خلف سجون الذكورية: نضالات في مناهضة التحرش الجنسي

أصبح التحرش وسيلة ضغط وقمع مجتمعية وسياسية. وحتى العام 2005، لم يكن قد عُرِّف كمشكلة "جندرية" تواجهها المصريات، إلا أنّ تعرض ناشطات سياسيات وصحافيات للتحرش الجنسي على يد مجموعات منظمة من المأجورين، في ما عرف بـ"الأربعاء الأسود"، شكّل منحنى مفصليّاً في بلورة المفهوم وترديده داخل الأوساط الحقوقية، وكان نقطة بداية حراك نسوي ممتد حتى الآن.
2022-07-11

رباب عزام

صحافية من مصر


شارك
| en
اني كوركجيان - لبنان

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

ليس التحرش الجنسي بالنساء (1) - الذي يعد من أبرز أشكال العنف "المبرَّر مجتمعياً" - حديث الظهور في مصر. فقد بدأ الحديث عنه منذ أربعينات القرن الماضي مع تكرار حالات التحرش الجماعي بالنساء لفظياً، ثم تطورها إلى الاعتداء الجسدي في مطلع السبعينات الفائتة. وتسارع المنحنى تصاعدياً حتى أصبح التحرش وسيلة ضغط وقمع مجتمعية وسياسية. وعلى الرغم من الاعتراف بضرورة التعامل معه بحسم، إلا أنّ الحوار المجتمعي والرسمي معاً غالباً ما تجاهل مناقشته كجريمة، وتعمّد التحول باتجاه قضايا أخرى مثل التمكين الإداري والاقتصادي للمرأة، وكان في ذلك نوعٌ من التحايل على المشكل بإظهار قضايا المرأة من منظور تنموي واقتصادي فقط.

وحتى العام 2005، لم تكن المنظمات والمؤسسات المعنية بحقوق المرأة قد عرّفت "التحرش الجنسي" كمشكلة جندرية تواجهها المصريات. إلا أنّ تعرض ناشطات سياسيات وصحافيات للتحرش الجنسي في ما عرف بـ "الأربعاء الأسود"، شكّل منحنى مفصليّاً في بلورة المفهوم وترديده داخل الأوساط الحقوقية، وكان نقطة بداية حراك نسوي ممتد حتى الآن. وقد ظهرت حركات ومبادرات متتالية تقودها في الغالب نساء لمناهضة التحرش والعنف ضد المرأة، وحققت انتصارات على المستويين الشعبي والتشريعي الرسمي.

القانون.. انتصار في حرب طويلة

في تشرين الأول/أكتوبر 2008، حُكم لصالح المخرجة نهى رشدي في أول "قضية تحرش جنسي" تُنظر أمام المحاكم المصرية، بحبس المتحرش ثلاث سنوات. وشكّل الحكم أول اعتراف رسمي بالتحرش كجريمة، كما أثار جدلاً مجتمعياً واهتماماً إعلامياً واسعاً.

وفي العام 2011 درست السلطات تعديل وإضافة تسع مواد جديدة لقانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937، لوجود قصور قانوني وقتئذ في استيعاب هذه الجريمة، ونوقش تشديد العقوبات الواردة في المواد (267، 268، 269، 269 مُكرر، 288، 289، 306 مكرر أ) منه، وإضافة مادة جديدة برقم (290 مكرر) تنص على عدم جواز تطبيق المادة 17 من قانون العقوبات. تلا ذلك، منذ ثورة كانون الثاني/يناير 2011، ظهور حملات تطوعية عملت على توثيق حالات العنف والتحرش الجنسي والإبلاغ عنها، وتقديم الدعم للضحايا. وأسفرت تلك الحملات عن إصدار القانون رقم 50 لسنة 2014، حيث وردت فيه كلمة "تحرش" للمرة الأولى، وهو ما يعد التطور التشريعي الأكثر أهمية في تاريخ الحركة المناهضة للتحرش والعنف ضد النساء. ووفق التعديلات، فإنّ "التعرض للغير في مكان عام أو خاص أو مطروق أو وسيلة اتصال بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية" يعتبر جريمة. و ينص التعديل على أنه إذا ارتُكبت الجرائم السابقة "بقصد حصول الجاني من المجني عليه على منفعة ذات طبيعة جنسية، فإن هذه الجريمة تعد تحرشاً جنسياً ويعاقَب الجاني بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين".

