على الرصيف المؤدّي إلى بوابة أحد الأندية الاجتماعية بالإسكندرية، اصطفّت عشرات النساء السودانيات تحت شمس تموز/ يوليو الصعبة في طابور طويل، يقابله من الناحية الأخرى للبوابة طابور أقصر بكثير للرجال، ينتظرون دورهم للحصول على بطاقات دعم غذائي من برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة بقيمة 450 جنيهاً للفرد (أقل من 12 دولاراً). بينما لجأت بعضهنّ إلى الظل على الرصيف المقابل. سيداتٌ يصطحبن أطفالهنّ ويحملنَ رضّع.. مسنّات.. حوامل يأخذن الأولوية في الدخول..
بين هؤلاء وقفت "هادية" السيدة الأربعينية، مستندة إلى إحدى السيارات المصطفة، بجوارها "آية" ابنة أخيها، طالبة الشهادة الثانوية السودانية غير المعروف موعد إجراء امتحاناتها بعد، ونسوة أخريات، واقفات أو جالسات على الرصيف.
قَدِمت "هادية" إلى مصر في أيار/ مايو الماضي، بصحبة زوجها وأربعة أبناء في مراحل التعليم. في بلدها، كانت هذه المرأة الجامعية تعمل موظفة في هيئة المياه، وكانت الأسرة في كفاية مادية واستقرار، ولكنّ اندلاع الحرب غيّر أوضاعهم وباتوا كما لو أنهم "يبدؤون من الصفر" على حد وصفها. عند مغادرتهم أخذوا فقط المدخرات التي كانت تحت أيديهم في المنزل، بينما البنوك توقفت عن العمل ولم يعد السحب منها ممكناً.
أخبرتني أنهم حضروا إلى المكان منذ السادسة صباحاً للحصول على رقم متقدّم. كانت أرقام السيدات قد وصلت إلى الرقم "60" والرجال إلى "25". استمر انتظارهم لساعات.
وقائع ما جرى وسيناريوهات لما يجري في السودان
04-05-2023
تقول نوال عبد الوهاب، ناشطة سودانية من المشاركين في التنظيم، إنه على مدار ثلاثة أيام، تم توزيع بطاقات دعم غذائي شملت 5000 فرد من السودانيين الوافدين إلى مصر في أعقاب الأزمة، وقد نفدت البطاقات قبل أن تغطّي كل الحاضرين، بعجز حوالي 75 أسرة، وإنه من المنتظر تغطية أعداد أخرى خلال الفترة المقبلة. ومن غير المعروف ما إذا كان هذا الدعم سيتكرر صرفه أو سيُصرف بصورة منتظمة أو شبه منتظمة، وإن ذلك يتوقف على قدرة المنظمات ومدى توافر الدعم لها من الجهات المانحة.
نزوح داخلي وآخر إلى البلدان المجاورة
وفقاً لوزارة الخارجية المصرية، فإن 250 ألف سوداني دخلوا إلى مصر عبر المعبرين الرسميين "أرقين" و"قسطل" حتى 22 حزيران/يونيو الماضي (1). بالإضافة إلى ما يقرب من 5 ملايين مواطن سوداني موجودين بالفعل من قبل الأزمة (2).
وقد أدّى الصراع في السودان - وفقاً للمنظمة الدولية للهجرة (3)- إلى نزوح حوالي 3 ملايين شخص، داخلياً وعبْر الحدود، في أقل من ثلاثة أشهر. وبلغ عدد النازحين داخلياً إلى الولايات المختلفة أكثر من 2.2 مليون شخص معظمهم من الخرطوم ثم دارفور، بينما فرّ ما يقرب من 700 ألف شخص إلى البلدان المجاورة، موزّعين كالتالي: مصر (40 في المئة) وتشاد (28 في المئة) وجنوب السودان (21 في المئة) وإثيوبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى. ومن بين أولئك الذين فرّوا إلى البلدان المجاورة كان هناك 65 في المئة سودانيون، و35 في المئة مواطنون من دول ثانية، "معظمهم في ظروف شديدة الخطورة".
