... فهل كان ثورة؟ السؤال يتكرر كثيراً وهو ليس "جدلاً حول جنس الملائكة"، أي ثرثرة لا وظيفة لها ولا طائل من ورائها، بل يتعلق بضرورة الإحاطة بكل عناصر هذا الحدث الهائل وبموقعه وتبعاته. ولن ينتقص من أهميته أو من معناه لو قيل أنه لم يكن ثورة إن كان تعريف هذه الاخيرة هو قلب سلطة الدولة. ما لا يمنع أن "يناير" ذاك طرح مسألة السلطة بقوة، بدليل الهجوم الشامل على مراكز "الداخلية" وتدميرها أو حرقها بعد الاستيلاء على وثائقها. واستهداف تلك المراكز والمقرات بهذا القدر من التصميم لم يحدث لكونها مجرد رمزٍ للقمع، بل لأنها كانت عصب السلطة كما هي قائمة وممارسة.
لكن يناير يتجاوز هذا الجانب نفسه على أهميته. فسياقه أثار كل المسائل الجوهرية: الحق في الحيّز العام مثلاً الذي أحال ميدان التحرير بيتاً لمئات ألوف الناس شديدي التنوع على كل الصعد، تعايشوا فيه ليلا نهاراً، واختلطوا وتعارفوا وتجادلوا.. وصار مكاناً شهد ولادة أنماط من العلاقات المتسامية، ومن التعاضد، ومن الفرح، وكثير من الفن.. ومِن تحرر الأرواح كما الأجساد من الضيق الذي كانت فيه.
وعلى قدر الزخم ذاك جاء الرد، ما بين تحايل متعدد الوجوه وقمع شديد. بل وفي السنوات التي تلت تلك اللحظة، برز أيضاً استشراس القوى الحاكمة والمهيمنة في الإسراع بتصفية ما كان تبقى من منجزات سالفة، هي أصلاً حقٌ للناس: التعليم والطبابة المجانيان مثلاً، المخططات الانتاجية الزراعية والصناعية التي كان يُؤمَل منها توفير اكتفاء ذاتي، المواد الغذائية والخدمية الأساسية مدعومة الثمن، وما سمي "تحرير" العملة الوطنية، وأشكال متنوعة من المشاريع الخرافية ومن المضاربات والفساد منفلت العقال.. ووصل الأمر الى حد بيع أراضٍ مصرية ليس فحسب طمعاً بثمنها بل ولأسباب استراتيجية تدخل في ملف التواطؤ مع إسرائيل!
... ولعل واحدة من أهم خلاصات يناير هو توازي الأمل الهائل بالتغيير في معسكر المنتفضين مع الخوف الشرس منه لدى من كانوا يتحسسون رؤوسهم. هي لحظة تاريخية شديدة الكثافة تُكوِّن مفصلاً سيبقى بوصفه كذلك، بغض النظر عن نتائجه المباشرة: عن المنجز الممكن، وعن الثمن المدفوع، وعن مكامن القصور والنواقص أو العيوب، وعما جرى تفويته..
اقرأ أيضاً: كيف ثبّت السيسي أركان حكمه بوجه حلفائه وأعدائه؟
فهنيئاً لمن عاشها عن قرب، من داخلها، وهم مئات ألوف الشباب والشابات الذين مسَّتهم "السياسة" بمعناها النبيل، فاستعادوا حقهم بالكلام وبالتعبير عن آرائهم وعن أحلامهم وعما يريدون، وهم يعرفونه تماماً: قالوا "عيش وحرية وعدالة اجتماعية".. أنتج يناير ألف ضعف ما تنتجه الأيام العادية من إبداعات في كل مجال، ومحفزات، واستعادة لروح المبادرة. وهي كلها ووجهت من قبل قوى الثورة المضادة بالتسخيف وبالسحق.. ولكن ما اكتسب لن يُمحى وما كان لن يعود. لقد افتُضح الأمر، وهذا تحديداً هو السبب الذي يجعل الحكم الحالي يبدو كاريكاتورياً هشاً رغم أنيابه. فهاكم مثلاً كيفية إدارة السلطة للانتخابات الرئاسية المقبلة، حيث يريد السيسي ان يكون مرشحاً أوحداً استحضاراً لصورة "الزعيم" المجمع عليه (وليس فحسب للديكتاتور)، ولكنه يضطر الى مواجهة من يجرؤ على الترشح بوجهه بقمع مكشوف: شفيق وعنان كضابطين كبيرين يمكن أن يمثلا "بدائل"، الضابط الشاب أحمد قنصوة، وحتى المحامي خالد علي الذي لا يمثل تهديداً لحظوظه في ولاية ثانية. تحضر في هذا المثال المدهش وقائع هي نتاج صافٍ لـ"يناير".
والمعركة ما زالت مستمرة ويمكن أن ينفجر لهيبها في أي وقت.. فتحية لماهينور المصري وعلاء عبد الفتاح وكل رفاقهما، ولمحمد شوكان وسناء سيف وآلاف سواهما ممن ما زالوا في المعتقل أو مروا به. وتحية للباحثين الجديين الذين كشفوا ما يجري، زميلنا في "السفير العربي" وصديقنا، إسماعيل الاسكندراني الذي ما زال موقوفاً إدارياً منذ أكثر من عامين، وهشام جعفر الذي يحتضر في سجن العقرب الرهيب.. تحية لهؤلاء الذين قضوا بالرصاص أو تحت التعذيب، كما لهؤلاء الذين تعبوا وجفلوا وقد هالهم ما رأووا وعاشوا، ولهؤلاء الذين ما زالوا مصرين على تلمس الطريق.