سوريا: "التعافي المبكر" حاجة ملحة للسوريين أم استجابة لرغبات المانحين؟

مع تتابع الانهيارات الشاملة في البلاد على كل الصعد، تصاعَد الفوران السوري في رغبة الخروج من البلاد، وهو ما قاد ــ بالمجمل ــ إلى تفكير الداعمين والمانحين في تغييرٍ استراتيجياتهم، والتحول من "إعادة الإعمار" إلى "التعافي المبكِر"، خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بحيث صار "التعافي" نهجاً مركزياً في سياسات المانحين الدوليين في تعاطيهم مع الأزمة السورية.
2024-09-12

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
عبد الكريم الوزاني - المغرب

منذ العام 2018، استقرت إلى حدٍ بعيد الجبهات العسكرية في سوريا، باستثناء بعض الخروقات غير الوازنة شمال وشمال شرق البلاد، وأحياناً جنوبها. لكن هذا الاستقرار لا يُعزى إلى انتهاء العمليات العسكرية، التي تنفذها دمشق، لاستعادة السيطرة على المناطق الخارجة عن سيطرتها، بل هو نتيجة مجموعة من السياقات الإقليمية والدولية، التي أسهمت في إطالة أمد الصراع.

تزامن هذا الاستقرار المفخَّخ مع انزياح المسألة السورية إلى الأسفل في أولويات الأطراف الدوليّة الفاعلة، بعد عشر سنوات على انطلاقة أزمتها، ووصولها إلى الاستعصاء، بعد فشل المسارات التفاوضية الكثيرة، فضلاً عن رفض متواصل من الأطراف السورية المدعومة دولياً وإقليمياً، للتحرر من أجندات هذه الارتباطات الإقليمية والدولية.

ومع تتابع الانهيارات الشاملة في البلاد على كل الصعد، تصاعَدت رغبة السوريين للخروج من البلاد، وهو ما قاد - بالمجمل - إلى تفكير الداعمين والمانحين في تغييرٍ استراتيجياتهم، والتحول من "إعادة الإعمار" إلى "التعافي المبكِر"، خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بحيث صار "التعافي" نهجاً مركزياً في سياسات المانحين الدوليين في تعاطيهم مع الأزمة السورية.

ظهور المصطلح

ظهر مصطلح "التعافي المبكِر" للمرة الأولى في قرار الأمم المتحدة رقم 636/2021، ووافق عليه "مجلس الأمن" كجزء من حل وسط أكبر بشأن المساعدات الإنسانية لسوريا. ووفق الهيئة الأممية، فإن الغالبية العظمى من السوريين يواجهون تحديات تتعلق بتلبية الحاجات الأساسية، وتظهر بيانات الأمم المتحدة أن 90 في المئة من السوريين بحاجة إلى الغذاء والمأوى، والرعاية الصحية، والمياه، والصرف الصحي.

بعد هذا التوافق الأممي، الذي جاء نتيجة لظروف معقّدة في السياق السوري والدولي، بدأ سيل جارف من الدفاع عن تصوّر "التعافي المبكِر" وضرورة تنفيذه والاهتمام به، بصفته مخرجاً محتملاً للأزمة الإنسانية السورية. وإذا كان للممول الخارجي سياسات يتصرف على هديها ويحسبها بدقة، ضمن حزمة حاجاته من هذه البقعة، ومستقبل هذه الحاجات ودورها وتأثيرها، فإن الأطراف السورية التي تستمد نسغها الناقص - أو الكامل - من تمويلات الخارج، في مختلف الجغرافيات السورية، وجدت نفسها مضطرةً (وسعيدةً) إلى قبول هذه التصورات، والدفاع عنها ببسالة، كي لا يجف مورد التمويل الأساسي لعملها، وليس لأن الواقع السوري اقتضى الانتقال إلى هذه المرحلة.

الدفاع عن "التعافي المبكِر" دولياً

مثّل "مؤتمر بروكسيل" الأخير، نيسان/ أبريل، وأيار/ مايو العام 2024، نموذجاً لتعميم نهج "التعافي المبكِر" في الجغرافيات السورية المختلفة، وإن لم يحقق المؤتمر الرقم الذي كان يطمح إليه في جانب التمويل، وهو 7 مليار يورو، فإنه بالمقابل قد حقق جانباً مهماً، هو التوافق على تحويل نهج "التعافي المبكِر" إلى عنوان ثابت، في أعمال المجتمع المدني السوري، ومعه النظام والمعارضات للسنوات التالية.

