للسودانيين مقولة شائعة بينهم، نبتتْ من عمق التكافل الاجتماعي الذي يتميزون به، وهي "الجوع ما قتل أحد". إلا أن هذه المقولة بدأت تتفتت الآن، بفعل الحرب، التي أنهكت مقدرة الجميع، على مختلف مستوياتهم الاقتصادية، فقد مات البعض من الجوع فعلياً.
مؤخراً، أعلنت منسقية النازحين واللاجئين في "دارفور"، عن وفاة أكثر من مئة نازح في المعسكرات، بسبب نقص الغذاء والجوع، من بينهم 66 طفلاً. وعلى النحو ذاته، وثقت بعض غرف الطوارئ بشكل متتالٍ وفيات بسبب الجوع.
ما انفكت بيانات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، تحذر من خطر المجاعة في السودان جراء الحرب المستمرة لأكثر من عام، بين الجيش السوداني وذراعه، "قوات الدعم السريع".
ووفقاً لإحصائيات الأمم المتحدة، يعاني حوالي 18 مليون سوداني بالفعل من الجوع، بما فيهم 3.6 مليون طفل يعانون سوء التغذية الحاد، بينما يحتاج حوالي 25 مليون سوداني إلى مساعدات، أي أكثر من نصف السكان.
وتقول الأمم المتحدة في آخر بياناتها "إن لم يحدث تغيير فوري وكبير، سنواجه وضعاً كابوسياً، ستنتشر المجاعة في أنحاء كبيرة في البلاد".
والواقع في الأرض متقدم بكثير على بيانات الأمم المتحدة. فعلياً بدأت ملامح المجاعة تتشكل في عدد مقدّر من مناطق السودان.
تتعدد الأسباب والجوع واحد
تتعدد أسباب الجوع في السودان. إمّا بسبب الحصار المطبَّق وقطع طرق الإمداد، وإمّا بسبب الفقر المدقع جراء فقدان مصادر الدخل، وتوقف الإنتاج بشكل كامل أو شبه كامل، بعدما صار الاعتماد الأكبر بالنسبة إلى السودانيين داخل البلاد على تحويلات المغتربين.
غير أن أكبر وأهم أسباب الجوع الذي بدأ يطل برأسه في عدد من المناطق، هو فشل الموسمين الزراعيين خلال عام الحرب في مناطق الإنتاج الكبرى: "الجزيرة"، "دارفور"، و"كردفان". وهذا بلا شك ليس محسوساً الآن كما ينبغي، لكن ستظهر نتائجه الكارثية قريباً، إن لم يحدث أي اختراق لوقف الحرب.
أعلنت منسقية النازحين واللاجئين في "دارفور" مؤخراً عن وفاة أكثر من مئة نازح في المعسكرات، بسبب نقص الغذاء والجوع، من بينهم 66 طفلاً. وعلى النحو ذاته، وثقت بعض غرف الطوارئ بشكل متتالٍ وفيات بسبب الجوع.
منذ سيطرة "قوات الدعم السريع" على ولاية "الجزيرة" وسط البلاد في كانون الأول/ ديسمبر2023، تعطل تماماً موسم الحصاد في أكثر من 80 في المئة من مساحة المشروع الذي يُعدُّ أكبر المشاريع المروية في القارة الأفريقية، إذ تبلغ مساحته 2.2 مليون فدان. ويمثل مشروع الجزيرة عموداً فقرياً لاقتصاد السودان.
ما أطاح بحلم "سلة الخبز" السودانية
09-05-2019
بحسب التقارير الصحافية المحلية فإن القمح والقطن، وهما محصولان نقديان، فشل موسم حصادهما بالكامل، إما بسبب نزوح المزارعين خارج الولاية جراء انتهاكات وجرائم "قوات الدعم السريع"، وإمّا بسبب مصادرة عناصر "الدعم السريع" المحصولين لصالحهم، أو بسبب الوضع الأمني عموماً. أما القطن فهو يتعرض للتلف في الأرض، بسبب إغلاق المحالج التي توجد داخل حدود ولاية "الجزيرة"، هذا بالإضافة إلى المحاصيل الأخرى، مثل البقوليات التي تمّ الاستيلاء عليها بقوة السلاح.
