إعداد وتحرير: صباح جلّول
منذ الأسابيع الأولى اللاحقة للسابع من أكتوبر 2023، دخل المتحف الفلسطيني في حالة استجابة ثقافية طارئة. كان على المؤسسات العاملة في الثقافية جميعها – لا المتحف وحده - إعادة تعريف نفسها ودورها في الظلّ الطويل والرهيب للإبادة التي كانت تتكشف سريعاً في غزّة، والتي شكلت صدمة أغرقت الأفراد والمؤسسات العامِلة في الثقافة والفنون، في مستنقعات شكّ وعجز، ما زالت تتفاعل في كلّ مساحات حياةٍ لم تعد ما كانته.
أمام عار الارتجالات والذاتيات والجماليات التي تتفشّى في الفنون أحياناً، تراجع كل ما هو فائض عن الحاجة لصالح عودةٍ إلى دورٍ مباشِر يجيب عن سؤال الجدوى والمسؤولية الكبيرة أمام لحظة لا تحتمل أقل من ذلك. كان معرض "غزة الباقية" للمتحف الفلسطيني (مؤسسة غير حكومية مقرها الأساسي مدينة بيرزيت) يحاول الاتساق مع سؤال المسؤولية هذا، في ذلك الجزء من فلسطين الذي نأى عن القصف.
أضاء معرض "غزّة الباقية" على "الأسباب والسياقات الجوهريّة التي شكّلت التجربة الفلسطينيّة، بتركيز مكثّف على الأرض والمكان والناس في غزّة بوصفهم جوهر الحكاية"، حسب تقديم موقع المتحف الفلسطيني. جهد العاملون فيه على توثيق المواقع التاريخيّة والممارسات الثقافيّة في قطاع غزّة، محاولين الكشف عن ملامح فنية تميّز القطاع، واكتشاف تطلّعات سكّانه واهتماماتهم المتفرّدة تفرّدهم، وصولاً إلى محاولة إيجاد ما بقي من هذه الفنون والممارسات رغم كلّ ما حدث ويحدث.
كان الهدف "تزويد الجمهور العالمي بمعلومات ومرجعيّات ومصادر تضع غزّة في سياقها الفلسطيني والإقليمي والعالمي": غزة ذات التاريخ المعقد والطبقات المركّبة والسياقات متعددة الأبعاد، تاريخية واقتصادية وجغرافية وإبداعية، لا تلك التي في مخيلة مستهلكي أخبار الحروب والمآسي التي حولوها لأرقام وشريطٍ صغير قدره الحصار والدمار...على اعتبار أن هذه المراجع والتوثيقات تؤكد أنسنة غزة وأهلها وقدرتهم على الأمل، تلكَ العملة التي صارت شحيحة بفعل حرب الإبادة الإسرائيلية (المستمرّة!).
إعادة تعريف دور المتحف..
في أول كانون الأول/ديسمبر 2025، أعلنت اللجنة الدولية للمتاحف والمجموعات الفنية الحديثة (CIMAM) فوز المتحف الفلسطيني بجائزة الممارسات المتْحفية المتميزة لعام 2025 عن معرض "غزّة الباقية"، مرجِعة خيارها لتقديرها قدرة المتحف على "إعادة تعريف أدوار المتاحف كمساحات للبقاء والمقاومة". أشارت اللجنة الى أن المتحف الفلسطيني ومعرض "غزة الباقية" يلعب دوراً حيوياً في حفظ التراث الثقافي والذاكرة الجمعية، مذكّرة بأنه على الرغم من عمله تحت ظروفٍ صعبة إلا أنه نجح في رعاية المجتمعات المحليّة وإظهار ثقافاتها بشكل أكبر وأوضح للعالَم.


