المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى، حسب مظاهر الرفاهية "الجلبابية"؟ وما الذي يحدث في جيوب هذه الجلابيب قبل العيد؟
2024-04-04

عائشة بلحاج

صحافية وباحثة في حقوق الإنسان، من المغرب


شارك
أجواء العيد في أحد أحياء مدينة طنجة، المغرب. تصوير: عبد العزيز الأعرج

صباح العيد، تنطلق الجلابيب من كل الجهات، وبكل الألوان والأشكال، قاطعة كلّ شارع ودرب وزقاق. أفواجٌ من النساء والرجال والأطفال، تنتشر في توزيع جديد لقوس قزح. يتفرق كل فوج منها إلى بيت العائلة، حيث يجتمع شمل ما تُشتِّته الأيام. فعيد الفطر يعني أن الحكاية تبدأ مبكراً، ولكن من دون دراما عيد الأضحى، الذي تغيب عنه الأجواء الملونة هذه.
يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى، حسب مظاهر الرفاهية "الجلبابية"؟ وما الذي يحدث في جيوب هذه الجلابيب قبل العيد؟

المائدة أول مقاييس خفّة الجيوب

في كل زمان ومكان، يمثّل العيد مناسبة مجيدة يُحتفى بها بشكل مكثف، خاصة مع غنى المطبخ واللّباس المغربيين. لكنّه غنى مرهق، في زمن متضخّم الأسعار إلى درجة الغليان. لعل إلقاء نظرة خاطفة إلى موائد الأسر والعوائل التي كانت تجتمع حولها الأفواج السابقة في العيد، سيكون كافياً لإدراك حجم معاناتها.

تتشكّل حلويات المغاربة عادة من اللوز أو الفول السوداني، كمكوّنين رئيسيين، ما عدا البسكويت الذي قد يخلو منهما أو يشملهما. هو حرّ في ذلك، حسب القدرة والذوق. لكن كيلو غرام حلويات اللّوز يصل إلى 160 درهماً (16 دولار) في جل المحلات، بعد أن كان 12 دولاراً. ووصل كيلوغرام حلويات الفول السوداني إلى 8 دولارات. فصار كل منهما عصيّاً عن الحضور، تكتفي الأسر منه بأقلّ القليل، لتزيين المائدة لا لإشباعها، في مناسبة لا تتكرّر مرة أخرى في السنة.

كانت الأسر تصنع حلوياتها في البيت، فذلك يوفّر عليها مبالغ لا بأس بها، ويُمكنّها من إعداد حجم جيد منها يكفي لأسبوع العيد، بما يسرُّ كبارها وصغارها. لكن معظم الأسر الآن تكتفي بشراء مقادير صغيرة منها، فهذا أوفر مع غلاء المواد الأوّلية. على الرغم من أنّ الكمية في هذه الحال بالنسبة للأُسر ذات العدد الكبير، لا تمثل سوى "برَكة" العيد، لتصبح من نوافذ الواجب، لا من باب الرّغبة أو القدرة.

على مائدة الغذاء، تخلّت معظم الأسر، منذ فترة طويلة، عن عادة طبخ الديك البلدي في العيد، وصارت تكتفي بنظيره الرّومي، بسبب كثرة المصاريف وكبر حجم الأسر. لكن أسعار هذا الأخير ارتفعت في السّنوات الأخيرة، بما يقارب الثلث. مع العلم أن العائلات متوسطة الدخل كانت بحكم العادة، تضم مائدتها في المناسبات الكبرى مثل الأعياد والأعراس، طبقين رئيسيين، يشمل الأول اللحم بالبرقوق المعسل، والثاني الدجاج "المحمر". لكن اللحم بدأ يغيب بالتدريج، تاركاً الدجاج وحيداً على مائدة العيد.

الأسعار السّابقة تشمل المدن الكبرى، مثل: الدار البيضاء، الرباط، مراكش، طنجة، فاس. بينما المدن الصّغيرة أو القرى، وهي مناطق واسعة من البلاد، لا تزال القدرة الشّرائية فيها ضعيفة كما كانت، ولا زال حجم الاستهلاك فيها ضئيلاً، والعيد بالنسبة إليها أكثر بساطة، لغياب الإمكانات، وهو همٌّ تتساوى فيه الأسر. عكس ما هي عليه المدن الكبرى، حيث تتباعد المستويات وتتقارب الطموحات. ويحاول الفقراء تخفيف الهوة في المناسبات، مع جيرانهم وأقاربهم الأكثر حظوة.

اللحم بالبرقوق طبق رئيسي

عمل المرأة رحمة متبادلة

الملاحظ أن العيد صار أكثر رحمة بالنساء، بعد أن صار كثير منهن يعملن، وبالتالي يملكن القرار الاقتصادي داخل البيت. فتغيرت بالتّدريج وضعية المرأة في العيد، إذ صارت تُقبِل بلا تردد على محلات الحلويات، عوضاً عن العمل الشاق في إعدادها في البيت، بغضّ النّظر عن العامل الاقتصادي سابق الذكر.