هذا التوافق لم يكن نتيجة للضغوطات السياسية أو الاقتصادية، التي بانت ضرورتها في ظل تراجع الاهتمام بالمسألة السورية دولياً، بل كان أيضاً استجابة لواقع سوري معقّد، يتطلب من جميع الأطراف التفكير في كيفية التعامل مع الأزمات الإنسانية المتزايدة، خاصة بعد زلزال السادس من شباط/ فبراير 2023، حيث اتسعت مروحة المحتاجين من كل السوريين في كل الجغرافيات، بما فيها تلك الواقعة خارج جغرافيا الدمار.

ظهر مصطلح "التعافي المبكِر" للمرة الأولى في قرار الأمم المتحدة رقم 636/2021، ووافق عليه "مجلس الأمن" كجزء من حل وسط أكبر بشأن المساعدات الإنسانية لسوريا. ووفق الهيئة الأممية، فإن الغالبية العظمى من السوريين يواجهون تحديات تتعلق بتلبية الحاجات الأساسية، وتظهر بيانات الأمم المتحدة أن 90 في المئة من السوريين بحاجة إلى الغذاء والمأوى، والرعاية الصحية، والمياه، والصرف الصحي.

هناك قلق من استخدام "التعافي المبكِر" كوسيلة لتأهيل النظام وإضفاء الشرعية عليه، في ظل غياب البدائل (أو تغييبها)، من دون معالجة القضايا الجوهرية التي أدت إلى النزاع. فهل هذه الجهود ستعزز فعلاً الاستقرار وتفتح بوابات الحلول السياسية، أم أنها ستقوِّي موقف النظام وقوى الأمر الواقع، على حساب الحلول السياسية الشاملة، التي يطمح إليها الشعب السوري بعد عقود من الخراب؟

على هذه النقطة بالذات جادل الأوروبيون بأنّ مفهوم "التعافي المبكِر" سيكون بمثابة جسر بين الاحتياجات الإنسانية العاجلة والتوجهات التنموية طويلة الأمد، من دون الالتزام بصيغة التعريف الأكثر شهرةً، أي "البدء بأعمال تنموية طويلة الأمد بعد انتهاء الصراع في البلد، من مثل إعادة بناء البنى التحتية الأساسية، واستعادة الخدمات الاجتماعية والاقتصادية، وتوفير الدعم اللازم لعودة الحياة الطبيعية إلى المجتمعات المتضررة، ودعم تعافي مؤسسات السلطات، والخدمات التعليمية والصحية، مع معالجة مفترضَة للأسباب الجذرية للصراع، وبناء أسس التنمية المستدامة بعد انتهاء الصراع" (بحسب مكتب الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).

تعرضت فكرة "التعافي" منذ طرحها أواخر العام 2021 إلى عمليات شد وجذب بين الكبار المهتمين بالكعكة السورية. فقد رفضت واشنطن فكرة الأمم المتحدة في إنشاء "صندوق للتعافي المبكِر" بسبب تضمُّن المقترح أن يكون مقر الصندوق في دمشق. وبعد هذا الاعتراض، نُقل المقر إلى عمان (الأردن)، أما الأوروبيون فقد استجابوا بسرعة للفكرة الأممية (ومصدرها أساساً الاتحاد الأوروبي)، نظراً لأنها قد تقدِّم أملاً لأوروبا في وقف تدفق اللاجئين، وذلك بحسب مسوّدة المشروع، الذي أعدَّه "مارتن غريفيث"، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، التي جرى تسريبها.

هذا الاهتمام الأوروبي، تزامَن مع تفوق "اليمين الشعبوي" في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وانتشار تيارات مناهضة للاجئين (حقق مثلاً "حزب البديل من أجل ألمانيا" أوّل فوز تاريخي لحزب يميني منذ الحرب العالمية الثانية في انتخابات ولاية تورنغن شرق ألمانيا)، مما زاد ــ وسيزيد ــ من الضغط على الحكومات الأوروبية لإيجاد حلول فعالة لأزمة اللجوء. ووفقاً لمسوّدة المشروع التي أعدَّها "غريفيث"، فإن التركيز كان على تحسين الظروف في سوريا كوسيلة للحد من الهجرة.

