حتى ينتهي الموت: مقابلة مع الفنان باسل المقوسي من غزة

الفنان باسل المقوسي يعيش اليوم مع أولاده واحفاده في خيمة، في ما صار يعرف ب"مخيم رفح" الذي يضم أكثر من مليون نازح من كل قطاع غزة. باسل المقوسي اشتهر بمزج التقنيات من رسم ورقمي في أعماله، واستحضار أجزاء من لوحات عالمية داخل ما يرسم عن غزة.
2024-01-11

شارك
الفنان باسل المقوسي يرسم داخل خيمته في رفح

في 10/4 كنا قد اتفقنا أنا* والفنان باسل المقوسي من قطاع غزة على إجراء حوار معه لمدونة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وحددنا أن يكون الموعد في 10/9، لكن الحرب التي شنها الاحتلال على قطاع غزة حالت دون ذلك. وبقيت أتواصل مع باسل كل ما أتيح له اتصال إنترنت، وأرى الضوء الأخضر في "مسنجر". قبل يومين طلبت منه كتابة شهادة عن نزوحه وعائلته، وعن مصير مرسمه ولوحاته، لكنه فضل إجراء حوار، فأرسلت إليه بضعة أسئلة، فأجابني عنهم في أثناء دويّ القصف ووسط أصوات الأطفال الذين يشعرون بالرعب والخوف والألم، كما قال لي.

مع كل حرب ننزح

ليست جديدة على الفنان باسل المقوسي وعائلته، تجربة النزوح، فمع كل عدوان يشنه الاحتلال على قطاع غزة، ينزحون. فسكناه كان ضمن "حي الإسراء" الواقع في منطقة قريبة جداً من الشريط الفاصل مع الأراضي المحتلة سنة 1948. يقول باسل "في كل مرة يحدث عدوان ننزح من بيتنا إلى بيوت من الأقارب والعائلة الآمنة نوعاً ما"، لكنه يوضح أن هذه المرة، أي في هذا العدوان، وكلنا نرى ونشاهد نحن الذين خارج قطاع غزة عبر الشاشات ما يقوله: "هذه المرة هي الأكثر صعوبة وأكثر دموية وأكثر مجازر، تركت البيت نازحاً نحو حي الشيخ رضوان عند عائلة زوجتي، لكن الرعب كان يحيط بنا، فالمكان قريب من أبراج المقوسي والمخابرات، وهو من الأكثر تعرّضاً للقصف بصواريخ الطائرات الحربية الإسرائيلية. فخرجنا جميعاً وكنا 40 شخصاً، أمي وزوجتي وأبنائي وأخواتي وإخوتي وأولادهم وابنتي وأولادها وبعض الأقارب."

يخبرني الفنان باسل المقوسي أنهم خرجوا هذه المرة إلى "محترف شبابيك للفن المعاصر" وهو المكان الذي ساهم في تأسيسه، ويمضي معظم وقته فيه، ويحتفظ بالكثير من لوحاته ولوحات فنانين آخرين في هذا المحترف الذي تخرج منه العديد من الفنانين في قطاع غزة. أمّا هو فمن مواليد 1971، تعلم الفن التشكيلي، أنهى سنة 1995 دورة الفنون الجميلة في جمعية الشبان المسيحية في غزة. وشارك بين سنتي 2000 و2003 في إقامات فنية بدارة الفنون في عمّان، تحت إشراف الفنان العالمي السوري مروان قصاب باشي. كما نال العديد من الجوائز والمنح والإقامات الفنية.

الأطفال والحرب

تجاربه المتنوعة في الفن، من تشكيل وتصوير ضوئي، مكنته من إيجاد سبيل للتعامل مع الأطفال النازحين في المرسم، ضمنهم أحفاده، فأصوات القذائف التي تهوي على قطاع غزة، وكل المناطق تقريباً قريبة من بعضها كما يوضح المقوسي، تعطي شعوراً بأن التالية اقتربت، والتالي سيكون أقرب، وكل هذا كان يبدو ردات فعل على الأطفال الذين ينزحون من مكان إلى آخر هرباً من الموت، يقول باسل: "في نفس المرسم وحتى أتمكن من السيطرة على الأطفال والتخفيف عنهم من أصوات القصف العنيف التي تحيطنا من كل مكان، أعطيتهم أوراقاً وألواناً، وجلست معهم لنرسم، وكنت أشجعهم على اللعب بالألوان، ورسم ما يشاؤون. لم يكن في يدي حيلة سوى هذه، فالخوف الذي كانوا يشعرون به ليس من السهل وصفه والحديث عنه. أفادتني المكافآت لهم، لصاحب الرسمة الأجمل، فكنت أشجعهم أعطيهم الشوكولا والسكاكر، ونظل على هذه الحال إلى أن يتعبوا ويناموا، على أمل أنهم كانوا يحلمون بأحلام جميلة."

