بلا عيون في غزة

في زمن الاحتلال من الجو، تُروِّج إسرائيل لصواريخ التعقُّب الإرشادي إسرائيلية الصنع التي يزن واحدها نصف كيلوغراما، بمفهوم "الطَرْق الآمن" على الأسقف. الشظايا الحارقة والمتفجرة والملتهبة تطايرت في كل اتجاه، دون أن تخلِّف كثيرا من الدمار "غير المطلوب"، حفاظاً على صورة أقل حدة للعنف الإسرائيلي.
2023-05-13

محمود زُغْبر

صحافي من غزة، فلسطين


شارك
طائرة هيرميس المسيرة التي تصو وتبث بلا توقف وتحمل الصواريخ القاتلة

"احترف الفينيقيون التجارة
واحترف الهكسوس الرعي
أما نحن أبناء كنعان فقد احترفنا طرد الغزاة.
إن الكنعاني لا يعرف على وجه التحديد
كم مرة دق منجله سيفاً
وكم مرة دق سيفه منجلاً"
*عبد الكريم السبعاوي - شاعر من غزة

مرثيات تودِّع الشهداء الذين قضوا والأمكنة التي صارت خراباً، ومقاطع من أناشيدٍ عهدناها كجزء من الحقنة الإعلامية المرافقة لكل عدوان إسرائيلي على غزة. هذه الصيحات تحمل مشاعرَ غريبة تضرب في الصدر وفي المساحات داخل البيوت. يمكن العثور بسهولة، عبر المذياع ومنصات البث الحديثة، على أناشيد التعبئة الوطنية، ولكن إذا أردنا وصف الخراب، فإننا نراه في اتساخٍ يلتصق بلعبة طفل ارتمت مع كومة ضخمة من الجدران المفتتة والثياب، وفي أشلاء بشرية وقطع أثاث مهشمة كأنها ألقيت من داخل البيت إلى وسط الطريق.

بدأ العدوان الإسرائيلي على غزة هذه المرة باستهداف بيوت المدنيين. مخاطرة إسرائيلية قد تجلب احتمالات أضرارٍ لا تملك توقّع حجمها تماماً، إلا أنها قررت كسب الوقت القليل المتبقي الى ذكرى تأسيس الدولة الإسرائيلية/ النكبة الفلسطينية وتحقيق صورة نصر مؤقتة في هذا التوقيت تحديداً. هو التوقيت الحرج نفسه الذي تمتحنه إسرائيل في هويتها كل عام، لا سيما أنها تشهد أزمة تنعكس في شرذمة نيابية داخلية تُؤثِّر في التركيبة الاقتصادية والسياسية للمجتمع الإسرائيلي.

لكن إسرائيل تقتل. تستمر في جرائمها التي تنذر بمواجهة مفتوحة على كل احتمالات الانتفاضة والثورة، في محاولة منها بأي ثمن لاستهداف مفهوم "وحدة الساحات". وقد أثبت هذا المفهوم - في ذكرى 75 عاماً على وجوده - أنه يحمل اتجاهات متعددة، وليست اخصّ تعدد الساحات وحدها. بات هو الضامن الأساسيّ لوحدة قضية الفلسطينيّين، والهمّ الجماعي الموحّد لهوية مجتمعاتهم المجزأة في أرجاء المنطقة، لكنه أيضاً يمحو الفوارق السياسية بين القوى الوطنية.

 فالتصدي برد منسّق وموحَّد ضد العدوان يحمل استراتيجية أحبطت المسعى الإسرائيلي لتركيز استهدافه على فصيل فلسطيني دون آخر. لعل في اغتيال من تتهمه إسرائيل بقيادة الانتفاضة المسلحة شمال الضفة الغربية، في نابلس وجنين، واستهدافه من الجو بينما هو نائم مع زوجته وأطفاله في غزة، مفارقة توضِّح بعض ما بين السطور، في ضرورات هذه الوحدة.

فرَض الحاكم العسكري الإسرائيلي عنفاً في الرقابة على حياة الفلسطينيين، كمن يراقب حبة أرز في مجهر مايكروسكوبي. يمسك بصورة واقعية تماماً بالحياة على الطريق، ونسبية داخل المباني، ما يمنحه مسحاً مفصّلاً عبر تقنيات المسح والتصوير الجوي. 

