عام من حرب السودان…لماذا لم يتغيّر ميزان القوة على الأرض؟

المعادلة الثابتة الآن بعد عام من الحرب، هي أن الجيش لم يتمكن من تحقيق مكاسب بعد استرداده مباني الإذاعة والتلفزيون، لكنه أيضاً لم يخسر مواقع جديدة. كما أن قوات "الدعم السريع" بعد السيطرة على ولاية "الجزيرة"، خسرت كل معاركها العسكرية في "أم درمان"، وفي "بابنوسة" غرب "كردفان"، على الرغم من أنها أعدت حشوداً غير مسبوقة للسيطرة على هذه المدينة وهي أهم مدن غرب "كردفان"، لكنها لم تتمكن من ذلك.
2024-05-02

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
السودان ينزف

مع بلوغ الحرب في السودان عامها الأول، لا تزال خارطة السيطرة العسكرية هي ذاتها التي تشكلت منذ شهور الحرب الأولى، حيث سيطرت قوات "الدعم السريع" على غالبية العاصمة وكامل إقليم "دارفور" باستثناء عاصمة الإقليم، مدينة "الفاشر"، وأجزاء من "كردفان". كان ذلك، قبل أن تتمدد هذه القوات جنوب الخرطوم، وتتوغل داخل ولاية "الجزيرة"، الواقعة وسط البلاد في كانون الأول/ ديسمبر 2023.

بالمقابل، طرأ تحول طفيف على وضع الجيش في مدينة "أم درمان". فبعد ركود طويل في وضع الدفاع، الذي استمر لأكثر من عشرة أشهر، بدأ الجيش السوداني بتنفيذ عمليات هجوم متتالية، في مدينتي "أم درمان" و"بحري" بالعاصمة الخرطوم، وتمكن في آذار/ مارس الماضي من السيطرة على مباني الإذاعة والتلفزيون، التي تمثل إحدى تمركزات قوات "الدعم السريع" الرئيسية، في مدينة "أم درمان". سعى الجيش إعادة السيطرة على ولاية "الجزيرة"، حيث انطلقت خلال هذا الشهر عملية عسكرية مشتركة متعددة المحاور، لكن سرعان ما توقفت العمليات العسكرية حول ولاية "الجزيرة".

خلال عام كامل من الحرب، بدا أن إعادة سيطرة الجيش على أي موقع، ليست باليسر الذي يتوقعه عامة الناس وهم يتابعون عملياته الهجومية، إذ يتطلب استرداد موقع - في حرب المدن - مراحل عديدة من التأمين وتثبيت السيطرة، ما يعني أن الجيش يحتاج إلى وحدات صغيرة كاملة التجهيز، عسكرياً، وبشرياً ولوجستياً في كل موقع يسترده، وهذا فيما يبدو ما لا تتوافر إمكانيته لدى الجيش الآن، باستثناء نطاق محدود في مدينة "أم درمان"، وهو ما حدث مؤخراً بعد استرداد مباني الإذاعة والتلفزيون، الذي استغرق الإعداد له ستة أشهر .

المُسيْرات .. سلاح فعال وحاسم في حرب السودان

منذ بداية الحرب في 15 نيسان/ أبريل 2023، تفوقت قوات "الدعم السريع" على الجيش بأسلحة المُسيْرات، والقنّاصة، ومضادات الطيران، علاوة على كثافة المشاة. وامتلكت قوات "الدعم السريع" المسيرات قبل وأثناء الحرب، إذ استخدمتها في مهام الاستطلاع والهجوم.

وأجبرت مسيرات قوات "الدعم السريع" الجيش على الانسحاب من عدة مواقع، ذلك منذ الشهور الأولى، إذ سيطرت على مباني الإدارة الاستراتيجية التابعة للجيش جنوب الخرطوم، الأمر الذي مكّنها من السيطرة على جسر رئيسي يربط الخرطوم بأم درمان. ثم تمددت شمالاً نحو وسط الخرطوم وأحكمت قبضتها عليها. وباستخدام المسيرات أيضاً، تمكنت قوات "الدعم السريع"، من السيطرة على الاحتياطي المركزي، ومجمع اليرموك الحربي جنوب الخرطوم بعد انسحاب الجيش. ولما لم يكن للجيش أجهزة تشويش متقدمة تُعطِّل نشاط الطائرات المسيّرة، فقد اضطر لانسحابات متتالية من مواقع مهمة في العاصمة الخرطوم، ثم مدن "دارفور" غربي البلاد، ثم مدينة "مدني" وسط السودان، التي سقطت في منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2023.