تحققت العدالة الاجتماعية في شكل معكوس، بحيث يشكو من الأسعار بشكل متساو الفقير ومتوسط الدخل معاً. ربما لم تلجأ الحكومة إلى تعويم العملة، لكنها ترفع الدعم عن المواد الأساسية بشكل تدريجي، وتسمح بزيادات هائلة في أسعار مواد أخرى.

عكس ما هي عليه المدن الكبرى، حيث تتباعد المستويات وتتقارب الطموحات، لا تزال القدرة الشّرائية في المدن الصّغيرة أو القرى - وهي مناطق واسعة من البلاد - ضعيفة كما كانت، ولا يزال حجم الاستهلاك فيها ضئيلاً، والعيد بالنسبة إليها أكثر بساطة، لغياب الإمكانات، وهو همٌّ تتساوى فيه الأسر.

قد يعني ذلك تكاليف إضافية، من جهة، لكنه من جهة أخرى مصدر رزق متضاعِف للنساء ذوات التعليم البسيط، وملاذ فرص عمل أكبر في مهنة صناعة الحلويات في البيوت، التي صارت مصدر دخل مهمّاً لعدد من الأسر. خاصة مع دخول وسائل التواصل الاجتماعي إلى مجال التسويق، لصالح العاملات من البيت.

سيدة مغربية تصنع الحلويات في بيتها للبيع

الأطفال وكسوة العيد السعيدة

دخول السّلع الصينية كان رحمة على جيوب الأسر، التي كانت موزعة بين البضائع المستوردة الغالية، والمحلية التي هي أقل سعراً لكنها تبقى مرتفعة، خاصة في الأعياد. وعلى ذلك فهي رحمة تقل فوائدها مع الزمن، فيصبح العيد همّاً ثقيلاً. فبينما تحاول بعض الأسر اقتناء قطع ملابس خارج فترة الأعياد، يكون كثيرٌ منها لا يملك فائضاً تتصرّف فيه خارج الإكراهات اليومية، إلى غاية الأسبوعين الأخيرين قبل العيد، حيث تقتطع مكرهة ثمن كسوة العيد. لكن أسعار هذه الأخيرة ترتفع، في ذلك الوقت، بثلاثة أضعاف أو أكثر.

ومنذ فترة طويلة، صار تقليداً دائماً قيام باعة الملابس بالمضاربة، وإخفاء ملابس الأطفال إلى أيام "العواشر"، وهي الفترة السابقة لكل عيد، التي تُبتزّ فيها جيوب الناس بحكم الضرورة.

المظهر أول هموم الشابات في عصر التواصل

يذهب جزء مهم من دخل الأسر، في الشهر السابق للعيد، إلى الخياط التقليدي، وهي عادة اتسعت أكثر من أيّ وقت مضى، حيث كانت عادة خياطة جلباب جديد خاص بالعيد، مقصورة على بعض المناطق. الآن، مع عصر الأنستغرام، تصرّ النّساء والفتيات في جلّ المدن، على الحصول على جلباب جديد، يليق بصورة العيد.

 العيد صار أكثر رحمة بالنساء، بعد أن صار كثير منهن يعملن، وبالتالي يملكن القرار الاقتصادي داخل البيت. فتغيرت بالتّدريج وضعية المرأة في العيد، إذ صارت تُقبِل بلا تردد على محلات الحلويات، عوضاً عن العمل الشاق في إعدادها في البيت، بغضّ النّظر عن العامل الاقتصادي.

قد يعني شراء الحلويات الجاهزة تكاليف إضافية، لكنه مصدر رزق متضاعِف للنساء ذوات التعليم البسيط، وملاذ فرص عمل أكبر في مهنة صناعة الحلويات في البيوت، التي صارت مصدر دخل مهمّاً لعدد من الأسر. خاصة مع دخول وسائل التواصل الاجتماعي إلى مجال التسويق، لصالح العاملات من البيت.

وعلى الرغم من الثقل الذي تلقيه الجلابيب على جيوب الأسر، إلّا أنّها مكافأة صغيرة تصرّ غالبية النساء على الحصول عليها. ولبعضهن، هي فرصة لخياطة جلباب السّنة الجديد، فمعظم هذه الفئة من الأقل حظاً، لا يمتلكن الإمكانات لخياطة أكثر من جلباب واحد في السنة. وهي فرصة للزهو به في الزيارات العائلية يوم العيد.

مقالات ذات صلة

أسعار الخِياطة التقليدية ارتفعت عن السابق بشكل ملحوظ. فكانت الجلابة البسيطة تكلف 50 دولاراً في المدن الكبرى، (20 للقماش و30 للخياطة)، وصارت تكلف الآن على الأقل 70 دولاراً، أما التي تحتوي على تطريز الموضة الحالية، فتصل إلى ما بين 80 و120 دولاراً. وبالنّسبة للفاخر منها، فلا سقف فعلي لها.