تظهر هذه التطورات مجدداً كيف أن الأبعاد الإنسانية تتداخل مع المصالح السياسية، حيث تسعى الدول الأوروبية إلى معالجة التحديات الناتجة عن تدفق اللاجئين، بينما تظل القضية السورية عالقة بين القوى الكبرى، التي تتنافس على النفوذ.

إلى ذلك، يظهر أنّ طرح مفهوم "التعافي المبكِر" في سوريا في هذا التوقيت، مع توقف كل المسارات السياسية منذ سنوات، يمكن قراءته وكأنه بمثابة بوابة خفية للاعتراف باستمرار النظام في دمشق، ودوره كفاعل أساسي في مستقبل البلاد، خاصة في ظل غياب أي حلول سياسية جديدة، أو تحركات فعّالة تتعلق بالقرار الأممي الأهم للأزمة السورية ( رقم 2254). هذا الأمر يعزز قلقاً متزايداً من استخدام "التعافي المبكِر" كوسيلة لتأهيل النظام وإضفاء الشرعية عليه من جديد، في ظل غياب البدائل (أو تغييبها)، من دون معالجة القضايا الجوهرية التي أدت إلى النزاع. والسؤال المطروح هنا ما إذا كانت هذه الجهود ستعزز فعلاً الاستقرار وتفتح بوابات الحلول السياسية، أم أنها ستقوي موقف النظام وقوى الأمر الواقع، على حساب الحلول السياسية الشاملة، التي يطمح إليها الشعب السوري بعد عقود من الخراب؟

الدفاع عن "التعافي المبكر" محلياً

عمل كل طرف من الأطراف السورية على تقديم مقاربة لـ "التعافي المبكِر"، يجني فيها أقصى ما يستطيع من فوائد له ولجمهوره، مع تحضير تبرير متكامِل للمرحلة الجديدة. وكان هذا طبيعياً، نظراً لاحتمال أن تكون تمويلات "التعافي المبكِر" آخر فرص التمويل الدولية، بعد أن أُشبعت "الإغاثة والأعمال الإنسانية" على مدار العقد الماضي بكل أنواع الإغاثات، التي لم يصل منها إلى السوريين المحتاجين سوى النزر اليسير بشهادات دولية، تحدثت عن فساد مقيم في آليات التوزيع وعدالته ونتائجه، التي لم تظهر على الأرض إلا في زيادة الاحتياجات والمحتاجين.

كان من المهم مثلاً لـ"منظمات المجتمع المدني السوري" ألا ينقطع التمويل الخارجي، وإلا سيتوقف عن أكثر من 90 في المئة من أعماله ونشاطاته. فعلى مدار العقد الماضي، استطاعت قلّة قليلة من هذه المنظمات (أو رغبت) في التأسيس لأنواع من الاستدامة المحلية، مكتفيةً بالاعتماد على الدعم الخارجي.

أدى التنافس الشديد بين المنظمات على الموارد المالية إلى تآكل الثقة فيما بينها، مما جعل من التعاون والتنسيق أمراً صعباً. هذا التشرذم أثّر سلباً على فعالية الجهود المبذولة، وجعل من الصعب تحقيق نتائج ملموسة، يمكن أن تُحْدِث فرقاً حقيقياً في حياة الناس.

يسعى كل طرف سوري إلى توظيف "التعافي المبكِر" بما يخدم مصالحه. وبذلك يظل، رغم كونه حاجة ملحة للسوريين، عرضة للتأثيرات السياسية والتحديات الهيكلية. وفي غياب الحلول السياسية الشاملة، قد يؤدي التركيز على "التعافي المبكِر" إلى تعزيز حالة التقسيم القائم، الاجتماعية والسياسية، كما يعزز من حالة الاستقطاب.