لم يصبح التحرش الجنسي جزءاً من الخطاب الشائع إلا بعد الاعتداءات الجماعية على شابات في وسط العاصمة التي جرت في عيد الفطر في العام 2006. كما شهدت السنوات التالية معدلات يومية مرتفعة من التحرش اللفظي والجسدي بالنساء. وكان الجديد في هذه الحوادث ليس فقط الإنكار المجتمعي لوقوعها وإنما التواطؤ السلطوي أيضاً.

ظهرت منذ ثورة كانون الثاني/يناير 2011، حملات تطوعية عملت على توثيق حالات العنف والتحرش الجنسي والإبلاغ عنها، وتقديم الدعم للضحايا. أسفرت تلك الحملات عن إصدار القانون رقم 50 لسنة 2014، حيث وردت فيه كلمة "تحرش" للمرة الأولى، وهو ما يُعد التطور التشريعي الأكثر أهمية في تاريخ الحركة المناهِضة للتحرش والعنف ضد النساء.

وفي العام 2017، ناقش مجلس النواب مشروع قانون لتعديل بعض أحكام القانون بتغليظ عقوبات جريمة التحرش الجنسي المنصوص عليها في المواد 306 مكرر (أ) و306 مكرر (ب)، واستحداث مادة جديدة برقم (306 مكرر ج) لمواجهة جريمة التحرش بذوي الإعاقة. تلاه تصديق السلطات في العام 2021 على تعديلات جديدة، لتصل العقوبة إلى الحبس 7 سنوات. وتطرق القانون في تعديل المادة "306 مكرر ب"، إلى احتمالية أن يكون الجاني من أصحاب السلطة أو أنه قد مارس الضغط على المجني عليها بسبب سلطة "وظيفية أو أسرية".

التحرش بالنساء سلاح السلطة والذكورة

في أيار/مايو 2005، وبينما كان الشارع السياسي على صفيح ساخن بسبب تعديل المادة 76 من الدستور التي سُمِّيت بإجازة "توريث السلطة"، لم يكن مُنظمو وقفة احتجاجية على سلم نقابة الصحافيين في وسط العاصمة، يعلمون أن اليوم سيكون حاسماً، ليس فقط في تاريخ المواجهات السياسية بين السلطة والمعارضة، لكن أيضاً في تاريخ النسوية المصرية ونضالاتها. فكان مشهد الاعتداء على الصحافيات نوال علي وعبير العسكري وشيماء أبوالخير وإيمان طه، فاصلاً ما بين عصرين، أحدهما حمل انتهاكات ضد النساء لكنها بقيت طيّ الكتمان، والآخر مثّل إعلان بداية نضالهنّ ضد العنف والتحرش. فقد لجأت القوات الأمنية لمواجهة الاحتجاجات السلمية إلى العنف الجسدي على النساء تحديداً في أول مواجهة ذات طابع سياسي يستخدم فيها العنف ضد النساء (2).

خاضت الصحافيات الأربع حرباً شرسة بدءاً من قسم الشرطة الذي رفض في البداية تحرير محضر ("ضد الدولة"!) في واقعة التعدي الجنسي عليهنّ، وانتهاء بالنيابة التي أمرت بحفظ الدعوى وتقييدها ضد مجهول. وظهرت ولأول مرة حركة مناهضة للعنف الجنسي السياسي سميت بـ "الشارع لنا"، أدانت ممارسات السلطة لإسكات المعارضة عبر اعتداءات على الناشطات، فيما لجأت الصحافيات إلى "اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب" في العام 2006، لتحصلن على حكم تاريخي في آذار/مارس 2013 بإدانة الحكومة المصرية، وتعويضهنّ عن الأضرار الجسدية والنفسية.