لم يكتف عناصر "قوات الدعم السريع" بإفشال الموسم ومصادرة المحاصيل من الأرض، بل امتدت أياديهم إلى مخازن الاكتفاء الذاتي للسكان، داخل المنازل. فقد جرت العادة عند الغالبية العظمى من سكان ولاية "الجزيرة" على تخزين المحاصيل بعد نهاية كل موسم، بغرض الاكتفاء الذاتي حتى الموسم القادم، وظلت ولاية "الجزيرة" ذات المجتمع الزراعي مكتفية ذاتياً، وقلما تعاني ندرة أو شحّاً. لكن اليوم، فـ"الجزيرة" التي تطعم أجزاء واسعة من البلاد، يعاني أهلها الجوع، وهو تحوّل صادم جداً لمجتمع زراعي، ستكون آثاره الاجتماعية أفدح من تلك الاقتصادية والسياسية.
والمشهد ذاته في "دارفور" على نحو خاص، حيث يعتمد السكان هناك بشكل رئيسي على الزراعة كمصادر دخل واكتفاء ذاتي. وتتصاعد الآن مخاوف المزارعين من فشل الموسم المقبل، مع اشتداد المعارك في مدينة "الفاشر" عاصمة الإقليم الذي تسيطر عليه قوات "الدعم السريع". وأفادت تقارير "منظمة الأمم المتحدة للزراعة" (الفاو) عن تراجع إنتاج السودان من الحبوب بنسبة 46 في المئة.
وفقاً لإحصائيات الأمم المتحدة، يعاني حوالي 18 مليون سوداني بالفعل من الجوع، بما فيهم 3.6 مليون طفل يعانون سوء التغذية الحاد، بينما يحتاج حوالي 25 مليون سوداني إلى مساعدات، أي أكثر من نصف السكان. وتقول الأمم المتحدة في آخر بياناتها "إن لم يحدث تغيير فوري وكبير، سنواجه وضعاً كابوسياً، ستنتشر المجاعة في أنحاء كبيرة في البلاد".
أكبر وأهم أسباب الجوع، الذي بدأ يطل برأسه في عدد من المناطق، هو فشل الموسمين الزراعيين خلال عام الحرب في مناطق الإنتاج الكبرى، "الجزيرة"، "دارفور"، و"كردفان". وهذا بلا شك ليس محسوساً الآن كما ينبغي، لكن ستظهر نتائجه الكارثية قريباً، إن لم يحدث أي اختراق لوقف الحرب.
الآن، من المفترض أن يبدأ التحضير للموسم الصيفي في "الجزيرة"، ومناطق الزراعة الأخرى في "دارفور"، و"كردفان". وهو يبدأ عادة في شهر حزيران/ يونيو. والواقع أن الوصول إلى المزارع يبدو مستحيلاً، إذ حتى الطريق إلى المناطق التي لم تصل إليها قوات "الدعم السريع"، محفوف بالموت وقابل للانفجار. هذا علاوة على مشكلات الوصول إلى مدخلات الإنتاج والتمويل، بسبب خروج الغالبية العظمى من المصارف، وتوجيه ميزانية البلاد نحو الصرف الحربي. وهذا يقود مباشرة، وبلا شك، إلى فشل الموسم الصيفي، ليصير الواقع أن ثلاثة مواسم متتالية فشلت، إما بشكل كامل وإمّا شبه كامل، مع ما لذلك من أثر فادح على الأمن الغذائي.
قالت دراسة أعدها "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" إن أكثر من 70 في المئة من الذين شملتهم الدراسة، أكدوا أنهم لم يستطيعوا زراعة الأرض خلال الموسم الصيفي في 2023. وتواجه 59 في المئة من الأسر الريفية انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الشديد.