في سياساتها المتبعة منذ تأسيسها، عملت إسرائيل على تفتيت فلسطين وتشتيت شعبها، وتسخير طاقات جيشها وحلفائه للعمل بسياسة حصر "أكبر عدد من السكان المتبقين في أقل مساحة من الأرض". ليس مستغرباً استخدام هذه التقنية الصهيونية لتهيئة ظروف تُمكِّن الحاكم العسكري الإسرائيلي من استنزاف المقاومة في غزة بعمليات محدودة زمنياً، ذات كثافة نارية وتدميرية، وإثقال المدينة وكادراتها بمهمات الإعمار، لأن القضاء على الكتلة العددية للمقاومة الفلسطينية هو غاية مستحيلة من الناحية العملية، وكذلك الحال بالنسبة للمدينة، فلن يبتلعها البحر يوماً كما كان يحلُم رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إسحق رابين في تسعينيات القرن الماضي.

رد غرفة عمليات المقاومة استطاع قطع يد إسرائيل التي امتدت في السنوات الأخيرة للاستفراد بفصيل فلسطيني دون آخر وتركيز ضرباتها على مقدراته دون غيره من الفصائل، مستغلة في الوقت ذاته رغبة المقاومة الفلسطينية وقواها تجنيب أهالي غزة ويلات الحرب الإسرائيلية.

وبعودة سياسة الاغتيالات الإسرائيلية، تركِّز الصناعة الإسرائيلية على استخدام أسلحة تُحدِث ضرراً بالغاً في الأرواح، مع تقليص آثار الدمار في موقع الاغتيال. كلاكيت جديد لمجاراة سوق الأسلحة العالمي وانخراط إسرائيل كلاعب رئيسي فيه، يجعلنا مرة بعد مرة معمل تجارب. يُعرّي هذا شهيةَ إسرائيل للدم، تماماً كما ظهرت في قنوات التلفزة التابعة للحاكم العسكري التي ما انفكت تتباهى بنجاحها في قتل عناصر المقاومة دون ذكر ولو بالأرقام لما خلّفه هذا النجاح من قتل للأطفال والنساء.

المعادلة التناقضية في غزة

في غزة، يعمل كل من مبدأي مراكمة القوة والقدرة، والقتال خارج جدول الأعمال، أحدهما ضد الآخر، ليولِّدا حالة غامضة في نسق العمل الفلسطيني المقاوم المكلّف بالتعايش جنباً إلى جنب مع إدارة الحياة اليومية للسكان وتأمين حاجاتها الاقتصادية والاجتماعية. ردّ العدوان هو من صلب حاجات المجتمع من أجل البقاء، وتجنب الحرب والدمار مصلحة وجودية في حياة مليوني فلسطيني محاصرين في غزة، لأنه ليس بمستطاع أطفال غزة التعايش مع الخوف والرعب، على الرغم من تكراره المتواصل. في غزة، طفل بشامة على الخد، في السادسة من عمره، يمضي إثر نوبة هلع نتيجة أصوات الانفجارات المدوية. موت أطفال غزة هو موت سياسي، سواء جاء فردياً بحوادث مروّعة تقع نتيجة الإهمال وغياب الرقابة، أم جماعياً بقصف الجيش الإسرائيلي.

وكما قالت "الغارديان"، فإن "حلقة دموية من العنف خلّفت 25 قتيلاً" في غزة وأدت إلى "توقف الحياة اليومية في تل أبيب". تتوقف الحياة اليومية. من بين "القتلى" في غزة أطفالٌ لن تعود حياتهم ثانية بعد التبليغ عن وقف إطلاق النار. إنها تغيب فقط، مرة وإلى الأبد. لكن أبناء المدينة انصرفوا لحكاية قصة العاشق الذي ودّع خطيبته الشهيدة، وأطفال المرحلة التأسيسية في الرحلة الصيفية الذين لن تلتقِي أعينهم مرة أخرى بأعين ميار الشهيدة، وعلي الشهيد. كأنما تخطف أصوات الانفجارات ما تبقى من حياة تعيش بداخل كل طفل فلسطيني. قصص تطفو فوق أعلى طبقات الحزن، قصص وصور لمن غابوا هذه المرة. طبيب الأسنان صاحب الابتسامة المميزة، الشهيد. وزوجته أم الأولاد والبنات، الشهيدة. وابنهما طالب كلية الطب في السنة الرابعة، الشهيد.

