المساعدات الإنسانية في سوريا أداة ضغط جديدة بيد النظام

عن منظومة "المساعدات الانسانية" التي توزع في سوريا منذ عشر سنوات، ما بين الفساد والزبائنية والتحكم المتشفي بحقوق الناس.. ما يجعل حلقات الاضطهاد والقسوة تكتمل، مترافقة بالضرورة مع فساد يجعل حتى العناوين الجميلة، كـ"المساعدات الإنسانية"، ملوثةً ومنتهَكة.
2020-10-20

آيلا جمال

كاتبة صحافية من سوريا


شارك
إنسان، عمل فني للخطاط العراقي حسن المسعود.

فقدَ السوريون عندما خرجوا من منازلهم ومدنهم هرباً من الاقتتال والقصف كلّ ما يملكون، وكان عليهم إعادة بناءٍ شبه مستحيلة لحياتهم. ومن شقة لائقة انتقلوا إلى خيام ومخيمات تفتقد أي شكل للحياة، وخسروا كلّ ما عملوا عليه طوال حياتهم، منازلهم والأثاث الذي اختاروه بعناية، ورتبوه بالطريقة التي تناسبهم، منتقلين إلى مدن جديدة في الداخل والخارج لا يملكون فيها عملاً، ولا منزلاً ولا رصيداً. عندها عرف السوريون ما يُدعى بالمساعدات الإنسانية أو المعونات، احتياجات يومية تبدأ بالطعام، ولوازم الخيام، والقروض الصغيرة، والدورات المهنية والدعم النفسي. انقذت هذه المعونات الكثير من العائلات من الجوع حرفياً، واستثمرها آخرون في مشاريع شخصية. للسوريين حكاية عمرها عشر سنوات مع المساعدات الإنسانية.

عن المنظمات الإنسانية وعملها

توفر هيئات من الأمم المتحدة المساعدات الإنسانية بكافة أشكالها في سوريا، إلى جانب الصليب الأحمر الدولي، والاتحاد الأوروبي. كما قدمت دولٌ مثل الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، النرويج، إيران، تركيا وروسيا.. هي الأخرى مساعدات ذات طابع انساني.

بطبيعة الحال انصبَّ الاهتمام في بداية الأزمة على تأمين أماكن آمنة للنازحين، ورفدهم بالاحتياجات الأساسية والغذاء والدعم النفسي، ليتحول شيئاً فشيئاً، ومع توقف أغلب المعارك، إلى التركيز على تنمية سبل العيش، ودعم العائلات المتضررة بمشاريع صغيرة، كما العمل على الدعم النفسي للعائلات والأطفال.

توفر هيئات من الأمم المتحدة المساعدات الإنسانية بكافة أشكالها في سوريا، إلى جانب الصليب الأحمر الدولي، والاتحاد الأوروبي. كما قدمت مثل هذه المساعدات دولٌ كالولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، النرويج، إيران، تركيا وروسيا..

في كل مكان في سوريا هناك أثر للمساعدات. تستطيع معرفة ما عاناه هذا البلد من طريقة انتشار المعونات على البسطات للبيع، ومن الشوادر الموضوعة على سيارات مفتوحة من الخلف ("السوزوكي")، من حقائب التلاميذ بألوانها المميزة الأزرق والأحمر على ظهور أطفالها. في سوريا تستطيع إدراك شكل المساعدات سريعاً، على الأسطح حيث ترفرف بقايا الشوادر التي كان يجب أن تكون خياماً في مكان ما من هذا العالم.

خريطة المساعدات

عرف السوريون أن من حقهم الحصول على مساعدات مجانية لكونهم سوريين وحسب، أو لأن لديهم قصص نزوح تؤكدها بعض الأوراق الثبوتية التي تدل على المكان الذي غادروه، أو حتى بسبب إعاقة في العائلة، أو عطب جسدي سببته الحرب. أكثر المساعدات انتشاراً هي الطعام بطبيعة الحال، علب كرتونية مختومة بإشارة الهلال الأحمر السوري، الصليب الأحمر الدولي أو الأمم المتحدة، تحوي داخلها طعاماً كالبقوليات والأرز والبرغل وأساسيات أخرى كالزيت والسمنة ومعجون البندورة، يكاد كلّ منزل سوري أن يحصلَ ولو مرة واحدة على هذه "الكرتونة". هكذا باتت الكثير من طبخات السوريين تتشابه لأن الكراتين متشابهة. في مرحلة ما، باعت الكثير من العائلات مستحقاتها، أو جزءاً منها بسعر أقل من السوق، فقد بات لديها الكثير من العدس أو الحمص، وبعد استلام المعونات مباشرة من أمام المراكز المختصة، كان تجار أو باعة ينتظرون. هكذا تحولت هذه المعونات إلى مصدر رزق ماديّ كذلك.

في كل مكان في سوريا هناك أثر للمساعدات. تستطيع معرفة ما عاناه هذا البلد من طريقة انتشار المعونات على البسطات للبيع، ومن الشوادر الموضوعة على سيارات مفتوحة من الخلف ("السوزوكي")، من حقائب التلاميذ بألوانها المميزة الأزرق والأحمر على ظهور أطفالها.

