أَخويّة الصليب والطخماخ!

عزيزي أبو علّاوي، تحيّة طيّبة وبعد، يبدو أنك لم تفهم بعد اللعبة التي نصّبها المارينز في جهازك، التي يسمونها «ديمقراطية»، ألا ترى أن لا أحد يلعب معك؟ ألم تلاحظ أنك لا تفوز في اللعبة غافلاً عن كونك تُلاعِبُ نفسك فقط؟ عن أخوية الصليب والطخماخ!
2023-08-31

شارك

يعيش الإنسان الشيعي الشعائري علاقة رومانسية من طرف واحد مع التراث المسيحي ورعايا الكنيسة العراقية الشرقية، هي بالأحرى علاقة «ميانة» ثقيلة الظل، تشبه أن تستعير كل شوية شيئاً من مطبخ الجيران، ثم تبالغ قليلاً وتستعير الجيران أنفسهم، والجيران لا يتذمرون ولا يشتكون، لأنك ببساطة أبو علّاوي صاحب البيت و«ملّاچ» التريلة التي تقطر خلفها باقي عربات السيرك الطائفي الجميل! وترى أن أبو مايكل «ما يزعل وما يكول شي» لأن ديانته هي المحبة! ويسمح لك أن تقترض منه حتى مريم -أم الإله- وتوظفها لتكنس للزائرين كما تقول اللطمية، كما أن أبو مايكل يبادر بنفسه بطبخ القيمة ويتبرك بحكّاكة الجدر، دون أن تنتبه إلى أن أبو مايكل الذي سطوت على مشاعره ومساحته واستأجرت حتى تراثه الديني، لا بل حتى الملابس الداخلية لقصص أبطاله التوراتيين، لا يقوى على أن يقول لك لا.

أبو مايكل، لا تتيّسر له رفاهية الاختلاف معك حتى في درجة الميانة والسماجة التي تتطفل بها على أدبياته، أبو مايكل يخوض معك حواراً غير متكافئ من ناحية قدرته المحدودة على فتح فمه، إذا ما قورنت بالامتياز الاجتماعي الذي تتمتع به – كأبو علّاوي- في قدرتك الهائلة على فتح فمك إلى أقصى ما تستطيعه عضلات صماخك؛ وقول كل ما تريد وما لا تريد، وما سوف تريد.  

 يذكرني الخيال غير المسؤول لنجوم الشعائر الحسينية بقصة قصيرة وجريئة نشرها الراحل فهد الأسدي في تسعينيات الحصار والقائد المؤمن، اسمها «الراضوع»، والراضوع هي أفعى مخيفة في مجاهيل أهوار العراق الجنوبي تعض الجواميس وتمتص أحشاءها ولا تترك القريّة إلا بعد أن تسمع صوت الناعي والنائحة. في القصة، يحدث أن تلد امرأة ولداً لا يكف عن الصراخ طلباً للحليب، تضع أمه ثديها في فمه فيقوم بشفط حليب صدرها حتى آخره قبل أن يشفط أمه كلها، يبتلعها ويبتلع بعدها أخوته وأخواته، يأتون له بنساء القرية كي يرضعنه فيقوم بابتلاعهن واحدة تلو الأخرى، وهكذا حتى يأتي الرضيع الذي اسموه الراضوع لأنه صار أفعى هائلة، على رضع وشفط وابتلاع كل شيء حوله، فلا يبقى غيره في القرية. وكانت كناية القاص الأسدي واضحة، ابتلاع صدام حسين للعراق والعراقيين، راضوعاً لا يشبع ولا يتوقف عن احتكار كل شيء وصبغ المجال العام بلونه الزيتوني الكالح. ويبدو أن لكل زمان راضوعا، ولكل راضوع عراقاً.

كان أبو المثل العراقي لئيماً حينما اخترع المثل القائل «عيسى بدينه وموسى بدينه» لأنه أخفى الجزء المضمر من تلك الحكمة الديمقراطية الرشيدة! الجزء المحذوف والذي ستختل موسيقى الكلام لو جهرنا به، لكنك تسمعه رغم ذلك، مدوياً «عيسى بدينه وموسى بدينه… والدين عند الله الإسلام، وكلاهما يبكي على الحسين ويخدم الزوار ويهرس الحمص بالطخماخ»، فالمثل لا يعني أن نحترم أديان بعضنا ومذاهبهم كما يبدو، بل أن نرضعها ونشفطها حتى آخر قطرة دم، فالديمقراطية هي حكم الغالب والأغلبية كما نريد أن نفهم، والأيام دول بين الناس، يوم لك ويوم عليك، ولا يهمنا إن كنت قد تعاصر اللحظة التي هي «يوم عليك»، الديمقراطية في وعينا المستلب هي عملية اضطهاد قدرية ولا شيء غير ذلك، ولا يسعنا أن نفهم أن هذه اللعبة الثأرية يجب أن تتوقف عند لحظة ما، وأن نتخلى عن منطق اليوم الذي عليك والذي لك، لأنها بلاد يعيش فوقها بشر، وليست كرخانة يتناوب عليها شفتان من القواويد.