عودة حليمة إلى همها الأبدي في العيد

بالنسبة للرجال، فالعيد يقتصر على ثقل مصاريفه، وعلى الراحة الممتعة في يومه، والاستمتاع بما تُعدّه النّساء فيه. وهو جزء ما زال ذكورياً جداً في تقاليد المجتمع. فحتى لو قام بعضهم بالمساعدة في بيته في الأيام العادية، فإنه في العيد معفيّ منها.

هنا تجتمع الأسر، وتصبح فجأة كلّ النساء مسؤولات عن الطبخ، وكلّ الرجال مرتاحين في الصالون، ينتظرون بلا قلق الوجبات وأباريق الشاي المتواترة. صحيح أنّهن تخلّين عن صنع حلويات العيد، وكثير من مشاقه، لكن هناك أشياء لا مفر منها، في مجتمع متمسك بذكوريته في المظاهر الاحتفالية، ومنها كل الطبخ الفوري ليوم العيد.

لن تُرقّع الدولة ما يثقبه التضخم

مع رفع الدولة الدعم عن عدد من المواد الأساسية التي زادت أسعار بعضها، وسترتفع أسعار أخرى خلال الفترة المقبلة، مثل قناني الغاز التي سيرفع سعرها خلال الأيام القادمة بنسبة 25 في المئة. أعلنت الحكومة مؤخّراً عن دعم اجتماعي مباشر للأسر ضعيفة الدّخل، يتراوح بين 500 و1000 درهم. وهو دعم لا يكفي لموازنة الزيادات في الأسعار.

منذ فترة طويلة، صار تقليداً دائماً قيام باعة الملابس بالمضاربة، وإخفاء ملابس الأطفال إلى أيام "العواشر"، وهي الفترة السابقة لكل عيد، التي تُبتزّ فيها جيوب الناس بحكم الضرورة. العيد في الظاهر صار عبئاً أكثر منه احتفالاً. فبهجة العيد والبذخ البسيط الخارج عن المعتاد في الطعام واللباس، لا يُنْسِيان السبيل إليه، المحفوف بالمخاطر والفخاخ، التي بالكاد تخرج منها الأسر بسلام.

لكن الأسر التي يمكن أن تستفيد من هذا الدعم، هي التي لا تمتلك، غالباً، مداخيل رسمية، ما قدّرته الحكومة بحوالي مليون أسرة (3.5 مليون مغربي). وهو دعم لن يقدر على سد فجوة الأسعار المتسعة، كما يُبقي الآخرين (سبعة ملايين أسرة) في مهب الزيادات الجديدة.

مع العلم أن الأسر متوسطة الدّخل، التي كانت تعيش بشكل مريح نسبياً، صارت الآن تعاني بدورها من ارتفاع أسعار المواد الغذائية. فتحققت العدالة الاجتماعية، في شكلها المعكوس، بحيث يشكو من الأسعار بشكل متساو الفقير ومتوسط الدخل معاً.
ربما لم تلجأ الحكومة إلى تعويم العملة، لكنها ترفع الدعم عن المواد الأساسية بشكل تدريجي، وتسمح بزيادات هائلة في مواد أخرى.

عيد أو عبء؟

في آخر مؤشرات التنمية الصّادرة منذ أيام، احتل المغرب المرتبة 123 عالمياً، متأخراً عن دول الجوار، بسبب ظروف الصحة والسكن والأجور الهزيلة لفئات واسعة في المناطق المهمشة، التي لا يصل إليها اهتمام الدولة، فتغيب عنها فرص العمل ويحضر ظل ما يشبه التعليم، أما الخدمات الصّحية فإشاعة قليلاً ما تصح. مع ازدياد غنى فئة قليلة، وفقر الفئة الكبيرة.

بالنسبة للرجال، فالعيد يقتصر على ثقل مصاريفه، وعلى الراحة الممتعة في يومه، والاستمتاع بما تُعدّه النّساء فيه. وهو جزء ما زال ذكورياً جداً في تقاليد المجتمع. فحتى لو قام بعضهم بالمساعدة في بيته في الأيام العادية، فإنه في العيد معفيّ منها.

بشكل عام، يمكن القول إنّ العيد في الظاهر صار عبئاً أكثر منه احتفالاً. فبهجة العيد والبذخ البسيط الخارج عن المعتاد في الطعام واللباس، لا يُنْسِيان السبيل إليه، المحفوف بالمخاطر والفخاخ، التي بالكاد تخرج منها الأسر بسلام.

وهي مخاطر لا تكف عن التعمّق، لكن مظاهر الاحتفال لا تتراجع على الرغم من أنفها، فالمظاهر صارت تفوق قدرة ورغبة الجميع. كما أن الحاجة إلى لحظة فرح ومتعة لا تتحقّق إلا في العيد، على الرغم من الإكراهات، فتنتصر على ما عداها.

مقالات من المغرب

للكاتب نفسه

الناجح: لا أحد

نحتار ونحن نَطّلع على مؤشرات التعليم في المغرب خلال العقدين الأخيرين، بين مستوى المدارس والتعليم حسبَ ما نعاينه فعلياً من جهة، وما تقوله من جهة ثانية الإحصاءات الدّولية حول التعليم،...