صور تمنع العقل من التفكير. ليس هناك سوى صور أطفال لم يحلموا بأكثر من رحلة مدرسية أو إجازة صيفية، وبعض المديح وسط تجمّع عائلي على الشاطئ. تلك هي صورتنا.

التكنولوجيا!

لا زلنا بحاجة لإدارة الصورة كنهج إنساني يحفظ حق الضحايا المستباح، ويكرِّس ذكراهم بصورة تليق بما قدموه وذويهم من تضحيات فداءً للوطن. كأن المرء يفقد خصوصيته، كحق إنساني، حينما يموت. فبينما يسجّل أحد شهود العيان مقطعاً مصوراً يوثق اللحظات الأولى لما تراه عيناه من أجساد تحولت إلى أشلاء وأمكنة تحولت إلى خراب، يوبّخه باستحياء شاهدٌ آخر على الجريمة: "لا تصور! عشان أهاليهم!" فيصرخ الأول غاضباً: "خلي العالم يشوف!".

وفقاً لهذا المبدأ، فأي عالم هذا الذي يحرِّكه الحرج جراء بث صورة العنف الإسرائيلي لا العنف ذاته؟ من هنا ولدت مبادرة اقترحها نشطاء شباب ومدوِّنون من غزة عبر منصات التواصل الاجتماعي، لبناء صرح معماري يخلّد ذكرى كل الأطفال الذين قتلتهم إسرائيل في غزة وتوثيق حكاياتهم ونبذة عن حياتهم الصغيرة التي عاشوها، لخلق معلمٍ جديدٍ في تكوين المدينة السياسي والاجتماعي، يعمل على طريق تعزيز حماية المدنيين ولا سيما الأطفال في غزة.

يقولون في سياق بعث الأسطورة الصهيونية، إن تلك الطائرة تستطيع سماع حديث الأصدقاء بينما يحللون الشائعات التي تردهم، وبأنها قادرة على بث الانبعاثات السمعية الناتجة عن محرك الطائرة العسكري بما يحمله هذا من آثار على الصحة العقلية والجسدية في وضع متصل، كتنقيط الماء الذي يفلق الصخر، لتؤكد فكرة حضورها فردياً، بصفة فوق شخصية.

لإسرائيل القدرة على تكييف الحسابات وفق مصلحتها وما تراه ملائماً لإرادتها. كفلسطينيين، تسببت لنا تلك الإرادة بصدمة ورعب كبيرين، عندما باغتت الدبابات الإسرائيلية طرقاتنا الرملية وزقاق مطارحنا. لك أن تتخيل مقدار القوة المطلوبة للثبات فوق أرض صلبة تهتز من باطنها زمن الاجتياحات البرية. في زمن الاحتلال من الجو، بمقدرة صاروخ تعقّب إرشادي إسرائيلي الصنع، يزن 500 غرام، جعل الإبلاغ عن مجزرة ممكناً. تروج إسرائيل لتلك الصواريخ بمفهوم "الطرْق الآمن" على الأسقف. الشظايا الحارقة والمتفجرة والملتهبة تطايرت في كل اتجاه، دون أن تخلّف كثيرا من الدمار غير المطلوب، حفاظاً على صورة أقل حدة للعنف الإسرائيلي.

لقد جننتُ. لا أخفي خجلي من البوح بهذا. في مرة من مرات الحرب التي عاشتها غزة، قرّرتُ عمل "بروفة" لما قد يحدث إن تلقيت صاروخاً إرشادياً فوق رأسي وأنا نائم. لم أعرف ما الذي سأقوم به. قمت بضبط منبّه هاتفي مرّة، وحدّدت لنفسي عدد الثواني التي تفصل بيني وبين الصاروخ. كدت أجّن وأنا أفكّر بالاحتمالات، لولا أن زوجتي قطعت عليّ خيالاتي لتخبرني أننا سنذهب من بيتنا لأن منطقة أهلها "أكثر أمناً".