ولكن التحرش الجنسي لم يصبح جزءاً من الخطاب الشائع إلا بعد الاعتداءات الجماعية على شابات في وسط العاصمة التي جرت في عيد الفطر في العام 2006. كما شهدت السنوات التالية معدلات يومية مرتفعة من التحرش اللفظي والجسدي بالنساء. وكان الجديد في هذه الحوادث ليس فقط الإنكار المجتمعي لوقوعها وإنما التواطؤ السلطوي أيضاً. المجتمع يصم المرأة الضحية ويلومها منفردة، والسلطات ترفض الاعتراف بالوقائع. وغالبا ما أُرسلت النساء المجني عليهنّ إلى المنزل دون تحرير محضر.

وحتى العام 2011، كان هناك عدد قليل من المنظمات التي تناقش قضايا النساء من منظور نسوي. وهؤلاء كنّ تحديداً: "مركز دراسات المرأة الجديدة"، و"نظرة للدراسات النسوية"، و"مركز قضايا المرأة المصرية"، و"المركز المصري لحقوق المرأة". وفي العام 2008 نشر الأخير أول دراسة توثيقية تحت اسم "غيوم في سماء مصر"، أوضحت أن نسبة 83 في المئة من النساء تعرضن للتحرش. وكان فيلم "678" في العام 2010 أول فيلم يركز على القضية، معتبراً أن السبب الأساسي للتحرش هو الإحباط الجنسي للرجال المرتبط بتدني الحالة الاقتصادية.

اقتصر الحراك حول قضية التحرش في فترة ما قبل ثورة 2011 على صعيدين هما: عمل بعض المنظمات الحقوقية (3)، ونضالات فردية لنساء يعملن في المجال العام. لكن مع انطلاق الثورة، أصبح الحديث عن التحرش الجنسي منتشراً في الشارع بسبب ظهور موجات تحرش جماعية عنيفة، ووقوع النساء أهدافاً للأطياف المتناحرة (السلطة، الجماعات الإسلامية). ولعل أكبر مثال على تحرش رجال الدولة بهنّ ما حدث في تظاهرة "المليون امرأة" في آذار/ مارس 2011، حينما ألقت قوات الجيش القبض على 17 ناشطة، وأجرت لهنّ "كشوفات العذرية"، التي اعتبرت تحرشاً بالمتظاهرات. وكشفت الأحداث التالية عن مجموعات منظّمة وموجّهة فعّلت حلقات تحرش واغتصاب جماعي، ولم يقتصر الأمر على التلامس الجسدي فقط، بل تطور إلى تجريد نساء لكامل ملابسهنّ وإصابتهنّ بآلات حادة. واستمر التصاعد في هذه الممارسات إلى يوم تنصيب الرئيس عبد الفتاح السيسي في العام 2014، حينما وقعت حوادث تحرش بشابات في "ميدان التحرير"، ولكنه مثّل بداية النهاية لحوادث التحرش الجماعية، وإيذاناً بمرحلة جديدة من الحراك النسوي تقوده المؤسسات القانونية وقوة "السوشيل ميديا".