هذا الاعتماد المفْرِط على التمويل الدولي، جعل "منظمات المجتمع المدني السوري" المختلفة عرضة للتقلبات السياسية والاقتصادية، حيث أن أي تغيير في سياسات المانحين أو تقليص الدعم قد يؤدي إلى انهيار كامل لبرامجها. كما أن عدداً من هذه المنظمات لم تتمكن من بناء قاعدة جماهيرية مستدامة، أو تطوير علاقات قوية مع المجتمعات المحلية، وخضعت ــ إلى حد كبير ــ لتوجيهات "قوى الأمر الواقع"، مما زاد من ضعف تأثيرها. فبدلاً من العمل على تعزيز قدرات المجتمع المحلي وتمكينه، انحصر دورها في تقديم خدمات مؤقتة، من دون معالجة الجذور الحقيقية للمشكلات. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التنافس الشديد بين المنظمات على الموارد المالية قد أدى إلى تآكل الثقة في ما بينها، مما جعل من التعاون والتنسيق أمراً صعباً. هذا التشرذم أثّر سلباً على فعالية الجهود المبذولة، وجعل من الصعب تحقيق نتائج ملموسة، يمكن أن تُحْدث فرقاً حقيقياً في حياة الناس.

بالنسبة إلى النظام السوري، فإنه ومنذ العام 2014 ـ ذروة العمليات العسكرية في البلاد ـ كان قد طرح فكرة "إعادة الإعمار"، وأصرّ عليها مرات عديدة في السنوات التالية، ومهّد لها بمجموعة من القوانين، منها القانون رقم عشرة لسنة 2012 وتعديلاته، الذي يمنح السلطات المحلّية مشروعية ببناء نماذجها الخاصة وتخطيطها بالتوافق مع المساهمين في رأس المال، بعد إصدار مرسوم يقر هذه المخططات.

ولكن "إعادة الإعمار" التي طرحها النظام، لم تتمكن من الثبات بسبب الانهيارات الاقتصادية المتتابعة داخل البلاد، كما أنها لم تتحوّل إلى حقيقة عملية، بسبب ضعف البنى التحتية السورية أصلاً، وغياب الاستقرار، ثم انتشار الفساد وضعف الثقة في النظام... وهو ما جعل النظام ينتقل مع المنتقِلين إلى فكرة "التعافي المبكِر"، بموافقة ودعم روسي، رأى فيه فرصةً لدعم شرعية النظام نفسه، كمعْبر أساسي في تنفيذ مشاريع "التعافي المبكِر"، وهو هاجس حقيقي لدى النظام، أكثر من قيمة مخرجات "التعافي المبكِر" نفسه.

بُني "الاستقرار" السوري على تدافع الأحداث العالمية - مثل "جائحة كورونا"، وحرب أوكرانيا، وزلزال 2022، والحرب الصهيونية على غزة - وليس على "نتائج وخلاصات" ما بعد النزاع. وهذه كلها عوامل أدت إلى انشغال كبير للقوى الإقليمية والدولية عن الملف السوري. هذا الانشغال قد يخلق فراغاً يمكن أن تستغله الأطراف المحلية المتنازعة لإعادة إشعال النزاع، إذا تأكدت من عدم إيلاء مصالحها عين الاهتمام.

المعارضة السورية الفاشلة في كل شيء، اعترضت على أنّ حقيقة "التعافي المبكِر" تكمن في تغيير ضمني للمواقف الدولية من النظام، نحو الاعتراف بخروجه من الحرب ثابتاً وربما منتصراً. ولكن بما أنّها لا تمتلك سوى الاعتراض النظري فقد وافقت، وذهبت في "التعافي المبكر"، طالما ستكون أحد المستفيدين، بناء على عدم تغيير خرائط الصراع الحالية، وثباتها مدةً تتيح لها استمرار سلطتها، حتى الوصول إلى الحل السياسي المنشود، الذي لا يبدو ظاهراً في الأفق.

إلى ذلك، فإنّ للمعارضة مصلحة في تنفيذ مشاريع "التعافي المبكِر" في مناطقها، بالنظر إلى أنّها الأكثر تضرراً في سياق الحرب السورية، وتحتضن النسبة الكبرى من النازحين داخلياً، وفوق ذلك، هي بحاجة إلى تحقيق قبول جماهيري أكثر، بعد فشلها في بناء وحوكمة مناطقها.

في شمال شرق البلاد، حيث تسيطر "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، تمثّل مشاريع "التعافي المبكِر" فرصة مضافة إليها، لتكريس بناء مؤسسات "إدارة ذاتية" متكاملة، تتيح لها الترويج لمشروعها في "اللامركزية"، وفي تكريس نفسها كقوة أمر واقع، ذات برنامج ومشروع يلقى قبولاً دولياً. ويعمل في هذه المناطق عدد كبير من المؤسسات الدولية ذات الإمكانيات الضخمة، التي تركز أعمالها ــ بشكل رئيسي ــ على المخيمات، والمدارس، والزراعة، إضافة إلى الحوكمة، وبناء القدرات. يأتي هذا الأمر ضدّ الرغبة التركية في تدمير "قسد" ومسحها من الخارطة، بحجة التهديدات الأمنية المستمرة، ويتوافق هذا مع رغبة دمشق أيضاً، التي ترى في "قسد" تهديداً انفصالياً.

