"تأتي المكارِه حين تأتي جملة،
وأرى السرور يجيء في الفلتات".
الإمام الشافعي
مع توالي الساعات والأيام، بعد شروق يوم السبت السابع من تشرين أول/ أكتوبر الجاري، أتحقق من صدقية المشاهد القادمة من غزة والمستعمرات العسكرية والاستيطانية الإسرائيلية المتاخمة للجدار المحيط بالجانب الشرقي من المدينة.
عكست تلك الصبيحة مسار التاريخ. التبرير الماضي، منذ "النكبة" وحتى اليوم، للجريمة الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، بات حدثاً هامشياً لا يكاد يُسمع ولا يُرى، مقارنة بجهنم التي تصُبها إسرائيل الآن على بيوت الناس في غزة، مدفوعة بتحريض أمريكي على قتل السكان بشكل تجاوز كل عقل.
الإبادة كأيديولوجيا
صبيحة ذلك السبت، ذكرى نصر أكتوبر العظيم الذي تحول بعد خمسين عاماً إلى مناسبة لانتشار صور "الكوميك" الساخرة من هزيمة إسرائيل عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، جراء الهزيمة التي مُنيت بها.
في حضرة طوفان المخيم
12-10-2023
مُقابل كلّ تكنولوجيا العالم
12-10-2023
أحفظ هدير محرك سيارات التويوتا التي كانت علامة معروفة لمن يعيش في غزة، لأن فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة كانت تستخدمها كذلك في الاستعراضات العسكرية المعتادة التي تعقب كل معركة خرجت منها بقواعد اشتباك جديدة. كانت قوات جيش، وتتسلح بالحاضنة الشعبية والإرادة والعمل. بعد ساعات توالت الصور الحية من المعركة، إعلاناً عن عملية عسكرية ليس من الممكن التكهن بالمدى الذي ستذهب إليه مجرياتها بعد.
بعد خمسة أيام، قضى ما يزيد عن ألف شهيد، أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين، وتقول وزارة الصحة إنّ عدداً كبيراً من الضحايا لا يزال تحت الأنقاض مع عجز كبير في معدات الإنقاذ من الكوارث ونقص الموارد الطبية. كما أن عدد الجرحى تجاوز أربعة آلاف جريح بحاجة للعلاج السريري، وهو ما يساوي ضعف عدد الأسرّة في مستشفيات غزة.
وصلنا اليوم الخامس وإسرائيل عاجزة عن الوصول إلى آلياتها العسكرية المعطوبة، والخراب حل بمستعمراتها في جنوب البلاد. وفي غزة، تتآكل المساحات وتتحول إلى جبال من الركام والأرض المدمرة.
وبالتوازي، تظل غزة متمسكة بعادتها المزمنة، وبكونها ثقباً أسود يجاور الحلم الصهيوني. إنها حقاً، في صبيحة يوم من أيام السبت التي لا تتكرر سوى مرة في زمن طويل، أحالته كابوساً. وليس هناك رجل رشيد من بين قادة العالم ليتحرك من أجل وقف المذبحة.
غزة – القاهرة، وبالعكس
في الصورة البعيدة الواصلة عبر الأقمار الصناعية نستطيع رؤية ألسنة اللهب والدخان تتصاعد من بين الضواحي المدمرة خلال ساعات النهار. وفي الليل يرسم السواد الأكحل الذي استوطن المدينة مشهداً مكثفاً جداً من نهاية العالم.
وصلنا اليوم الخامس وإسرائيل عاجزة عن الوصول إلى آلياتها العسكرية المعطوبة، والخراب حل بمستعمراتها في جنوب البلاد. وفي غزة، تتآكل المساحات وتتحول إلى جبال من الركام والأرض المدمرة.
غزة أرض مكتظة بالأرواح التي لا لها ذنب في كونها ابنة لمدينة صغيرة، ولم تصمم تاريخياً كواجهة آسيا على مصر، لاستيعاب تلك الكتلة العددية من اللاجئين الفلسطينيين الذين طردتهم إسرائيل من مدنهم وقراهم في جنوب فلسطين خلال النكبة، وفرضت عليهم الحصار منذ 17 عاماً، وشددّته في عدة مراحل وحروب شنّتها على القطاع، كان آخرها منذ نحو عام، انتهى بتشديد الحصار دون التزام بنحو عقد ونصف من المفاوضات برعاية قطر ومصر، وبغياب منظومة أمان وطنية قادرة على احتواء الواجهة البحرية وعلى تجاوز سياسات "استعمار المناطق" الصهيونية في أرض فلسطين.