كان المسلم الشيعي محظوظاً أكثر من أي مسلم آخر من ناحية عناية مذهبه بالفنون، بينما كانت الأصوليات المذهبية الأخرى متشددة مع الموسيقى والمسرح كما أنها حرّمت التصوير وقطعت بذلك جذور تطور الفنون المرئية وتلقيها، ومثلما كانت الكاثوليكية متسامحة مع المسرح واستخدمته لاغراضها التبشيرية والوعظية مع باقي الفنون التعبيرية، وهو الأمر الذي أثر في ما بعد بازدهار فن المسرح أباً للفنون، كان التشيّع قد وظّف الفن والإمتاع والتسلية في «نشر المصيبة» الزينبية، غير أن كل ذلك كان محكوماً بسياق المعارضة التاريخية والعيش كجماعة سريّة مطعونة في ولائها داخل الإمبراطوريات السنيّة المضطهِدة لرعاياها الشيعة في آن، والمتملقة لهم في آن آخر. وكان الولاة العثمانيون يمنعون الزيارات أو يسمحون بها حسب محرار العلاقة مع الدولة الصفوية. مع ذلك فالمدونات الرسمية حذفت لحظات التعذيب السادي الذي تعرض له الشيعة من تقطيع وحرق واغتصاب، مع أن هذه اللحظات هي الشفرة المفقودة التي تفسر الكثير من انفعالاتنا ورواسبنا وعلاقة مكوناتنا ببعضها. والشعائر لم تتخذ طابعاً احتجاجياً في أغلبها ولم تكن كما هي اليوم، باذخة وجماهيرية، لكن اللمسة السلطانية التي أضافها السلاطين القاجاريون على مسرح التشابيه وإكسسواراته جعلته أليَق بالقصور ومقصورات المسرح الفارهة حيث يجلس الملوك للفرجة على العباس قطيع الكفين فاتك الحُسن! وعلى تلك اللقطة الماستر سين: الشمر الأسود «القبيح» جالساً على صدر الحسين الوسيم الأبيض! ذي العيون الخضر الكحيلة والأنف الروماني المستدق، الشبيه بالسلطان وعائلته، إذ يفترض بالحسين أن لا يُشبه العراقيين.

يشاهدون تراجيديا جُون الأسود وهو يحتفل بعبوديته ويزدري قوميته وجسده ورائحته، ويقول للحسين هذا المونولوج المؤسف وغير الأخلاقي: «إن ريحي لنتن وإن حسبي للئيم وإن لوني لأسود، فتنفّس علي في الجنة ليطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض لوني..»! طبعاً، لا نطلب من رجل عاش في القرن السابع الميلادي أن يكون مناهضاً للعنصرية قارئاً لنظريات فرانز فانون وأنجليا دافيس؛ لكن هذا خطاب لا يجعل من الملحمة إنسانية على الإطلاق، بل يؤدي إلى نقيضها، ويتركها بلا تحديث ملائم لتطور حاجات الإنسان المعاصر واكتشافه لحقوقه، أين ولى المجددون يا حوزة علي!.  

بقية المقال على موقع جمّار. 


وسوم: طائفية

مقالات من العالم العربي

خرائط التنمية المفقودة في الساحل السوري

كمال شاهين 2024-04-30

حضور السلطة المركزية في المشاريع الأصغر، المحصورة في خدمة أهالي الإقليم، يقرّ مركزياً، بعد اقتراح مجالس المدن والبلدات المعيّن أغلب أعضائها من السلطة المركزية، عبر "قوائم الجبهة الوطنية التقدمية" اﻹجبارية...

انهيار التعليم العام في منطقتنا

تتصل مسألة التعليم بشكل مباشر بالوعي الجماعي والتعاون الاجتماعي في أي مجتمع، أي وباختصار بعملية َتشكّله. وهذه مقاربة أولى تسجِّل المعطيات الموضوعية لتراجع التعليم العام في منطقتنا بل وانهياره. فما...