الحركة النسوية في مواجهة التحرش الجنسي

مع تصاعد الظاهرة وتقاعس السلطات عن مواجهتها في الأحداث التي تلت ثورة 2011، برز الحراك النسوي المناهض للتحرش عبر عدة مستويات، أولها تشكيل مجموعات ميدانية مستقلة، ضمت شابات مدربات على التعامل مع الاعتداءات الجنسية (4) خلال الاحتجاجات أو التجمعات أو الأعياد. وعلى الرغم من محاولات لجان المرأة الحكومية، بالاشتراك مع منظمات نسوية، تقديم مقترحات قوانين تناهض التحرش، إلا أن الخطاب الرسمي للدولة ظل حتى وقت قريب رافضاً الاعتراف بوجود الظاهرة، حتى أن الدولة وجهت اتهامات لناشطات بالادعاء وتشويه سمعة مصر في المحافل الدولية. وخضعت النساء لمحاولات إسكاتهن عبر التشهير كوسيلة ضغط من السلطة ومن محيطهن الاجتماعي والذي يرفض في كثير من الأحيان إفصاح المرأة عن تعرضها لتلك الجريمة باعتبارها وصمة "عار".

مجموعات مستقلة في الطرقات

كانت اعتداءات "ميدان التحرير" في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 نقطة تحول، خاصة مع غياب دور السلطة والأحزاب السياسية الداعية للتظاهرات على حد سواء، لتظهر أولى المجموعات الميدانية المناهضة للتحرش وهي "قوة ضد التحرش" (5)، ورفضت حصر دور المتطوّعات في التنسيق الإداري، لتشاركن في فرق الإنقاذ والتدخل الميداني. وكان في ذلك أول ظهور للنساء كمدافعات عن نساء رفضاً للدور الحمائي الأبوي. ومع التحرش والابتزاز الإلكتروني، ظهرت مجموعات إلكترونية تحارب التحرش وتشهِّر بالمتحرشين. في الوقت نفسه، تعاملت السلطة مع الحوادث المنشورة عبر تلك المجموعات بشكل مختلف، حتى إن النيابة العامة بدأت في تحريك دعاوى قضائية من تلقاء نفسها ضد الوقائع المثارة عبر "السوشيل ميديا" (6). لكن دور المجموعة انتهى مع عزل الرئيس مرسي في العام 2013.

وبعيداً عن التظاهرات، ظهرت أندية الدفاع عن النفس في العام 2013، والتي تبنتها مبادرات مثل "ويندو مصر" وقدّمت ورش للدفاع عن النفس من النساء إلى النساء فقط. وعملت المبادرة على تغيير تصور النساء الموروث عن أنفسهنّ على أنهنّ "لسن قادرات على حماية ذاتهنّ".

وخارج القاهرة

كان الحراك النسوي المتصاعد بعد الثورة أحد أسباب تخلّق لا مركزية للحركة. فبعيداً عن العاصمة التي كانت مسرحاً لمعظم الحوادث المعلَنة، تكونت مبادرات نسوية شابة في محافظات الصعيد خصوصاً والتي تتميز بتركيبة اجتماعية منغلقة وأعراف شديدة الصرامة. لعل أبرز تلك المبادرات "جنوبية حرة" في أسوان، و"دورك" في قنا، و"عشتار" في المنيا، و"هن" في أسيوط. وقد ولدت تلك المبادرات بعد وقائع تحرش وصلت إلى حد القتل مثلما حدث مع "شهيدة التحرش" في أسيوط في العام 2012. وكان ذلك بداية لبلورة مفهوم التحرش الجنسي والعنف ضد النساء في تلك الأوساط، وظهور الرغبة لديهنّ للدفاع عن أنفسهنّ. ولم يقتصر على نساء النخبة أو المثقفات بل انتقل إلى بعض الأوساط الشعبية أيضاً.

"نظرة".. نضال نسوي مؤسسي

لعبت مؤسسة "نظرة للدراسات النسوية"، دوراً هاماً في طرح قضية التحرش الجنسي داخل الأطر السياسية مع الدولة والأحزاب السياسية والتجمعات النقابية والجامعية، وبادرت بنشر ورقة "حول العنف الجنسي ضد النساء"، كما استحدثت برنامجاً تدريبياً للمدافِعات عن حقوق الإنسان، لتعريفهنّ بالمصطلحات الضرورية لفهم قضايا العنف ضد النساء من منظور نسوي.