وعلى مستوى مصر، استقبلت القاهرة أكبر عدد من السودانيين القادمين، تليها الإسكندرية، بينما قررت بعض العائلات البقاء في أسوان والمحافظات المجاورة "حيث يسهل عليهم الاندماج في المجتمعات المحليّة هناك". على الرغم من أن الوافدين السودانيين قد أتوا من خلفيات اجتماعية واقتصادية متنوعة، فهم "يتشاركون في الحاجة إلى المساعدة المباشرة والفورية، فحتى العائلات الثريّة لم تكن قادرة على الوصول إلى أموالها أو مدخراتها بعد وصولها لمصر" - حسب ما أفادني المتحدث الرسمي للمكتب الإقليمي لمنظمة الهجرة بالقاهرة.
إقبال متزايد على التسجيل في مفوضية اللاجئين
اتجهت "هادية" للتسجيل في مفوضية الأمم المتحدة للاجئين بعد فترة من قدومها إلى مصر، للحصول على إقامة قانونية، بعد عجز أسرتها عن الحصول على إقامة من السلطات المصرية، حيث إن بعض جوازات سفرهم كانت منتهية وتم تمديدها عند العبور. كذلك للاستفادة من الخدمات التي تقدّمها المفوضية من أجل تخفيف الضغط على مدخراتهم كي تستمر لفترة أطول ولا تستنزفها مصروفات الأكل والإيجار ودراسة الأبناء، خاصةً مع عدم وجود دخل ثابت أو عمل، وهم لا يعرفون متى سوف تنتهي أزمتهم. كما أنّها بتسجيلها في المفوضية، تأمل أن تجد سبيلاً للسفر إلى دولة أخرى تحصل فيها على فرصة عمل لا تجدها في مصر. كما تواصلت مع هيئة الإغاثة الكاثوليكية (إحدى المنظمات التي تدعم اللاجئين في مصر) عندما سمعتْ أنهم يوفرون دعماً لطلاب المدارس، ولكنهم أخبروها أنهم سوف يُعلنون عن تلك المساعدات لاحقاً، وأنها لن تغطّي التكلفة الكلية للمصروفات، بل جزئياً.
وفقاً لوزارة الخارجية المصرية، فإن 250 ألف سوداني دخلوا إلى مصر عبر المعبرين الرسميين "أرقين" و"قسطل" حتى 22 حزيران/يونيو الماضي. بالإضافة إلى ما يقرب من 5 ملايين مواطن سوداني موجودين بالفعل من قبل الأزمة. حوالي 60 في المئة من الأسر تُعيلها نساء.
تشهد المفوضية منذ بداية الأزمة إقبالاً متزايداً من الوافدين السودانيين إلى مصر للتواصل وطلب التسجيل، وفي 5 تموز/ يوليو 2023 بلغ عدد الذين تم تسجيلهم بالفعل 7336 أسرة (15617 فرداً)، ولا يزال عدد أكبر بانتظار أن تحين مواعيد تسجيلهم التي حددتها لهم المفوضية. أكثر من 93 في المئة من هؤلاء سودانيون، يليهم جنوب سودانيون وإريتريون. حوالي 60 في المئة من الأسر تُعيلها نساء. وفي مكتب الإسكندرية، بلغ عدد مواعيد التسجيل الجديد التي تمت جدولتها للوافدين حديثاً من السودان منذ بداية الأزمة 634 موعداً لـ 1732 فردا (4).
تقول الناشطة السودانية إن مدة الانتظار للتسجيل قد تطول لأشهر بالنسبة للمقيمين في القاهرة حيث إنّ الأعداد كبيرة، بينما يستغرق الأمر وقتاً أقصر في مكتب الإسكندرية. كما أن التوطين في أوروبا، الذي قد يطمح إليه كثيرون من الراغبين في التسجيل، يشمل عدداً محدوداً ويستغرق بدوره سنوات من الانتظار. وفي المقابل، فإن آخرين لا يُقْدِمون على التسجيل في المفوضية لعدم تقبّلهم وضعية اللجوء.