خلال عام كامل من الحرب، بدا أن إعادة سيطرة الجيش على أي موقع، ليست باليسر المتوقع، إذ يتطلب استرداد موقع - في حرب المدن - مراحل عديدة من التأمين وتثبيت السيطرة، ما يعني أن الجيش يحتاج إلى وحدات صغيرة كاملة التجهيز، عسكرياً، وبشرياً ولوجستياً في كل موقع يسترده، وهذا فيما يبدو ما لا تتوافر إمكانيته لدى الجيش الآن

لاحقاً، حصل الجيش على مسيرات وأسلحة قنص متقدمة، في محاولة منه لتعديل ميزان القوة على الأرض. وحينما أعلنت وزارة الخارجية السودانية ــ مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ــ عن استئناف العلاقات مع إيران بعد قطيعة دامت 7 سنوات، كانت المسيرات الإيرانية متعددة المهام، ذائعة الصيت ("مهاجر") قد دخلت في العمليات العسكرية. وعلى الرغم من أن الجيش يتفوق على قوات "الدعم السريع" بسلاح الطيران الحربي والدبابات، إلا أن هذه الأسلحة لا تحقق فاعلية في حرب المدن، مثل المسيرات التي حققت فعلاً فرقاً واضحاً للجيش - ولو طفيفاً - ليس من حيث استرداد مواقع وإعادة السيطرة عليها، بل من حيث إلحاق الخسائر بالطرف الثاني.

ومع سباق التسليح بالمسيرات بين الطرفين، تراجعت إلى درجة كبيرة الاشتباكات التقليدية، واستهدفت مؤخراً مسيرات بعيدة المدى مواقع في مدن لا تشهد أيّة عمليات عسكرية: "عطبرة"، و"شندي" - شمال الخرطوم، و"القضارف" - شرق السودان، و"مروي" - شمال البلاد. لكن قوات "الدعم السريع" لم تتبنَ هذه العمليات، كما لم يصدر الجيش أي توضيحات بشأن هذه المسيرات الجديدة بعيدة المدى.

معارك روتينية…. خريطة عسكرية ثابتة!

المعادلة الثابتة الآن بعد عام من الحرب، هي أن الجيش لم يتمكن من تحقيق مكاسب بعد استرداده مباني الإذاعة والتلفزيون، لكنه أيضاً لم يخسر مواقع جديدة. كما أن قوات "الدعم السريع" بعد السيطرة على ولاية "الجزيرة"، خسرت كل معاركها العسكرية في "أم درمان"، وفي "بابنوسة" غرب "كردفان"، على الرغم من أنها أعدت حشوداً غير مسبوقة، للسيطرة على مدينة "بابنوسة" أهم مدن غرب "كردفان"، لكنها لم تتمكن من ذلك.

ويبدو بجلاء، أن دخول قوات "الدعم السريع" إلى ولاية "الجزيرة"، قد مثّل نقطة فارقة في مسار عملياتها العسكرية. فعلاوة على الجرائم والانتهاكات واسعة النطاق التي ارتكبتها هناك، والتي اضطرتها إلى وقف العمليات العسكرية فعلياً، فإن طبيعة تركيبة هذه التشكيلات القبلية، التي تقاتل بهدف الغنيمة تجعل مسألة الخلافات القبلية بين مكوناتها أمراً وارداً، بل ويمكن أن يكون حاسماً في تفتتها. وقد بدت ملامح ذلك في ولاية "الجزيرة"؛ بإلصاق الجرائم والانتهاكات بمكونات قبلية محددة داخل هذه القوات لتقديمها كباش فداء، ما عرّض إثنيات بعينها للتصفيات الميدانية، وهو ما يترتب عليه بلا شك وعلى أقل تقدير، سحب أو تراجع الدعم السياسي من قبل بعض المكونات القبلية.

منذ بداية الحرب في 15 نيسان/ أبريل 2023، تفوقت قوات "الدعم السريع" على الجيش بأسلحة المُسيْرات، والقنّاصة، ومضادات الطيران، علاوة على كثافة المشاة. وامتلكت قوات "الدعم السريع" المسيرات قبل وأثناء الحرب، إذ استخدمتها في مهام الاستطلاع والهجوم.

لاحقاً، حصل الجيش على مسيرات وأسلحة قنص متقدمة، في محاولة منه لتعديل ميزان القوة على الأرض. وحينما أعلنت وزارة الخارجية السودانية ــ مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ــ عن استئناف العلاقات مع إيران بعد قطيعة دامت 7 سنوات، كانت المسيرات الإيرانية متعددة المهام، ذائعة الصيت ("مهاجر") قد دخلت في العمليات العسكرية.