مع تصاعد الظاهرة وتقاعس السلطات عن مواجهتها في الأحداث التي تلت ثورة 2011، برز الحراك النسوي المناهض للتحرش عبر عدة مستويات، أولها تشكيل مجموعات ميدانية مستقلة، ضمت شابات مدربات على التعامل مع الاعتداءات الجنسية خلال الاحتجاجات أو التجمعات أو الأعياد.

مع التحرش والابتزاز الإلكتروني، ظهرت مجموعات إلكترونية تحارب التحرش وتشهِّر بالمتحرشين. في الوقت نفسه، تعاملت السلطة مع الحوادث المنشورة عبر تلك المجموعات بشكل مختلف، حتى إن النيابة العامة بدأت في تحريك دعاوى قضائية من تلقاء نفسها ضد الوقائع المثارة عبر "السوشيال ميديا".  

وكانت واقعة التحرش بطالبة كلية الحقوق داخل أسوار جامعة القاهرة في العام 2014، فرصة لكيانات من بينها "نظرة" للتدخل، خاصة وأن رئيس الجامعة في البداية خرج يلوم الضحية. إلا أن حملة إلكترونية نسائية تحت وسم "#أول_محاولة_تحرش_كان_عمري" قد ساعدت آلاف الشابات، للإفصاح عن جرائم التحرش الجنسي التي تستهدفهنّ منذ الطفولة. هنا تقدمت عدد من المؤسسات من بينها "نظرة" بمشروع لرئيس الجامعة لاستحداث لجنة للبتّ في شكاوى الطالبات المنتهَكات، وسرعان ما تطورت إلى "وحدة مناهضة العنف ضد المرأة"، لتُظهر الدولة اعترافاً رسمياً بجهود الحركة النسوية من خلال تبني مجلس المرأة الحكومي الفكرة وتنفيذها في الجامعات المصرية.

ولم تكتف "نظرة" بالترحيب بالتعديلات القانونية التي أُقرت قبل أيام من تولي السيسي الحكم، بل تناولت بالنقد عبر حملتها "قانون نشاز" المادة "306 مكرر ب". وفي العام 2017، تحالفت "نظرة" مع ثمان منظمات نسوية (7) لإطلاق ما عُرف بـ "قوة العمل من أجل قانون موحد لمناهضة العنف ضد المرأة".

الإنترنت كساحة بديلة

في العام 2015، توقفت المجموعات الميدانية عن العمل نتيجة توقف التظاهرات وتقلص النشاط السياسي مع صعود السلطة الجديدة. لكن مجموعات مثل "خريطة التحرش" التي تأسست في العام 2010، صعدت إلى الساحة عبر الفضاء الإلكتروني، واستخدمت أسلوب حشد البيانات وتكنولوجيا نظام المعلومات الجغرافية والرسائل القصيرة لتحديد مواقع حالات التحرش الجنسي، وهو ما مثّل أسلوباً مبتكراً لتوثيق تلك الحالات.

تفاعلت مؤسسة الأزهر، وبشدة، لتصدِر الكثير من البيانات والفعاليات التي تؤكد رفضها جريمة التحرش ومبرراته، حتى أنّ جريدة "صوت الأزهر" الناطقة الرسمية، قد نشرت على غلافها الصادر في أيلول/سبتمبر 2018، صوراً لنساء بينهنّ من كنّ بلا حجاب، للتأكيد على مناهضة الأزهر للتحرش، إيذاناً بعصر جديد تبتعد فيه السلطة الدينية عن دعم التحرش وتبريره.