وإلى جانب التسجيلات الجديدة، هناك طلبات بإعادة فتح الملفات من قبل سودانيين صارت الظروف الحالية للسودان تمنعهم من العودة، إذ "تلقت المفوضية أكثر من 450 طلب إعادة فتح ملف من السودانيين"، وقد "شارك السودانيون أصحاب الملفات المغلقة الصعوبات التي يواجهونها في الوصول إلى خدمات الإقامة والتعليم نظراً لعدم تسجيلهم لدى المفوضية. كما ذكروا أنّ الافتقار إلى الوضع القانوني يعرّضهم للاستغلال والإساءة وعدم القدرة على الوصول بسهولة إلى الخدمات الأساسية".
أوضاع غير متوقعة
تقول الناشطة السودانية إن من قدموا إلى مصر اختاروها باعتبارها "أمان ورَخيّة" ولكنهم فوجئوا بأوضاع صعبة تتعلق بتدبير مكان للإقامة والاحتياجات الغذائية خاصة لأطفالهم، مشيرة إلى أن أسعار إيجارات الشقق ارتفعت أكثر من ثلاثة أضعاف، سواء في القاهرة أو الإسكندرية، بما في ذلك المناطق الشعبية، مع قيام سماسرة سودانيين ومصريين ممن وصفتهم بـ "تجّار الأزمات" باستغلال الوضع لتحقيق المزيد من الأرباح. وإنها تواجَه يومياً بطلبات من الأسر التي وصلت مصر للمساعدة في توفير استضافة مؤقتة لدى سودانيين مقيمين إلى أن يستطيعوا توفيق أوضاعهم، ولكن طبيعة المساكن في مصر - كما تقول - لا تساعد على الاستضافة لمدة طويلة مع ضيق المساحة ووجود حمّام واحد على الأغلب بعكس طبيعة بيوت السودان. وإن معظم الأسر تستأجر شققاً، وهناك من يتملك وهم عادة من فئة "المغتربين" في الخارج.
تلفت الناشطة السودانية النظر إلى جانب آخر من تأثّر الأطفال السودانيين القادمين مع أسرهم إلى مصر بتداعيات الحرب. فقد رأت حينما كانت في محطة مصر بالقاهرة لاستقبال أسر سودانية قادمة من أسوان بالقطار، أن الخوف بدا على الأطفال مع نوبات صراخ مفاجئة بمجرد رؤيتهم بعض الكلاب، واتضح أنهم كانوا قد رأوا كلاباً تنهش جثثاً في شوارع الخرطوم قبل قدومهم.
بالنسبة لـ "هادية"، فإلى جانب أسرة أخيها، قَدِمت إلى مصر أيضاً أسر إخوة زوجها الثلاثة المقيمين بالقاهرة في شقق يمتلكونها، بينما تستأجر أسرتها شقة بالإسكندرية "الأهدأ" بإيجار بلغ 12 ألف جنيه في أول شهر ليرتفع إلى 15 ألفاً في الشهر الذي يليه، بمنطقة "سيدي بشر"، التي تضم عدداً كبيراً من السودانيين. بينما ظلت والدتها وأسر اثنين من إخوتها بالسودان، وقد تحرّكوا من الخرطوم إلى الولايات. وهذه تفتقر إلى التنمية والكثير من الخدمات، وإن كانت تمتاز بقدر أعلى من التكافل بين الناس ولو بأبسط الموارد، على حد قولها.
بينما كنت أتحدث معها، توقفت سيدة من المارّة لتسأل عن هذه الطوابير وما يتم توزيعه ومن يقوم بالتوزيع.. وعندما اُخبِرَت أنها خاصة بالسودانيين مضت في طريقها، لتُعلّق "هادية": "الناس كلّها محتاجة".
وقالت الناشطة السودانية نوال عبد الوهاب إنه في الأسابيع الأولى للحرب ظلّ البعض متمسكين بالبقاء في الخرطوم، لكن مع تطور الأوضاع للأسوأ وحوادث السلب والنهب للبيوت والممتلكات والاغتصاب لم يجدوا أمامهم سوى المغادرة: "لقوا إنهم بيواجهوا هَمَج". وأضافت أنّ بعض الأسر السودانية التي جاءت إلى مصر تعتمد على أقارب لها من العاملين بالخارج خاصة في دول خليجية لدعمها، وهو دعم يظلّ مؤقتاً كما تقول، في حين أن هناك من عادوا مرة أخرى إلى السودان لعدم قدرتهم على الاستمرار في ظل هذه الأوضاع.