لماذا الاستقرار السوري هش؟

ما سبق، يشير إلى أنّ أطراف النزاع السوري تتعاطى مع "التعافي المبكِر"، من منطق المصلحة الذاتية لا السورية، بمعنى أنّ هذه المشاريع ـ مع الاعتراف بفوائدها المؤقتة ـ تكرِّس سلطتها على السوريين ولا تشكل أي حامل حقيقي، اقتصادي أو اجتماعي، نحو تغييرٍ في الاستعصاء السياسي المستمر، وهو ما يعني أيضاً أنّ المشاريع المنفَذة ستكون عرضةً للخراب، مع أي تغيير في خرائط الصراع.

أولاً، يجب ملاحظة أن الاستقرار السوري مؤقت وغير مستدام. فالأطراف الفاعلة في النزاع السوري، سواء كانت دولاً أو جماعات مسلحة، لا تزال لديها أجندات متباينة، لا تضع مصالح السوريين على رأس أولوياتها. هذه الأجندات تؤدي إلى عدم وجود رؤية موحدة في الاستقرار، مما يجعل الجبهات السورية قابلة للاشتعال في أية لحظة.

ثانياً، بُني "الاستقرار" السوري على تدافع الأحداث العالمية - مثل "جائحة كورونا"، وحرب أوكرانيا، وزلزال 2022، والحرب الصهيونية على غزة - وليس على "نتائج وخلاصات" ما بعد النزاع. وهذه كلها عوامل أدت إلى انشغال كبير للقوى الإقليمية والدولية عن الملف السوري. هذا الانشغال قد يخلق فراغاً يمكن أن تستغله الأطراف المحلية المتنازعة لإعادة إشعال النزاع، إذا تأكدت من عدم إيلاء مصالحها عين الاهتمام. ظهر هذا الأمر بوضوح، في محاولة تركيا المزعومة فتح معبر "أبو الزندين" شمال حلب، الأمر الذي عارضته الجماعات المسلحة هناك، أقلّه في الظاهر من الأمر.

ثالثاً، تُحكم الجغرافيات السورية من قبل قوى أمر واقع، ترتبط بعلاقات اقتصادية مع مناطق مجاورة لها. ولكن هذه العلاقات خاضعة لمنطق الاستفادة المتبادَلة، والفساد، والتحكم الإقليمي والدولي، وليست مبنية على أسس المشاركة. إن غياب المؤسسات الضابطة لهذه العلاقات، والشفافية، أدى إلى تفشي الفساد والمحسوبية، مما أثر سلباً على قدرة المجتمعات السورية على استعادة بناء علاقات الثقة والتعاون. ويعكس الواقع الحالي ضعف هذه المجتمعات، حيث تهيمن القوى العسكرية والسياسية على قرارها المجتمعي، مما يعيق أية جهود نحو الطموح في بناء دولة مؤسسات، تضمن الاستقرار والتنمية المستدامة (مثالها: إلغاء الألعاب البارأولمبية في إدلب مؤخراً).

رابعاً، إنّ هذا النهج التوافقي أو المرغوب خارجياً، لم ولن يخلُو من التحديات. فبينما تسعى "منظمات المجتمع المدني" في الجغرافيات السورية المختلفة، إلى تحقيق أهداف مختلفة، من خلال استراتيجيات "التعافي المبكِر" المطروحة للتنفيذ غالباً من دون نقاش، أو بنقاش سريع وعاجل، يواجه عقبات تتعلق بالفساد والرقابة المفقودة، مما قد يعيق فعالية البرامج والمشاريع، حيث تظل المخاوف قائمة بشأن كيفية توزيع الموارد، وعدالة التوزيع، ودراسة الاحتياج من منظور طويل الأمد، فيمكن أن يؤدي ذلك الى عدم التوازن في التمويل، وإلى تفاقم الفجوات التنموية الموجودة أصلاً بين المناطق المختلفة في سوريا.

