّة، معاقباً خالدة.

وضعٌ مروّع.. كأنها في قبر

اليوم، تقبع خالدة جرار (62 عاماً) في السجن الإسرائيلي مجدداً، بموجب دوّامة ما يُسمّى بالاعتقال الإداري، أي دونما تهمة أو محاكمة، وذلك منذ 26 كانون الثاني/ ديسمبر 2023، عندما اعتُقلت من منزلها في رام الله. ثم تعاقَب بحبسٍ انفرادي في سجن الرملة منذ آب/ أغسطس 2024، أي منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وفي ظروف غير آدمية، بلهي "حملة قمع وتنكيل ممنهجة"، حسب "مركز حنظلة للأسرى والمحررين"، تُعرِّض حياتها للخطر المباشر.

"في قبر".. هكذا وصف "مركز حنظلة" الحقوقي زنزانة خالدة، مؤكداً أن القيادية الأسيرة تنام على الأرض قرب الباب في محاولة لتنشق بعض الهواء في الغرفة معدومة التهوئة، بينما تحدثت شقيقتها سلام الرطروط، في مقابلة مع موقع "فلسطين كرونيكل"، قائلة إن حالة اختها الصحية تدهورت بشكل خاص بعد نقلها من سجن الدامون للنساء إلى سجن الرملة في 13 آب/ أغسطس، وعزلها في ظروف مزرية، ووسط إهمال طبي متعمد. تقول سلام إن خالدة تعاني من ارتفاع ضغط الدم والسكري وضيق في شرايين الرأس، أي أنها في وضع طبي غير مستقر.

وأوضح غسان جرار، زوج خالدة، أن زوجته محتجزة في زنزانة مساحتها 2.5 متر في 1.5 متر، ولا يوجد بها سوى مقعد خرساني للنوم (لا تستخدمه خالدة وتفضل الأرض عليه) ومرحاض مفتوح بدون ستارة، كما لا يسمح لها حتى بالتريض، وهو ما أسماه "ظروف قتل وليس عزل"، سائلاً "هل يريدون قتل خالدة بهذه الطريقة؟"

أما محامية جرار، فلم يُسمح لها بزيارتها في هذا الوضع إلا بعد 3 أسابيع من عزلها، وأفادت بعد الزيارة أن الاحتلال يضع خالدة في زنزانة لا ماء فيها، حتى للمرحاض، لا شبابيك ولا فتحات تهوئة.. كما أن الطعام شحيح وغير مطبوخ، يتسبب بتفاقم مرض السكري لديها، أما العلاج الصحي فلا وجود له.

خالدة جرار تصف وضعها

في مقابلتها مع موقع "فلسطين كرونيكل"، تنقل محامية المناضلة خالدة جرار عنها وصفها لحالتها كما يلي:

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا (...) لم يتركوا لي أي مساحة للتنفس، ولا يوجد سوى فتحة صغيرة أجلس بجانبها معظم الوقت للتنفس، أنا أختنق في زنزانتي وأنتظر مرور الساعات حتى أجد ذرات من الأكسجين لأتنفس وأبقى على قيد الحياة".

بحسب محاميتها، تصف خالدة تحوّل الزنزانة إلى "فرن" بدرجة حرارة عالية بسبب إغلاق الزنزانة المحكم. وتقول "لم يكفهم عزلي في كلّ هذه الظروف"... كل هذا تعذيب قصدي يرقى حسب مراكز حقوقية عدة إلى جريمة حرب وجريمة ضدّ الإنسانية.

خالدة جرار أثناء جلسة محاكمة لها في العام 2015. (الصورة لأحمد غرابلي- AFP)

"أم الأسيرات" ومعلّمتهن

ليست خالدة جرار معروفة بين الأسيرات لأنها شخصية سياسية ذات لقب ما، ولكن لأنها لم تأل جهداً في كلّ مرة اعتقلت فيها لتنظيم شؤوون الأسيرات ومحاولة المطالبة بحقوقهنّ ومنها الحق بالتعلّم، من خلال تأسيس نظام تعليم ثانوي وجامعي للأسيرات الفلسطينيات معترف به من وزارة التربية والتعليم الفلسطينية وهيئة شؤون الأسرى. كان تواجدها بين الأسيرات كلّ مرة يؤدي دور النهوض بعزائمهنّ وإسنادهنّ عبر تيسير الكتب والمطالبة بالطبابة الكريمة لهنّ وغيرها من الحقوق، حتى كانت بعضهنّ تنادينها بـ"أم الأسيرات".

يظهر هذا الإحساس جلياً في شهادة إحدى الأسيرات المحررات (وقد شاركتها الصحفية الأسيرة المحررة لمى غوشة) حول خالدة جرار التي "حوّلت السجن إلى فضاء ينبض بالقوة والمعرفة" للأسيرات وكانت دائماً مبعث صمود وصلابة وطمأنينة لهنّ، لذلك فحبسها بالظروف الحالية القاسية يوجعهنّ أيضاً، من خرجت منهنّ من الأسر ومن بقين في زنازينهنّ.

هذه المرة الخامسة التي يسجن فيها الاحتلال الإسرائيلي خالدة جرار، هي التي أمضت ما يزيد عن ستّ سنوات كمجموع لتلك الاعتقالات، ويجدد الآن فترة اعتقالها الإداري وعزلها بدون أفق واضح، كأسلوب عقابي ينتهجه يرقى لمحاولة اغتيال، وهو ما أسماه "مركز حنظلة الحقوقي"، "سياسة الموت البطيء".


يحدث هذا مع استمرار الظروف المزرية في سائر السجون الإسرائيلية، الموثق بعضها بالصوت والصورة، من التعذيب حتى الموت والاعتداء الجنسي والشروط غير الآدمية المرعبة على الأسرى الرجال، إلى الاقتحامات المفاجئة للزنازين فجراَ والتفتيش العاري المتكرر وسلب الأغراض الشخصية من الأسيرات النساء.. نهجٌ ثابت من القتل البطيء – والمسموح به بدليل استمراره - ممن لا يعرفون معنى الإنسانية.

__________________________________

مقالات من فلسطين

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...