تقوم بعض المبادرات المحلية على نشر الاحتياج على فيسبوك مرفقاً بصور تثبته، ما يمكن أن يؤدي الى التبرع للمحتاج. وتظهر من وقت لآخر مبادرات فردية أو جماعية من اللاجئين السوريين في الدول الأوروبية، كتأسيس مجموعات من 10 أشخاص يقدم كلّ شخص 10 يورو، وتتكفل كل مجموعة بعائلة سورية في الداخل.

كما انتشر نوع خاص من البسطات يبيع المعونات تحديداً. وحين توجهنا إلى إحداها، على الرغم من أن التمويل راح يصبح أقل شيئاً فشيئاً للعديد من المنظمات، إلّا أن صاحب هذه البسطة لديه كلّ أنواع المعونات الجاهزة للبيع، بدءاً من الأرز وصولاً إلى زبدة الفستق المدعمة غذائياً. وحين سألناه هل الزبدة طازجة أم باتت قديمة جداً؟ رد بثقة: "البارحة فقط وصلتنا البضاعة"، من الغريب أن يحصل هذا البائع على بضاعة جديدة، بينما لا تحصل الكثير من العائلات المحتاجة على أية معونات، حيث تتكدس أكوام المعلبات والزيت ومعجون البندورة التي كُتِبَ على أغلبها "غير مخصصة للبيع".

لم تكن المساعدات للبشر وحسب، فقد واظبت الجارات على منح السيدة منال ما يزيد لديهن من بقوليات، أو تلك التي يكتشفن أنها فسدت وعاث الدود فيها. تقدم السيدة منال هذه البقوليات لدجاجاتها بعد نقعها ليوم كامل في الماء، هكذا استطاعت على مدى سنوات الحفاظ على الأمن الغذائي لدجاجاتها في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار الأعلاف. تسخر السيدة منال مما يحدث قائلة: "حتى دجاجاتي يحصلن على مساعدات إنسانية".

كما قامت المنظمات الدولية والمحلية بدعم الناس لتأسيس مشاريعهم الصغيرة. تقوم هذه المشاريع الصغيرة على تأهيل أصحابها، وتزويدهم بالخبرة المطلوبة والمتابعة الدائمة، كما دعمت النساء بشكل أساسي، خاصة اللواتي فقدن أزواجهن في الحرب ونزحن إلى مدن أخرى، فاتبعن دورات مجانية في مجالات مهنية متعددة كالخياطة والتجميل وصناعة مواد التنظيف، واتجهن لاحقاً لفتح أعمالهن الصغيرة الخاصة. وعلى الرغم من قسوة الواقع إلا أن هذه الأعمال باتت تشكل جزءاً من هوية السوريين، كما فرضت حضوراً أكبر للنساء في سوق العمل، لتغدو هذه الدورات والمساعدات شكلاً من أشكال تبدّل ملامح المجتمع السوري، ودعم تغيير الأدوار بشكل طبيعي دون الشعور بغرابة ذلك، فلم يعد مستهجناً أن تجد نساءً يقمن بأعمال كانت حكراً على الرجال فقط.

السوريون يساعدون بعضهم

لم تكن المنظمات الإنسانية هي الخيار الوحيد. ففي ظل الانهيار الاقتصادي المرعب باتت تظهر هنا وهناك أصوات لأشخاص يقدمون مساعدات مادية أو عينية، وتقوم بعض هذه المبادرات على نشر الاحتياج على الفيسبوك مرفقاً بصور تثبته (تقارير طبية، صور للجسد المنهك، آجار البيت، صور للمنزل المتهالك). وحسب ثقة الناس بصاحب الصفحة الشخصية، تنهال المساعدات أو العكس. تشكل هذه المساعدات جزءاً مهماً من تأمين حاجة الناس الأكثر فقراً، لكنها تعكس في الوقت نفسه واقعاً هشّاً، حيث يعتمد الشعب السوري على بعضه البعض، ويتكل على مساعدات قد لا تتجاوز عشرة آلاف ليرة سورية يقدمها أشخاص ربما لا يكون وضعهم أفضل حالاً ممن يساعدونهم. هكذا تتم مساعدة الأهالي في تأمين احتياجات أبنائهم لدخول المدرسة، مساعدة مشردين، تسليط الضوء عليهم لتتدخل وزارة الشؤون الاجتماعية، تأمين عمليات ذات تكلفة عالية، وقد وصلت المساعدات في بعض العمليات إلى 20 مليون ليرة سورية.

من جهة أخرى، تظهر من وقت لآخر مبادرات فردية أو جماعية من اللاجئين السوريين في الدول الأوروبية، كان آخرها مبادرة تقوم على تأسيس مجموعات من 10 أشخاص يقدم كلّ شخص 10 يورو، وتتكفل كل مجموعة بعائلة سورية في الداخل. قد تكون فعالية هكذا مبادرات ضعيفة، إلا أنها تؤثر على حياة عائلات بشكل كامل. فمئة يورو تساوي حسب المصرف المركزي حوالي 130 ألف ليرة سورية، وهو رقم جيد مقارنة برواتب الموظفين التي لا تتعدى في أحسن الأحوال 50 ألف ليرة سورية.