لهذا تماماً، كان حصار مصانع الموت الإسرائيلية في لندن والاحتجاج ضد عملها ضرورياً. فإضافة لحملها الصواريخ المحرمة دولياً والتي يصطاد بها ضباط الجيش الأفراد في غزة كلعبة صيد البط الرقمية، وتحملها طائرة "هيرميس 900" المسيرة التي تنتجها معامل شركة "إلبيت سيستمز" الإسرائيلية للصناعات العسكرية، هي تحمل كذلك أوامر بملازمة حياتك لحظة بلحظة، ما دمت تقطن هذا الموقع الجغرافي. 

إنها شكل ضوضائي وتسلطي من أشكال الحصار. بلا شك هي طائرة رشيقة ولا تكل من مرافقتك مهما كنت شقياً، إنها تقتل بالمعنيين الجسدي والنفسي. في الأسطورة اليونانية، كان إلهاً من آلهة اليونانيين القدماء، ابن الإله زيوس، ارتبط اسمه دوماً بالحماية. كان هيرميس يحمي الأغنام والماشية، ويحرس التجار والمسافرين والسفن التجارية، ويتصف بالقدرة على التحرك السريع بين عالم آلهة الإغريق وبين العالم البشري. بيد أن لكل فلسطيني في غزة قضية مؤلمة مع فكرة عمل هذه الطائرة. فرض الحاكم العسكري الإسرائيلي عنفاً في الرقابة على حياة الفلسطينيين كمراقبة حبة أرز في مجهر مايكروسكوبي، يمسك بصورة واقعية تماماً بالحياة على الطريق، ونسبية داخل المباني، يمنحه مسحاً مفصلاً عبر تقنيات المسح والتصوير الجوي. 

يقولون في سياق بعث الأسطورة الصهيونية، إن تلك الطائرة تستطيع سماع حديث الأصدقاء بينما يحللون الشائعات التي تردهم، وبأنّ لها القدرة أيضاً على بث الانبعاثات السمعية الناتجة عن محرك الطائرة العسكري. آثاره على الصحة العقلية والجسدية في وضع متصل، تشبه تنقيط الماء الذي يفلق الصخر، لتؤكد فكرة حضورها فردياً، بصفة فوق شخصية.

كان حصار مصانع الموت الإسرائيلية في لندن والاحتجاج على عملها ضرورياً، فهي تنتج الصواريخ المحرّمة دولياً، والتي يصطاد بها ضباط الجيش الأفراد في غزة كلعبة صيد البط الرقمية، وتحملها طائرة "هيرميس 900" المسيّرة التي تنتجها معامل شركة "إلبيت سيستمز" الإسرائيلية للصناعات العسكرية.

 أفكّر: ما كان بإمكانه أن يفعل عقل مجند مراهِق تابع لوحدات المراقبة الإسرائيلية الجاثمة في معسكرات الجيش في النقب؟ لماذا لهذه الدرجة من الأهمية، عليه أن يجلس لمشاهدة شوارع الحارات وأزقة المخيمات وأسطح البيوت في غزة، ويرقب تحركات أهلها وأنشطة حياتهم اليومية، بينما بإمكانه اللهو عبر هاتفه الذكي في قبضة يده التي تحتضن سلاحاً رشاشاً، دون الاكتراث لمهماته القاتلة؟ ماذا يمكن أن يفعل – بقبضة يده الأخرى على مقود الطائرة التي تعمل عن بعد - بعقول مليوني إنسان محاطين بصور العنف الإسرائيلي من الاتجاهات كلها؟ 

مقالات من فلسطين

أيرلندا تتبرّأ من عار بايدن

2024-03-21

ليس التماهي الصادق والعميق الذي يعبر عنه عموم الأيرلنديين تجاه الفلسطينيين وقضيتهم جديداً في أيّ حال من الأحوال. الآن، خلال الإبادة التي تتعرض لها غزة، وقبلها، وعند كل منعطف وحدث،...

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...

للكاتب نفسه