خامساً، أيضاً في السياق نفسه: يبقى السؤال مطروحاً حول مدى استدامة هذا النموذج وفعاليته على المدى المنظور. هل سيكون "التعافي المبكِر" مجرد حل مؤقت، أم أنه سيفتح آفاقًا جديدة لإعادة بناء المجتمعات السورية بشكل فعّال؟ إن الإجابة عن هذا السؤال، تعتمد بشكل كبير على الوصول إلى تسويات وتوافقات، ولو بحدود دنيا، عبر قدرة المجتمع المدني، والنظام، وقوى الأمر الواقع، على تجاوز السدود التي تفصل بينهم. ولكن دون هذا حسابات كثيرة، تحتاج إلى تدقيق وتحقيق.

محدودية أثر "التعافي المبكر" على المجتمعات السورية

يُمكن أن يُسهم "التعافي المبكِر"، في تحسين الوصول إلى الخدمات الأساسية، مثل التعليم، والرعاية الصحية، وخدمات أخرى ضرورية، مما يُعزز من جودة الحياة بشكل عام، وبالتالي يقلل من التوترات الاجتماعية والاقتصادية. ولكن هل يؤدي هذا، على فرض شموله كل البيئات السورية، إلى تخفيف معدلات الهجرة خارج البلاد، أو جعل السوريين خارج بلادهم يطمحون الى العودة الطوعية إلى البلاد؟

وفقاً لتقارير الأمم المتحدة للعام 2023 فإن حوالي 60 في المئة من السوريين، يفتقرون إلى الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية. وفي الوقت نفسه، فإنّ أكثر من 6.7 مليون سوري لا يزالون نازحين داخل البلاد، بينما فرّ حوالي 5.6 مليون آخرين إلى الخارج، وقسم كبير منهم لا يرغب في العودة إلى البلاد.

تستمر، على الصعيد السياسي، حالة عدم الاستقرار والافتقار إلى الحريات الأساسية في دفع الناس إلى البحث عن ملاذات آمنة. ويصح هذا الكلام على مختلف سلطات الأمر الواقع السورية بدرجات مختلفة، أولها بحسب "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، مناطق سيطرة دمشق، حيث تستمر حملات الاعتقال والاختفاء القسري، حتى لأولئك العائدين من خارج البلاد.

يمكن تقسيم العوامل المانعة لرغبة هؤلاء النازحين في العودة، والدافعة للسوريين المقيمين في البلاد إلى الهجرة، إلى العوامل الرئيسية الآتية:

أولاً: تحتل الظروف الاقتصادية المرتبة الأولى بين العوامل الدافعة للسوريين إلى الهجرة أو العودة. وفقاً لتقرير "البنك الدولي" للعام 2023 وغيره، يُقدّر أن 90 في المئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، في وقت ارتفعت فيه معدلات البطالة إلى 20 في المئة وفق تصريحات حكومية، ولكنها واقعياً فوق ذلك بكثير. كما أن التضخم المفرِط الذي شهدته البلاد، والذي بلغ حوالي 300 في المئة في العام 2024، أدى إلى تآكل القدرة الشرائية للسكان، وزيادة تكلفة الحياة اليومية.

ثانياً: على الصعيد السياسي، تستمر حالة عدم الاستقرار والافتقار إلى الحريات الأساسية في دفع الناس إلى البحث عن ملاذات آمنة. ويصح هذا الكلام على مختلف سلطات الأمر الواقع السورية بدرجات مختلفة، أولها بحسب "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، مناطق سيطرة دمشق، حيث تستمر حملات الاعتقال والاختفاء القسري، حتى لأولئك العائدين من خارج البلاد.

ثالثاً: بالتكامل مع العوامل السابقة، فإن "التعافي المبكِر" في المجتمعات السورية الضعيفة، قد يُعزز من قدرتها على المشاركة في عملية التعافي والصمود، ولكنه لن يحقق تحريكاً حقيقياً لعجلة الإنتاج، ولا زيادة معتبِرة في فرص العمل قياساً بالاحتياجات المطلوبة، خاصة أنّ المشاريع المطروحة ليست من نوعيات تستدعي عمالةً كبيرة. ويظهر هذا جلياً في بند رئيسي، هو تأمين طاقة كهربائية للمراكز الإنتاجية والزراعية والصناعية وغيرها، وترك الموضوع بعهدة أصحاب هذه المشاريع، من دون أي دعم إلا في ما ندر، وضمن علاقات الوساطة والفساد.

