اعتداءان إرهابيان متتاليان في لبنان.. وتضامنٌ عابرٌ لكل الحواجز

لبنان مكلوم من أقصاه إلى أقصاه. في الجنوب والضاحية الجنوبية وبعلبك والبقاع، كل البيوت للعزاء، وفي سائر البلاد بشمالها وشرقها وغربها مواساة عابرة لكل اعتبارٍ تافه كالمنطقة والطائفة وسواهما، ما خلا بعض أصوات النشاز المقزِّزة التي تغرقها حتماً حميّة ونخوة المتضامِنين. فالعدو واحد في عُرف الغالبية الساحقة من اللبنانيين.
2024-09-19

شارك
"صباح الخير يا بيروت"، كاريكاتور للفنان الفلسطيني ناجي العلي
السفير العربي

قد يكون ما شهده لبنان يومي الثلاثاء والأربعاء في 17 و18 أيلول/ سبتمبر أكبر عملية إرهابية تستخدم التكنولوجيا والإرسال في العالم أجمع، وفي التاريخ. انفجرت آلاف أجهزة النداء والإرسال بواسطة موجات الراديو، المعروفة باسم "بيجر"، التي يستخدمها عدد كبير من عناصر حزب الله العسكريين والمدنيين، كما العاملين في القطاعين الصحي والخدماتي، في مختلف المناطق اللبنانية. بعدها بيوم، تكررت المجزرة، وانفجرت آلاف أجهزة اللاسلكي، المختلفة تماماً عن أجهزة "بيجر"، مخلِّفة عدداً كبيراً من الضحايا، ومسبِّبة حرائق في عدد كبير من الشقق السكنية والسيارات. الحصيلة حتى لحظة كتابة هذه السطور 32 شهيداً، بينهم 3 أطفال، وأكثر من 3000 جريح خلال أقل من 48 ساعة، في مجزرة غير مسبوقة بشكلها واختراقها لكل المساحات الخاصة والعامة.

لبنان مكلوم من أقصاه إلى أقصاه. في الجنوب والضاحية الجنوبية وبعلبك والبقاع، كل البيوت للعزاء، وفي سائر البلاد بشمالها وشرقها وغربها مواساة عابرة لكل اعتبارٍ تافه كالمنطقة والطائفة وسواهما، ما خلا بعض أصوات النشاز المقزِّزة التي تغرقها حتماً حميّة ونخوة المتضامِنين. فالعدو واحد في عُرف الغالبية الساحقة من اللبنانيين.

"الدم لا يصير ماءً".. رسائل شكر في لافتات في الضاحية الجنوبية لبيروت تحيّي نخوة الإخوة والأهالي في المناطق اللبنانية.

في "الضاحية الجنوبية" لبيروت، على الأبنية، وفي اللافتات وفي تشييعات الشهداء الجماعية، رفع الأهالي مجدداً شِعار "لن نترك فلسطين"، بعد ساعات فقط على فجيعتهم. وفي منطقة "الطريق الجديدة" من قلب بيروت، توافد المواطنون للتبرع بالدم في "مستشفى المقاصد الإسلامية" التي استقبلت عدداً من الجرحى، وناشد المواطنون إخوانهم التوجه فوراً للتبرع بدم من جميع الفئات لـ"إخواتنا بالضاحية" كما عبرت إحدى السيدات.

ومن "طرابلس"، توجه مئات الشبان بلا تردد إلى مراكز التبرع بالدم في الضاحية الجنوبية لبيروت، وأعلنت إدارة "المستشفى الاسلامي" في المدينة وضعها في خدمة الجرحى. كما أطلقت مخيمات لبنان الفلسطينية مبادرة "فزعة المخيمات" للتبرع بالدم ومساندة المصابين، في اندفاعاتٍ واعية تعكس فعلاً تكامل ساحات الصمود اللبنانية والفلسطينية وتلاحم الشعبين.

شبان توجهوا من طرابلس إلى مراكز التبرع بالدم في الضاحية الجنوبية لبيروت يوم 17 أيلول/ سبتمبر 2024 بعد الهجوم الصهيوني الإرهابي بواسطة أجهزة "بيجر" (الصورة عن فيسبوك)
صورة شاركتها صفحة "مخيمات لبنان" على انستغرام، في دعوة مفتوحة للتضامن والتبرع بالدم.