تحكّم النظام السوري بالمساعدات

لا ينفصل هذا الجانب الإنسانيّ، ومحاولة إيصال المساعدات لمستحقيها عن التوجهات السياسية للنظام السوري. فمنذ بداية تشكل هذه المبادرات، فرضت السلطة قيوداً عليها ولعل أهمها هو إجبار المنظمات الإنسانية على الشراكة مع جهات محلية، هكذا تضمن السلطة وصولها إلى بيانات هذه المنظمات، والضغط بطرق غير مباشرة لإيصال المستحقات إلى مستفيدين دون غيرهم، وتشكيل أداة ضغط إضافية على المعارضين في الداخل. كما يتوجب على هذه المنظمات تقديم مشاريعها إلى الحكومة السورية التي توافق عليها أو لا توافق. وبطبيعة الحال تصل هذه المشاريع إلى أفرع الأمن والمخابرات، ولا يبدو من المتوقع أن توافق الجهات التي عذبت وشردت الشعب السوري على مشاريع إنسانية، وهذا مثال يوضح مدى قدرة السلطة في سوريا على التحكم بأدق تفاصيل حياة المجتمع والتضييق عليه.

المساعدات الإنسانية مهددة دوماً بالوقوع بين أيدي فاعلين لمصلحة النظام السوري، يستطيعون التصرف بها على نحو مخالف للاحتياجات الإنسانية. فبالإضافة إلى قيام عدد من كبار الضباط والمسؤولين الأمنيين بوضع أيديهم عليها. تضع العديد من نقاط التفتيش يدها على جزء من هذه المساعدات.

تعتمد منظمة الهلال الأحمر السوري على الموزعين الذين يختارهم النظام، وهم في الغالب من أفراد حزب البعث، أو من أعضاء الفرق الحزبية المنتشرة في جميع القرى والنواحي. وهؤلاء على إطلاع دقيق على هوية المعارضين وهم من يقدمون قوائم الناس الأشد عوزاً، ويتمكنون من منع وصول المساعدات لمستحقيها بحجة عدم استحقاقهم لها.

من جهة أخرى، لم تملك معظم الجهات الإنسانية حق الوصول إلى المعتقلات ومراكز الاحتجاز الرسمية كما حدث مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر. بالإضافة إلى هذا، فإن القيود على حركة العاملين الأجانب فيها، أو منع حصولهم على تأشيرات، وضرورة موافقة الجهات الرسمية السورية على جميع تحركاتهم، يعرقل الوصول إلى العديد من الأشخاص الذين يُعتبرون في وضع إنساني حرج، كما حصل في الغوطة الشرقية حين تمّ حصارها من قبل السلطة القائمة بداية عام 2013، وهو حصار استمر نحو خمس سنوات.

وتغدو السلطة أكثر صرامة حين يتعلق الأمر بمتابعة الانتهاكات التي حصلت خلال النزاعات المسلحة، ومحاولة الوصول إلى السجون السورية من قبل منظمات ومؤسسات دولية.

مقالات ذات صلة

من جهة أخرى فالمساعدات الإنسانية مهددة دوماً بالوقوع بين أيدي فاعلين لمصلحة النظام السوري، يستطيعون التصرف بها على نحو مخالف للاحتياجات الإنسانية، بالإضافة إلى قيام عدد من كبار الضباط والمسؤولين الأمنيين بوضع أيديهم عليها. وبسبب استشراء الفساد في جميع الطبقات، تُباع هذه المواد في حلقات إلى أن تعود إلى المستفيد الذي يشتريها، بعدما كان من حقه الحصول عليها مجاناً، ناهيك عن وضع العديد من نقاط التفتيش يدها على جزء من هذه المساعدات.

يشتكي العديد من المستفيدين من عدم حصولهم مثلاً على مخصصاتهم من منظمة الهلال الأحمر العربي السوري، والذي تدور حوله تساؤلات لجهة نزاهة عمله. وعلى الرغم من إنكار موظفي الهلال لكلّ ما يشاع عنهم، إلا أن هناك مشكلة تحدث في حلقات الوصل، فمثلاً تعتمد منظمة الهلال الأحمر السوري على الموزعين الذين يختارهم النظام، وهم في الغالب من أفراد حزب البعث، أو من أعضاء الفرق الحزبية المنتشرة في جميع القرى والنواحي. هؤلاء على إطلاع دقيق على هوية المعارضين في الحلقات الضيقة كالقرى والنواحي، وهم من يقدمون قوائم الناس الأشد عوزاً، ويتمكنون من منع وصول المساعدات لمستحقيها بحجة عدم استحقاقهم لها.

هكذا تكتمل حلقات الاضطهاد والقسوة، مترافقة بالضرورة مع فساد يجعل حتى العناوين الجميلة، كـ"المساعدات الإنسانية"، ملوثةً ومنتهَكة.

مقالات من سوريا