منذ ما يسمى بفترة "النهضة" مع نهايات القرن التاسع عشر، جرى تقديم التعليم كأحد أعمدة الوحدة الوطنية وكرافعة للتغيير المجتمعي المأمول. برز ذلك في كتابات وخطب مفكرين نهضويين على امتداد منطقتنا بلا استثناء لبلد أو ملّة، وذلك على الرغم من تعدد منطلقاتهم الفكرية. وهم كانوا كثراً ولكنهم قاربوا الموضوع بصوت واحد يؤكد على "ضرورة التعليم العام". كما أن التعليم كان مرتكزاً للقوى السياسية التي صعدت إلى السلطة منذ منتصف القرن العشرين، باعتباره مفتاحاً للتقدم وللدخول في "الحداثة"، وللتحرر الوطني، ولتحقيق الذات.
الأمر لا يتعلق بغزة أو بفلسطين فحسب
09-02-2024
ولكن ما تحقق في القرن العشرين من تعميم التعليم - المجاني والمفتوح للجميع، والإلزامي في أغلب الأماكن في مرحلته الابتدائية وأحياناً التكميلية، ومن نشوء الجامعات الوطنية الرسمية - ينهار اليوم. وقد تسرّعت وتيرة الانهيار مع مطالع القرن الواحد والعشرين، وما زالت تتوسع. ينهار مستوى ما يضمنه هذا التعليم للطلاب من معرفة ومن تكوين ومن حثّ على اكتساب الثقافة ومن إعلاء لقيمتها، وتنهار أدواته كافة، بما فيها أبسطها، أي الأبنية! لقد "أُسقطت" مكانته في استراتيجيات السلطات الحاكمة وفي الميزانيات المخصصة له. ويبدو بجلاء أن هذا الهدف الطموح والمركزي قد جرى التخلي عنه تماماً من قبل السلطات الحاكمة.
ولأن "السفير العربي" يعتبر الموضوع قضية كبرى، فقد أسس في تموز/ يوليو 2013، بعد عام واحد من نشأته، زاوية تحمل عنوان "التعليم.. قضية"، (يوجد فيها 148 نصاً)، وحاول تتبّع الموضوع بكل تفاصيله في كافة بلدان المنطقة.
تقول مقدِّمة هذه الزاوية:
"تقف المنطقة العربية في أسفل كل البيانات الخاصة بالتعليم في العالم. ومن المشروع اعتبار ذلك واحداً من مفاتيح فهم حالها المتردية على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية، فضلاً عن تلك الثقافية والفنية والسياسية. وبالطبع، فلا يقتصر الانشغال بالتعليم على غاية الحصول على شهادة، وإن كانت تلك واحدة من معايير ووسائل "الترقي الاجتماعي"، ومن زيادة فرص الحصول على عمل بل والأمل في شغل عمل "أفضل" (أقل مشقة وأعلى دخلاً)... تلك أهداف قائمة، وإن كان يغلب عليها هاجس تلبية الغاية الفردية من التعليم، وإن كانت الوقائع تكذِّب بعضها بالنظر إلى الكمّ الهائل من المتعطلين عن العمل من حملة الشهادات العليا. وإنما مسألة التعليم تتصل بشكل مباشر بالوعي الجماعي والتعاون الاجتماعي في أي مجتمع، أي وباختصار بعملية تشكله. وقد راهنت أفكار النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر على التعليم العام، نوعية وحجماً، للخروج من مأزق "تخلفنا". واستعاد عبد الناصر وسائر أقرانه من الرعيل النهضوي الثاني المراهنة نفسها، ووضعوها في التطبيق بحكم وصولهم إلى السلطة في بلدانهم. ومن دون ريب، مثَّل ذلك التحول الاجتماعي الأبرز لمجتمعاتنا في القرن العشرين، تماماً كما ترافق التراجع عن هذا، وخصخصة التعليم ـ أي حرمان الأغلبية الساحقة من التعليم الجيد ـ مع سائر خطوات التراجع عن كل الطموحات في تحقيق الذات والتحرر الوطني، وترافق تماماً مع الخصخصة في الاقتصاد، وفي الموارد الطبيعية، وفي الحقوق وفي الأمن".
تزداد الهوة تعمقاً بين الوضع العام السائد في المجتمع لهذه الجهة وبين شريحة رقيقة تلجأ إلى المدارس والجامعات الخاصة - على مختلف مستوياتها من الرديء إلى الممتاز، وتَفاوت الأكلاف المترتبة عليها.
ويُطرح بقوة موضوع الارتداد عن التمدرس من الأصل، أو نزيف التسرب المدرسي. ويشمل ذلك في الدرجة الأولى أبناء الشرائح الشعبية في المدن، والعشوائيات، وكثيراً من الأرياف.
وتنتشر ظواهر المدارس المقصورة على أبناء طوائف بعينها، والمنشأة أصلاً بفعل قوى نافذة منتمية إلى هذه الطوائف أو حتى منتمية إلى قوى سياسية متنفذة. وهي ظاهرة مختلِفة عن تقليد كان سائداً في بلد كلبنان مثلاً، نشأت فيه منذ قرون المدارس الخاصة التابعة لإرساليات أجنبية أو لمراكز دينية محلية، ولكنها ظلت تستقبل من يرغب من أبناء الطوائف الأخرى...
كما يثار وبشكل بالغ الإلحاح أثر ذلك على النساء، حيث أدخل التعليم العام المجاني ملايين الفتيات من المدن والأرياف إلى الصفوف، وسمح وجود جامعات وطنية مجانية ومعاهد تقنية عليا لملايين النساء باكتساب التكوين والمهارات التي جعلت دخولهن الى سوق العمل، وكذلك توليهن مسؤوليات متنوعة، أمراً بديهياً وغيّرت من صورة البنية الاجتماعية كلياً.
وفي سياق انهيار التعليم العام، نشأت ظواهر هجينة ومفككة كـ"المراكز" ("السنترات") التي تعطي دروساً خصوصية غبّ الطلب، مبعثِرة منظومة التعليم والقدر ولو القليل من الدمج الاجتماعي، اللذين تمثلهما المدرسة العامة ومناهجها المعتمدة.
فما الذي يمكن رصده من هذه الحركة التي لا تنفك تتوسع؟ لن يتمكن ملف واحد من الإحاطة بهذا المجال الجوهري، والذي يرهن المستقبل نفسه غير مكتفٍ بتخريب الحاضر فحسب.
ولا بدّ كذلك من التشديد على الأثر بالغ العنف على التمكن من استمرار التعليم، حيث تسود الحروب والنزاعات المسلحة.
ملف خاص:
إلى غزة وأهلها
وأخيراً، فقد غاب عن هذا الدفتر النصّ الذي يخص التعليم في قطاع غزة، لأن ما كُتب فيه وعنه تحوّل إلى أشلاء ودمار على يد العدوان الإسرائيلي الإبادي الجاري منذ مطلع العام الدراسي الحالي 2023-2024 وما يزال، علماً أن التجربة الغزية كانت بالغة الثراء لجهة تبني الحرص العام على التعليم، كوسيلة لمقاومة الانسحاق الذي مثّله الحصار والخنق السابقان.
هذه مقاربة أولى تسجِّل المعطيات الموضوعية فحسب وأرقامها.
فما الذي يمكن رصده عبر هذه الحركة التي لا تنفك تتوسع؟ لن يتمكّن ملف واحد من الإحاطة بهذا المجال الجوهري والذي يرهن المستقبل نفسه، غير مكتفٍ بتخريب الحاضر فحسب.
للاطلاع على نصوص الدفتر:
https://shorturl.at/fr589