كما أن وضع قبيلة "المسيرية"، التي تمثّل ثاني كتلة رئيسية في قوات "الدعم السريع" بعد قبيلة "الرزيقات"، لم يعد كما كانت عليه الحال، فمحاولات قوات "الدعم السريع" لاجتياح مناطق غرب "كردفان"، وهي معاقل قبيلة "المسيرية"، كانت - ولا زالت - أمراً غير مقبول عند هذه المجموعات، التي رفضت بشكل معلن محاولات قوات "الدعم السريع" الدخول إلى مناطقها.
خلق ذلك شقة داخل قوات "الدعم السريع"، التي تعاني تفلتات قبلية بين مجموعاتها، في بعض مناطق سيطرتها.

لكن، بالمقابل، فإن الدعم الإماراتي لقوات "الدعم السريع" لم يتوقف بتاتاً، على الرغم من سلاح العقوبات الأمريكية الذي أُشهر بين الفينة والأخرى. ومقابل هذا الدعم الذي لا ينقطع، لم يحصل الجيش على دعم مماثل، باستثناء الدعم المصري الذي يبدو محدوداً بالمقارنة مع الدعم الإماراتي لقوات "الدعم السريع"، ويبدو أن هناك محاذير إقليمية ودولية تجاه دعم الجيش السوداني، الذي تتصدر مجموعات واسعة من تنظيم الإسلاميين مسألة دعمه السياسي.

وفي اجتماع داخلي لقادة الجيش أبدى قائده، عبد الفتاح البرهان، تذمراً من الظهور الإعلامي الكثيف لكتائب الإسلاميين التي تقاتل مع الجيش، وعزا شح الدعم الإقليمي إلى هذا الظهور، وفقاً لتسريبات نشرتها صحيفة "السوداني".

لكن، كانت أمام الجيش مساحات موفورة لتحقيق انتصارات كاسحة، بعيداً عن ميدان المعارك الذي تغلبت فيه قوات "الدعم السريع" عليه، ووضعت كل وحداته تحت الحصار، فالجيش لم يحسن إدارة معركته إعلامياً وسياسياً، على الرغم من أن الخسائر الأخلاقية والسياسية لقوات "الدعم السريع" منحته مساحة شاسعة للحركة.

الدعم الإماراتي لقوات "الدعم السريع" لم يتوقف بتاتاً، على الرغم من سلاح العقوبات الأمريكية الذي أُشهر بين الفينة والأخرى. ومقابل هذا الدعم الذي لا ينقطع، لم يحصل الجيش على دعم مماثل، باستثناء الدعم المصري الذي يبدو محدوداً بالمقارنة مع الدعم الإماراتي لقوات "الدعم السريع".

دخول قوات "الدعم السريع" إلى ولاية "الجزيرة" مثّل نقطة فارقة في مسار عملياتها العسكرية. فعلاوة على الجرائم والانتهاكات واسعة النطاق التي ارتكبتها هناك، والتي اضطرتها إلى وقف العمليات العسكرية فعلياً، فإن طبيعة تركيبة هذه التشكيلات القبلية، التي تقاتل بهدف الغنيمة تجعل مسألة الخلافات القبلية بين مكوناتها أمراً وارداً، بل ويمكن أن يكون حاسماً في تفتتها.

الآن يدور زخم كثيف حول مدينة "الفاشر" شمال "دارفور"، آخر مدن الإقليم التي تنوي قوات "الدعم السريع" السيطرة عليها. وقد صدرت تحذيرات دولية وإقليمية لكافة القوى المسلحة بأن تظل مدينة "الفاشر" بعيدة عن الاقتتال. لكن قوات "الدعم السريع" الآن تطوق المدينة، التي تحتضن جيوشاً جرارة من قوات الحركات المسلحة إلى جانب الجيش، ومن الصعب توقع ما يمكن أن يحدث في حال انفجرت الأوضاع فيها.

ومع انسداد أفق الحل السياسي وجمود منابر التفاوض، فإن استمرار العمليات العسكرية بالوتيرة ذاتها، لن يغيّر في ميزان القوة على الأرض الذي ظل ثابتاً طيلة عام، إلا إذا توقف الدعم الإماراتي لقوات "الدعم السريع"، أو حصل الجيش على دعم مماثل. وفي هذه الحال، سوف تنتقل قواعد الحرب إلى "اللعب على المكشوف". وساعتها، سيتحول السودان إلى ساحة حرب دولية طويلة المدى.

للكاتب نفسه