نحن وإسرائيل: نقطة نظام
12-10-2023
كان هذا ما أراه، لا ما أعيشه، لأنني كنت محظوظاً بحصولي على فرصة للسفر عبر معبر رفح المخصص عمله، منذ فرض الحصار على غزة عام 2007، لسفر الحالات الإنسانية. وقد استغرقت تلك الفرصة انتظاراً طويلاً في قوائم المسافرين، للتحول في أيامٍ قليلة إلى فرصة حقيقية للنجاة.
خرجت مصادر الكهرباء والانترنت والماء عن الخدمة، في اليوم الثاني والثالث على بدء القصف، واتبع الناس سياسة التقنين في الأطعمة الغذائية والماء، نتيجة قطع الإمدادات عبر الحواجز العسكرية التي تسيطر عليها إسرائيل في مخارج ومداخل غزة، الذي ترافق مع إعلان مصر عن إغلاق معبر رفح الفاصل مع مدينة رفح الفلسطينية، نتيجة الغارات الإسرائيلية على بوابة المعبر.
بدأ الانتقام الإسرائيلي المحموم من الناس والشوارع والحجارة، وامتد ليغطي المساحات السكانية في قطاع غزة. لأن المقاومة لم تمنحها الفرصة للانصراف إلى حصر حجم الخسارة التي تكبدتها، بدأت الانتقام بالقصف بالجملة على المباني السكنية في الأحياء المكتظة بصورة مضاعفة أصلاً بفعل حركة النزوح الداخلية الكبيرة نتيجة القصف الكثيف.
منذ اليوم الثاني، بدأت الاتصالات تتعرض إلى التشويش أكثر فأكثر، وتقلصت فرصة الوصول إلى أحد الأقارب والأصدقاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى مرة كل عدة ساعات، لتتوقف شبكات الاتصالات والانترنت بعد انهيار الخدمات.
هندسة الاضطهاد
في خضم مرحلة تنفصل فيها خصائص المشهد على الأرض عن بعضها البعض، تشهد فلسطين المحتلة معطىً جديداً هو الأول من نوعه على مستوى تجريع إسرائيل الهزيمة. برزت أنياب شعور الأخيرة بخطر الزوال، وعادت لِما تجيد فعله، للتقليد الأكثر دموية في تاريخها: قصف بيوت الناس على رؤوس ساكنيها وإبادة العائلات، لتمسحها من قوائم السجل المدني. ولكن هذه المرة تخرج أحياءً بأكملها من الخدمة.
بلا عيون في غزة
13-05-2023
بدأت أولى ضربات استيعاب الصدمة، بتدمير برج فلسطين وإحالته ركاماً معجوناً بالذكريات والأمل والإنتاج. كان برجاً يحتوي على نحو ثمانين شقة سكنية، ومراكز مؤسسية وتجارية، وهو التكتيك نفسه المستخدم خلال أربعة حروب سابقة شنتها على غزة. تلجأ إسرائيل للتغطية على الفشل العسكري بضرب الحواضن الاجتماعية للمقاومة.
تحاصر إسرائيل مليوني فلسطيني في قطاع غزة منذ 17 عاماً، يشغلون النسبة الأكبر من الغطاء الأرضي في بقعة هي الأكثر كثافة سكانية في العالم.
بدأ الانتقام الإسرائيلي المحموم من الناس والشوارع والحجارة، وامتد ليغطي المساحات السكانية في قطاع غزة. لأن المقاومة لم تمنحها الفرصة للانصراف إلى حصر حجم الخسارة التي تكبدتها، بدأت الانتقام بالقصف بالجملة على المباني السكنية في الأحياء المكتظة بصورة مضاعفة أصلاً بفعل حركة النزوح الداخلية الكبيرة نتيجة القصف الكثيف.
أدى القصف المتواصل إلى تشريد نحو 500 ألف إنسان من سكان مدينة غزة، حتى باتوا يهرعون في شوارع المدينة مشياً على الأقدام بحثاً عن أقرب مركزٍ لإيواء المدنيين. تهجير جماعي لأهالي أحياء واسعة في مختلف مدن وقرى القطاع.