وجاء العام 2017، ليمثل بداية التفاعلات النسوية العلنية عبر شهادات إلكترونية، حين استخدمت النساء وسم #أنا_أيضاً. وظهرت آلاف التغريدات التي تعرض وقائع عنف تعرضنَ لها. وفي العام التالي، نُشرت إحدى الشهادات عبر صفحة "Femi-Hub" على موقع "فيسبوك"، تتهم فيها ناشطة حقوقية سياسياً ومحامياً حقوقياً بالتعدي عليها جنسياً، فيما عُرف بـ "واقعة الإيميل"، التي كشفت عن التحرش الجنسي الواقع داخل الدوائر الحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني، وقد خرجت عشرات الشهادات الإلكترونية الأخرى لحقوقيات تعرضن لاعتداءات على يد حقوقيين وأصحاب سلطة.

في العام 2020، ظهر حساب على موقع انستغرام باسم "Assault Police"، نُشِرت من خلاله شهادات ناجيات من اعتداءات جنسية، ارتكبها بحقهنّ طالب بالجامعة الأمريكية في القاهرة، ليتصدر وسم (#المغتصب_أحمد_بسام_زكي) موقع تويتر، ويُلقى القبض عليه، ثم يتابع الحساب نشر شهادات لنساء تعرضن للتحرش والاغتصاب من أبناء عائلات ذات نفوذ فيما عُرف بقضية فندق الفيرمونت. وفي العام نفسه أطلقت نسويات مدونة باسم "دفتر حكايات" لتمكين الأخريات من نشر قصصهنّ وفضح المتحرشين، وظهر الهاشتاغ الأكثر تفاعلاً (#نصدِّق_الناجيات)، كما ظهرت صفحة "اتكلمي"("Up Speak")، والتي ساهمت في نشر شهادات لنساء، ومنهنّ من تعرضن للاعتداء داخل مجتمع الكنيسة. 

تشابكات مع الدولة

شكلت وقائع التحرش بشابات في ميدان التحرير وسط القاهرة أثناء الاحتفال بتنصيب السيسي رئيساً في العام 2014، نقطة تحول مفصلية جديدة في تعاطي السلطة مع تلك القضايا، والاعتراف بخطورة التحرش كظاهرة. فصدرت أحكام بالسجن هي الأولى من نوعها في قضايا الاعتداء الجنسي الجماعي تراوحت بين 20 و25 عاماً. لكن وعلى الرغم من ذلك، وجِّهت الاتهامات للمتهمين على أساس أنها جرائم "اغتصاب وهتك عرض". ودفع هذا بالحركة النسوية إلى إعادة المطالبة بتعديل المواد (267،268) من قانون العقوبات، ليتسع تعريف الاغتصاب ويشمل كل أنواعه. أسفر ذلك عن تأسيس إدارة لمتابعة جرائم العنف ضد النساء بوزارة الداخلية. وكان دستور العام 2014، والذي شاركت في صياغته نساء، من المحطات التي تحققت فيها مكاسب تدعم الحركة النسوية. ويظهر ذلك في المواد (11، 101، 104) مـن الدسـتور. كما أقرّ "المجلـس القومي للمرأة" في العام 2015 "استراتيجية وطنية لمناهضة العنف ضد النساء"..

في العام 2015، توقفت المجموعات الميدانية عن العمل نتيجة توقف التظاهرات وتقلص النشاط السياسي مع صعود السلطة الجديدة. لكنّ مجموعات مثل "خريطة التحرش" التي تأسست في العام 2010، صعدت إلى الساحة عبر الفضاء الإلكتروني، واستخدمت أسلوب حشد البيانات وتكنولوجيا نظام المعلومات الجغرافية والرسائل القصيرة لتحديد مواقع حالات التحرش الجنسي، وهو ما مثّل أسلوباً مبتكراً لتوثيق تلك الحالات.

وفي العام 2020 وبضغط من النسويات المستقلات عبر الفضاء الإلكتروني ومؤسسات نسوية، وافق مجلس النواب على تعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية، وإضافة مادة (113 مكرر) التي تتيح لقضاة التحقيق عدم نشر بيانات المجني عليهنّ، ليُعدّ انتصاراً جديداً للحركة النسوية.