وكذلك قدّم أطباء من مختلف المناطق اللبنانية (وإذا كان لا بد من ذِكر ما لا يلزم، فأولئك مسلمون ومسيحيون، شيعة وسنة ودروز ومن مختلف الانتماءات!) خدماتهم في جميع المستشفيات التي تحتاج لاستجابة طارئة. ووصف عدد منهم المشهد بأنه يُذكّر بيوم الرابع من آب/ أغسطس 2020، حين جرى تفجير مرفأ بيروت، وذلك من حيث إنهاك القدرة الاستيعابية للمشافي خلال ساعات قليلة. كما قال الدكتور الفلسطيني غسان أبو ستة بأنه ذكّره بحال مستشفيات غزة بعد مسيرات العودة التي استهدف فيها الجيش الإسرائيلي عيون وأرجل المتظاهرين السلميين في غزة، قائلاً "إن العبء الذي تتحمله المنظومة الصحية اللبنانية نتيجة الهجوم (...) مماثل للعبء الذي تلى مسيرات العودة في غزة. هناك حاجة ماسة إلى إنشاء وحدة لإعادة بناء وتأهيل الإصابات المعقدة من أجل تلبية الاحتياجات المتوسطة والطويلة الأجل لآلاف الجرحى"، كما أشاد بالاستجابة الطارئة المهنية والممتازة على الرغم من الظروف القاسية للقطاع الصحي اللبناني، الذي بقي متماسكاً بعد كل ما أصاب البلاد من انهيار في السنوات الماضية.

بدوره صرّح الاختصاصي في طب العيون البروفيسور إلياس ورّاق لل"بي بي سي" أنه خلال 25 سنة من ممارسته للطب، لم يشهد عدداً مماثلاً للإصابات في العيون كما في هذا الاعتداء، قائلاً "للأسف، لم نتمكّن من إنقاذ كثير من العيون. نحو 60 إلى 70 بالمئة من الإصابات في العيون اضطررنا إلى استئصال عين واحدة على الأقل منها"، مضيفاً أن "أغلبية الجرحى هم شباب في مقتبل العمر. لم نتمكّن من معالجة الإصابات إلا عبر استئصال عين، أو الاثنين معاً. خلال 25 سنة من عملي الطبي، لم أجرِ هذا العدد من عمليات استئصال العيون كما بالأمس فقط".

من أمام مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت ليل 17 أيلول/ سبتمبر 2024، مع وصول مئات المصابين في الهجوم الإرهابي الإسرائيلي على أجهزة الإرسال "البيجر".

على وجهِ السرعة، أنشئت صفحات تواصل سجّل من خلالها عدد كبير من اللبنانيين أسماءهم واستعدادهم للتبرع بالدم وحتى الأعضاء للجرحى والمصابين، وكذلك فعل الأطباء والمعالجون الانشغاليون والمختصون بالتأهيل بعد الإصابات.

مقالات ذات صلة

لقد قرر مجتمعنا في اليومين الماضيين أنه حيّ ويقظ ومستعد للتكاتف فعلاً لا قولاً فحسب. في هذه المرحلة الحساسة للغاية، ينبذ غالبية اللبنانيين قذارات التفرقة الطائفية البغيضة التي تضع الجميع في مهب ريح العدوان الإسرائيلي. هي قيمٌ لا تقدر بثمن، من الواجب الإضاءة عليها وإبرازها في وجه البشاعة المحيطة والأخطار المحدقة، لأننا جميعاً نستحقّ العبور من الانحطاط العام والخاص إلى خلاصٍ جماعيّ لا يكون سوى بالوقوف جبهة واحدة بوجه العدوان الإسرائيلي. تلك مقاومة شعبية أيضاً، نحتاجها الآن وليس غداً.

مقالات من العالم العربي

لا شيء سوى الصمود!

2024-10-03

قبل الصواريخ الإيرانية وبعدها، استمر الاحتلال بارتكاب الفظاعات، ثمّ توعّد بالمزيد. إنها أيام المتغيرات السريعة والخطيرة والصعبة، لكن يبدو أنه في كل هذا، ليس سوى ثابتٍ وحيد: صمود شعوبنا المقهورة.