باستثناء الصور الجوية وبعض المراسلين الصحافيين الذين تمكنوا من إرسال الصور والتسجيلات التي توثق حجم الدمار الكارثي، كانت أيقونة الإشارة المنفردة في تطبيق التواصل ("واتساب")، للرسائل الأخيرة التي لم تصل، لأغلب من حاولتُ الوصول إليهم، قادرة على بث جبل من القلق في رأسي والتوتر الجسدي. هل أرسل مزيداً من الرسائل لمزيدٍ من الأصدقاء؟
بيد أن الرسائل الأخيرة وشتْ بمصير قاتم يحل على السكان في غزة. أكتشف، بعد وصول الرسائل من غزة متأخرة، عبر "واتساب"، إصابتهم الطفيفة – والحمد لله - بنيران القصف أو فقدهم لشخص عزيز، أو نجاتهم من الموت بقدرة عجيبة، بعد وقوع مجزرة.
إخلاء جماعي وفردي للسكان تسبب في حالات من البلبلة في بعض الأحياء، نتيجة اتصالات عملاء الاحتلال بالمواطنين وتوجيه أوامر عسكرية بإخلاء منازلهم والتوجه إلى منطقة أخرى، وبمرور عدة ساعات تصل أوامر جديدة نتيجة لعمليات التدمير والتهجير المستمرة في حركة متعاكسة بين شرق مدينة غزة وغربها وشمالها.
"تهجير.."، كان ذلك نص الرسالة التي وصلتني من صديق في غزة انضم لمئات الآلاف من الناجين من القصف ونازحي الحرب التي أعلنتها إسرائيل على غزة. "تهجير"، ولا يعرفون إلى أين سيذهبون بعد اكتظاظ المدارس والمستشفيات بهم.
يمضي الوقت سريعاً وخاطفاً في تلك اللحظات، وثقيلاً وجامداً كذلك، وبكثير من الأهوال والصدمة، ذلك أن الهشاشة اختمرت على نار عشرين عاماً من القتل والحصار المضروب على المدينة وناسها.
أحاول الوصول إلى بقية الأصدقاء والأحباء في المدينة التي ولدت وعشت فيها حتى أشهر قليلة مضت، ليهدأ القلق في قلبي، بعد جرعة مكثفة من منشورات الأصدقاء تنعي أحباء أو ضرراً في منزل لأحدهم.
وزارة الصحة في غزة تعمل من لا شيء، وأطقمها يعملون بنظام الطوارئ منذ اليوم الأول للعدوان. وبينما يستمر استهداف سيارات الإسعاف والطواقم الطبية المتعمد، يظل العاملون فيها إلى جانب متطوعي الدفاع المدني الفلسطيني والصحافيين الذين اغتالت إسرائيل خمسةً منهم، يزاوجون بين العمل والرغبة في الاطمئنان على أحبائهم وعائلاتهم الذين لا يعرفون مصيرهم وسط التسارع المخيف لوتيرة القصف.
تحاصر إسرائيل مليوني فلسطيني في قطاع غزة منذ 17 عاماً، يشغلون النسبة الأكبر من الغطاء الأرضي في بقعة هي الأكثر كثافة سكانية في العالم.
وعلى مدار عقد ونصف من الزمن، ماطلت إسرائيل في تنفيذ التزاماتها بفك الحصار، والتي قصرتها على بعض "التسهيلات الإنسانية"، مقابل بعض الهدوء على الحدود، ما أدى إلى انهيار في معظم مجالات الحياة في القطاع، كنتيجة لارتفاع البطالة والفقر بين النسبة الأكبر من السكان إلى مستويات حادة.
ترنيمة إلى غزة
14-10-2023
قطعت إسرائيل الماء والكهرباء في اليوم الأول للعدوان. ومنعت إدخال المساعدات الغذائية من مصر لمليوني نسمة من السكان نصفهم من الأطفال. وبينما تسيطر على غالبية المنافذ التي تربط غزة بالعالم، تتواصل حفلة القصف الجنونية.
... لكننا نقرر على الرغم من ذلك أن نعيش، ونبدأ برصّ الأحلام من جديد. وحدها الأحلام قادرة على أن تنتشل قلوبنا بعدما أدمتها أصوات الصواريخ القريبة. وهي وحدها تزيد إيماننا بالغد ونصره.