لوحاته الشهيدة

لم يكن البقاء في "محترف شبابيك" آمناً لوقت طويل، فاضطر باسل إلى النزوح مجدداً مع عائلته بحثاً عن مكان آمن، هذه المرة كان الذهاب إلى خان يونس. لكنه كما يقول، إنه لم يتمكن من حمل كل أفراد عائلته معه "إنهم لوحاتي، فالقسم الأول من هذه العائلة دمرت تحت ركام بيتي الذي علمت أنه قصف، وهذه ليست المرة الأولى، ففي عام 2008 تم قصف البيت أيضاً وكان مرسمي في البيت، حينها أخرجت بعض اللوحات، وبعد الحرب قمت بمعالجتها كما يعالج المصاب والجريح في الحرب، رممتها بالبلاستر والشاش، ووضعت عليها اليود الخاص بالجروح وعرضتها في معرض على أنقاض مبنى مستشفى القدس التابع للهلال الأحمر في غزة."

لقد تعرض هذا المستشفى في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (2008–2009) لقصف إسرائيلي طال "مجمع النور الطبي" الذي يضم مباني إدارة جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في قطاع غزة و"مستشفى القدس"، فجرى إخلاء المستشفى حينها، ونقل المرضى والمصابين فيه إلى مجمع الشفاء الطبي. ويكمل باسل حكايته مع عائلته الثانية، لوحاته، "أعمالي في شبابيك حتى لحظة كتابتي للإجابات على أسئلتك، لا أعرف إن كانت على قيد الحياة، أم أن المكان تم قصفه، أو إن تم قصف أماكن حوله، فأنا لا أعرف ما مصير الأعمال"، ويضيف "أنا لا أستطيع العيش في حياة، كل عام أو عامين أو ثلاثة، تشن حرب علينا، أفقد فيها أحباباً وأقارب ولوحات."

رائحة الشهداء

لفتتني على صفحة باسل في "فيسبوك" عبارة كتبها مراراً "أحاول رسم رائحة الشهداء"، وتوقفت عندها مطولاً، فسألته عنها: "كوني فنان تشكيلي ومصور فوتوغرافي، أعتبر نفسي واحداً من الأيدي الناعمة للمقاومة. كل شيء ممكن أن نعبّر عنه بالرسم والألوان والصور، إلاّ الرائحة، وأجمل الروائح هي رائحة الشهداء. أحاول رسمها في شخصياتهم ووجوههم ولوحات الأقصى الذي ندافع عن قدسيته في أرض الرباط والميعاد. أحاول أن أشم رائحتهم في ألواني. في هذه الحرب فقدت أكثر من 15 شخصاً حتى الآن من الأصدقاء والمقربين في عائلتي إلى قلبي، سأبقي أشم رائحتهم في كل نفس، ومع كل فرشاة أضعها على لوحاتي. رائحة الشهداء موجودة في ابتسامة الأطفال في ألواني، في حضن أم، في ألوان الفرح والحرية والسلام، في أزهار اللوز، رائحتهم، رائحة الشهداء لا يمكن وصفها، لذا أحاول رسمها." ويوضح الفنان باسل المقوسي أنه في فترة ما بين الحروب المتكررة، وخلالها: "كنت أحاول أن أرسم الوقت الصعب وصوت القصف ورائحة الشهداء في الشوارع ورائحة البارود والتفجيرات، أحاول رسم هذه الأمور، لأنها تخلق ثورة في داخلي ودواخلنا جميعاً، ثورة لا يمكن وصفها بالكلام."

أمل بالحرية

بينما كنا نتبادل الرسائل، قال لي باسل "إذا استشهدت زبّطني"، هذه الجملة التي تصيب الإنسان بمقتل آخر غير الذي نشاهده ونعيشه، دفعتني إلى مراجعة الكثير من الأمور والصور. هذا الموت المحلق فوق غزة على شكل طائرات حربية، يحصد أهل غزة فعلياً. لقد ناهز عدد الشهداء الـ 10.000، والعالم حتى إعلان هذا الرقم يتردد في إعلان وقف إطلاق النار، ويكتفي ببعض التصريحات الميتة في منبرها. هذا الواقع هو الذي دفع الفنان باسل المقوسي إلى قول ذلك، فليس الأمل بالحياة هو الذي يحيي أهل غزة اليوم، بل الأمل بالحرية "أتمنى أن تنتهي هذه الحرب، يكفي موت للأحباب، ولا أعرف إن كنت سأكون واحداً منهم، أنا وعائلتي أم لا. بعد الحرب سأبحث عن بيتي في الركام، وبعد بيتي سأتفقد لوحاتي وأعمالي الفنية وأجمعها. ولا أمل لي ولنا، سوى الحرية.

______________________

*نستعير هذا النص من مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي نشرته في 7-11-2023
*أجرى المقابلة: أيهم السهلي

مقالات من فلسطين

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....