يُمكن أن يُسهم "التعافي المبكِر"، في تحسين الوصول إلى الخدمات الأساسية، مثل التعليم، والرعاية الصحية، وخدمات أخرى ضرورية، مما يُعزز من جودة الحياة بشكل عام، وبالتالي يقلل من التوترات الاجتماعية والاقتصادية. ولكن هل يؤدي هذا، على فرض شموله كل البيئات السورية، إلى تخفيف معدلات الهجرة خارج البلاد، أو جعل السوريين خارج بلادهم يطمحون بالعودة الطوعية إلى البلاد؟

رابعاً: من أهداف طرح "التعافي المبكِر" التعاون بين الأطراف السورية: النظام والمعارضة والمجتمع المدني، مما يُسهم في بناء الثقة بين هذه الأطراف. ولكن تجارب السنوات الماضية، أثبتت أن ذلك صعب في ظل رفض كل طرف الاعتراف للأطراف الأخرى بحقها في الوجود، وتطلّع كل منها إلى تكريس الوضع الراهن والسلطات القائمة لها في مجتمعاتها، مما يُعزز من شرعيتها ويُكرّس الوضع القائم من دون تحقيق تغييرات جذرية، وبالتالي يتحوّل "التعافي المبكِر" إلى نوع من إشغال الناس، عن المطالب السياسية الأساسية لهم.

خامساً: وفي ظل غياب خرائط تنموية متكاملة بين الجغرافيات السورية، يتم وضعها بالتشارك بين القوى المدنية والسياسية، فإنّ احتمال حدوث توزيع غير عادل للموارد، أمر وارد، وسيكون هناك تنافس وضغوط بين قوى الأمر الواقع من أجل الحصول على النصيب الأكبر منها، خاصة في ظل استخدام المفهوم نفسه كساحة للتنازلات والضغوط السياسية. وقد ينتج التوزيع غير العادل للموارد تعميقاً جديداً للتفاوت التنموي بين المناطق المختلفة، مما يعمّق من جديد الاستقطاب السياسي والاجتماعي.

خلاصات

يسعى كل طرف سوري إلى توظيف "التعافي المبكِر" بما يخدم مصالحه. وبذلك يظل، رغم كونه حاجة ملحة للسوريين، عرضة للتأثيرات السياسية والتحديات الهيكلية. وفي غياب الحلول السياسية الشاملة، قد يؤدي التركيز على "التعافي المبكِر" إلى تعزيز حالة التقسيم القائم، الاجتماعية والسياسية، كما يعزز من حالة الاستقطاب.

هذا الأمر يهدد بإدامة الوضع السيء، الذي يعاني منه السوريون جميعاً، فقد تُستخدم المساعدات كأداة لتكريس السلطات القائمة (وهو ما شهدناه بوضوح خلال نكبة زلزال السادس من شباط/ فبراير 2023)، بدلاً من أن تكون وسيلة لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة.

علاوة على ذلك، إن التعامل مع "التعافي المبكِر" كاستجابة لرغبات المانحين، بدلاً من كونه استجابة حقيقية لاحتياجات السوريين، قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات الإنسانية بدلاً من حلها. ويجب أن يُنظر إليه كفرصة حقيقية لإعادة بناء المجتمع السوري، وليس وسيلة لتكريس الوضع الراهن.

مقالات من سوريا

خرائط التنمية المفقودة في الساحل السوري

كمال شاهين 2024-04-30

حضور السلطة المركزية في المشاريع الأصغر، المحصورة في خدمة أهالي الإقليم، يقرّ مركزياً، بعد اقتراح مجالس المدن والبلدات المعيّن أغلب أعضائها من السلطة المركزية، عبر "قوائم الجبهة الوطنية التقدمية" اﻹجبارية...

للكاتب نفسه

خرائط التنمية المفقودة في الساحل السوري

كمال شاهين 2024-04-30

حضور السلطة المركزية في المشاريع الأصغر، المحصورة في خدمة أهالي الإقليم، يقرّ مركزياً، بعد اقتراح مجالس المدن والبلدات المعيّن أغلب أعضائها من السلطة المركزية، عبر "قوائم الجبهة الوطنية التقدمية" اﻹجبارية...