قضية الأرض وراء صراعات السودان
04-08-2022
وليس بعيداً عن هذا، فقد أشارت دراسة أخرى، أعدها "المعهد الأمريكي لأبحاث سياسات الغذاء" إلى أن ثلث المزارعين نزحوا، حيث وصفتهم الدراسة بـ "العمود الفقري الحاسم لاقتصاد السودان". وقالت الدراسة، المنشورة في موقع المعهد، إن المسح شمل 3.200 مزارع من أصحاب الحيازات الصغيرة على المستوى الوطني كله، مؤكدة عدم قدرتهم على الوصول إلى المدخلات الزراعية، فضلاً عن اضطرابات السوق بسبب النزاع.
وخلاصة هذه الدراسات هي أن معدل الفقر الوطني ارتفع بنسبة 4.5 نقطة مئوية، ليصير 65.6 في المئة، وهذا كان في نهاية عام 2023 أي قبل أن تكمل الحرب عاماً.
القدرة الذاتية أوشكت على النفاد
منذ انفجار الحرب في 15 نيسان/ أبريل 2023 في الخرطوم، وموجات النزوح المتتالية من العاصمة إلى بعض الولايات، اعتمد سكان العاصمة على المطابخ الخيرية الجماعية، وهي مستقاة من فكرة "التكايا". و"التكايا" موروث شعبي صوفي، وهي بيوت واسعة تستقبل أصحاب الفاقة، وتقدم الأكل والشرب والملبس والعلاج بلا مقابل. وتكون "التكايا" عادة ملتحقة ببيوتات أعيان الطرق الصوفية.
وتنشط مجموعات، أبرزها "لجان المقاومة" في العمل التطوعي، الذي تحول بالكامل خلال عام الحرب إلى السعي المستمر لتوفير الأكل لمن تبقى داخل العاصمة، قبل أن تتمدد المبادرات، لتشمل مدناً أخرى اكتظت بالنازحين.
واعتمدت المطابخ الخيرية ـ بشكل رئيسي ـ على الدعم الشعبي، الذي بدأ يتناقص مع استمرار الحرب، وفقدان مصادر الدخل، بل ونفاد المدخرات. واضطرت بعض المطابخ إلى التوقف أو تقليل الإنفاق، ما انعكس بؤساً على أوضاع الناس.
وأفادت دراسة أعدها "معهد سياسات الأغذية الأمريكي" بخسارة 5.2 مليون وظيفة، وهو ما يقرب من نصف القوة العاملة في البلاد، بناء على خسائر قطاعات الصناعة، والخدمات، والزراعة.
وعجزت الدولة عن سداد الرواتب بشكل كامل ومنتظم، أما القطاع الخاص، فيمكن القول إنه لم يعد موجوداً، فالشركات المملوكة لكبار رجال الأعمال اضطرت إلى تسريح موظفيها، بعد سيطرة قوات "الدعم السريع" على غالبية العاصمة الخرطوم، حيث تتمركز شركات القطاع الخاص والعام والمناطق الصناعية، ومعها عمليات النهب والحرق الواسعة التي طالت المستودعات، مما اضطر البعض إلى الهروب بما تبقى معهم من رؤوس أموال إلى خارج البلاد.
تنشط مجموعات، أبرزها "لجان المقاومة" في العمل التطوعي، الذي تحول بالكامل خلال عام الحرب إلى السعي المستمر لتوفير الأكل لمن تبقى داخل العاصمة، قبل أن تتمدد المبادرات لتشمل مدناً أخرى اكتظت بالنازحين. واعتمدت المطابخ الخيرية بشكل رئيسي على الدعم الشعبي، الذي بدأ يتناقص مع استمرار الحرب، وفقدان مصادر الدخل، بل ونفاد المدخرات.
تشكو المنظمات الإنسانية العاملة في مجال الإغاثة والمساعدات من قلة الدعم من جهة، وصعوبة الوصول إلى المستحقين من جهة أخرى، وبين هذا وذاك يموت البعض بالجوع فعلياً.
السودانيون الذين بدأوا بعد لأي، التكيف مع سياسات البنك وصندوق النقد الدوليين، التي فرضتها الحكومة وانتهت إلى انفجار مدوٍّ في الأسواق، هم الآن أمام واقع أكثر ظلاماً وسط حرب طاحنة، رمت بكل قسوتها على المواطنين، الذين لا يزالون يدفعون الفواتير الباهظة، أمناً، مأكلاً، مشرباً وعلاجاً.