"في نواحٍ عديدة، يعكس عمل هذا المتحف واقع عالمنا اليوم"، قالت اللجنة. "يجسّد المتحف الفلسطيني أسس المشروع المتحفي العابر للثقافات، لحفظ إرث يصل إلى أجيال المستقبل. ورغم كلّ العقبات، يتجاوز هذا المشروع الظروف السياسية التي ساهمت في صنعه، ويعيد تعريف كيفية تنظيم المعارض عبر التكيّف بشكلٍ مبدِع مع الظروف المتاحة مهما كانت". ساهمت استراتيجيات التكيّف إذاً في تقييم دور هذا المعرض والمتحف ككلّ، واصفة إياه بـ "نموذج للصمود والتحدّي".
"آرت زون فلسطين" واستعادة الفنّ من الإبادة
05-12-2024
في غزة، تعرضت المواقع الأثرية التي لا تقدّر بثمن مادي أو معنوي الى الدمار والتخريب. دَمّر الاحتلال متحفي رفح والقرارة ومعرضا محترف شبابيك للفن المعاصر وغاليري التقاء. نسف أرشيفات ثمينة، منها أرشيف بلدية غزة وأرشيفات الجامعات.

استشهد مئات العاملين والعاملات في شتى الحقول الثقافية والفنية. فقد الفنانون أعمالهم تحت الركام أو رأوها تندثر وتحترق أمام أعينهم. حرص بعض الفنانين على تصوير ونقل أعمالهم عبر وسائط متنوعة تفادياً لاندثارها الكلّي، وبرهاناً على حياة كاملة كانت هناك، تستحقّ أن تُرى وتُقدّر.
اعتبر المتحف بداية أن قاعات معارضه يجب أن تكون امتداداً لتلك التي لم تعد قادرة على أداء دورها في غزة بسبب الإبادة. مئات الأعمال الفنية جُمِعَت من عشرات الجِهات المختلفة لأعمال فنانين غزيين توزّعت في العالم. بعض هذه الأعمال كان مُعرّضاً للفناء، أثراً أخيراً يتوجب الحفاظ عليه بكل السبل.
بالإضافة إلى ذلك، يتيح المتحف الفلسطيني أرشيفاً رقمياً هائلاً، شديد الأهمية، لأكثر من 350 ألف صورة ووثيقة تاريخية مفتوحة للمتصفّحين في أنحاء المعمورة.

تحررٌ من قيد الاحتلال
متحف "غزّة الباقية" هو متحف لا يمكن احتواؤه زمنياً أو مكانياً، ولا يمكن وضع لوحاته في أطر معلّقة في حيّز واحد. هو تحدٍّ بالمعنى الحرفي للكلمة: معرض رقمي ينتشر في مساحات فعلية حول العالم ويتنقل حسب الحاجة، قابل للتحميل والمشاركة والإضافة.
بينالي غزة: نزوح الفنّ قسرياً.. وبقاؤه
25-09-2025
فلسطين في أربع جداريات دائمة في "المتحف الفلسطيني"
19-12-2024
يضمّ المعرض مئات اللوحات الفلسطينية والصور الأرشيفية. يستخدم المعرض رموز (QR codes) الرقمية، تذهب بالمتصفّح إلى مقاطع صوتية أو صورية وفيديو تضيف لمعلوماته ومصادره. هكذا كان بالإمكان تحويل معرض "غزة الباقية" إلى 245 معرضاً في 48 دولة حتى الآن، بينما المتحف الفلسطيني الذي نظّم المعرض، والذي يقع في بيرزيت بفلسطين، لا يمكن إلا لفئة صغيرة جداً من الفلسطينيين الولوج إليه. أما لوحاته وصوره التي عن أو من غزة المحاصَرة تماماً، ثم المبادة، فتتحرر من قيد الاحتلال. بهذا يكون المعرض قد أسهم في إطلاق شيء من الفنون في غزة وسائر فلسطين من القبضة الإسرائيلية الفاجرة. هذه الممارسات تتطلب عملاً أرشيفياً وقيّمياً جدياً وخلاقاً، يعيد التفكير في طريقة "ديكولونيالية" – مناهضة للاستعمار ومقاوِمة له - لعرض الأعمال الفنية.
بطبيعة الحال، أهدى المتحف الفلسطيني هذه الجائزة "إلى غزّة الحبيبة، وإلى صمود أهلها الذي يلهم كلّ ما نقوم به"، كما ورد على موقعهم الإلكتروني.