وعلى مستوى مؤسسات الدولة الدينية الرسمية، تفاعلت مؤسسة الأزهر وبشدة لتُخرج الكثير من البيانات والفعاليات التي تؤكد رفضها جريمة التحرش ومبرراته، حتى إن جريدة صوت الأزهر الناطقة الرسمية، قد نشرت على غلافها الصادر في أيلول/سبتمبر 2018، صوراً لنساء بينهنّ من كن بلا حجاب، للتأكيد على مناهضة الأزهر للتحرش، إيذاناً بعصر جديد تبتعد فيه السلطة الدينية عن دعم التحرش وتبريره.

.. وعلى هذا يمكن اعتبار أن الحراك النسوي في مصر الآن قد جعل من مسألة العنف الجنسي ضد النساء قضية رئيسية، استكمالاً لجهود سبقت ثورة العام 2011. كما أدى ذلك الحراك إلى تصحيح مفاهيم متعلقة بأجساد النساء وصورتهنّ النمطية عن أنفسهنّ، فباتت نساء من مناطق شعبية وفقيرة تُفصح عن تعرضها للجريمة بل وتتجه لتحرير محاضر في قسم الشرطة، وإن كانت أكثر الإفصاحات ما زالت تأتي من جيل الشابات والمتعلمات...

محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________________

1- بحسب دراسة طومسون رويترز الدولية في العام2017، التي نشرت BBC بالعربية تلخيصاً لها، احتلت القاهرة الصدارة كأكثر المدن الكبرى في العالم عداءً للنساء. أثارت الدراسة النقاش في عدة مواقع إعلامية، لكن "المجلس القومي للمرأة" الحكومي، رفض البيانات الواردة في الدراسة، مؤكداً أنها ركّزت على التحرش دون التطرق لمعايير أخرى في القياس.
2- حسب شهادة ناشطات من مجموعة "شباب من أجل التغيير"، فقد واجهن مجموعات منظمة من المأجورين، وتعرضن للضرب والاعتداء الجنسي، وفي الجمعة التالية نظمن تظاهرة على سلم النقابة تنديداً بالواقعة عُرفت بيوم "الجمعة السوداء" وأعلنت نقابة الصحافيين الحداد واتشحت بالسواد على جدرانها.
3- لعدة سنوات، شـكّلت ست عشرة منظمة غير حكومية مــن محافظات مختلفـة "قـوة عمل لمناهضة العنف الجنسي" كمظلة للعمل المشترك على قضايا العنف الجنسي، وقدّمــت مقترحاً بتعديل قانون العقوبات الخاص بجرائم العنف الجنسي عام 2010.
4- كانت الشابات المشاركات قد تعرضن لتدريبات نفسية وبدنية لتأهيلهن للدفاع عن أنفسهن وعن أخريات ضد الاعتداء سواء كان فردياً أو جماعياً.
5- تكونت بالتزامن مع مجموعتي "شفت تحرش" و"تحرير بودي جاردز".
6- تعاونت مجموعة "قوة ضد التحرش" مع "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، "تعاونية مصريين للإعلام الشعبي"، "مجموعة خريطة التحرش"، "نظرة للدراسات النسوية" مبادرة "شفت تحرش"، "مركز النديم للتأهيل النفسي"، مبادرة "نفسي"، "بهية يا مصر"، "المصري الحر"، مشروع "بصي".
7- ضم التحالف: مؤسسة المرأة الجديدة، ونظرة للدراسات النسوية، ومؤسسة قضايا المرأة المصرية، ومركز القاهرة للتنمية والقانون، ومؤسسة المرأة والذاكرة، ومركز النديم للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا العنف، ومركز وسائل الاتصال الملائمة من أجل التنمية، ومبادرة محاميات مصريات، ومركز تدوين لدراسات النوع الاجتماعي.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...