لوائح جديدة خلّفت معاناة
تشير الناشطة السودانية إلى أن معظم القادمين هم أسر، خاصة النساء والأطفال، إذ عادة ما يتخلّف رجال الأسرة بانتظار صدور التأشيرة التي صارت تستغرق وقتاً طويلاً، بخلاف ما كان عليه الأمر في بداية الأزمة. ومن الواضح أن إجراءات الدخول التي تطبّقها السلطات المصرية تزداد تعقيداً بمرور الوقت.
فابتداءً من 10 حزيران/ يونيو، فرضت السلطات المصرية تأشيرة دخول على جميع السودانيين بغض النظر عن الجنس أو العمر، بعد أن كان الرجال السودانيون من سن 16 حتى 49 فقط يطالَبون بالحصول على تأشيرة للدخول. قال المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية وقتها إنّ هذه الإجراءات "تستهدف وضع إطار تنظيمي لعملية دخول الإخوة السودانيين.. وليس الغرض منها منع أو الحد من أعداد المواطنين السودانيين الوافدين" (5). إلا أنّ الأرقام تعكس بالفعل انخفاضاً كبيراً في عدد الداخلين عبر معبري "أرقين" و"قسطل" منذ التطبيق الصارم لهذه الإجراءات، وفقاً لما رصدته مفوضية اللاجئين. فبين 1 و9 حزيران/ يونيو عَبَر حوالي 25500 سوداني إلى مصر، في حين بلغ الرقم الإجمالي للعابرين في الفترة من 10 إلى 30 حزيران/يونيو 7300 فرداً، بما يُظهر انخفاضاً بنسبة 86 في المئة في متوسط عدد الدخول اليومي منذ تفعيل هذه اللوائح، فقد انخفضت من حوالي 4000 إلى 5000 فرد كانوا يعبرون يومياً إلى ما يقارب 500 فرد.
من قدموا إلى مصر اختاروها باعتبارها "أمان ورَخيّة" ولكنهم فوجئوا بأوضاع صعبة تتعلق بتدبير مكان للإقامة والاحتياجات الغذائية خاصة لأطفالهم، فأسعار إيجارات الشقق ارتفعت أكثر من ثلاثة أضعاف، سواء في القاهرة أو الإسكندرية، بما في ذلك المناطق الشعبية، مع قيام سماسرة سودانيين ومصريين ممن يوصفون بـ "تجّار الأزمات" باستغلال الوضع لتحقيق المزيد من الأرباح.
"تفاقَم الوضع الإنساني المتردّي في البلاد والمنطقة، إذ أنّ ما لا يقل عن 24.7 مليون شخص - أي حوالي نصف سكان السودان - بحاجة ماسّة إلى المساعدة الإنسانية والحماية، ثُلثهم في دارفور، حيث يتدهور الوضع بشكل كبير".
كما تذكر المفوضية أنّ حشوداً بالآلاف تتزايد خلف البوابة الحدودية وداخل المنطقة الفاصلة بين الحدود، بينهم العديد ممن لديهم احتياجات طبيّة خطيرة لكن وثائقهم غير مكتملة، وأنها وشريكها "الهلال الأحمر المصري" تمكّنا من تسهيل دخول الحالات الطبية الخطيرة لكن فقط لمن لديهم وثائق صحيحة. وأنّ نحو 12 ألف أسرة محصورون في ظروف صعبة في وادي "حَلفا" بالسودان بانتظار معالجة تأشيراتهم في القنصلية المصرية. (تقريرا المفوضية في حزيران/يونيو وتموز/يوليو 2023).
نساءٌ وأطفال
مسألة التأشيرة ليست السبب الوحيد لدخول النساء والأطفال دون الأزواج/الآباء. ففي حالات أخرى يكون الزوج قد اعتُقل في الخرطوم من قبل مجموعات مسلحة (عادة ما يُتهَم في مثل هذه الحوادث أفراد قوت الدعم السريع). وتشير الناشطة السودانية إلى إحدى هذه الحالات وهي امرأة لديها أربعة أطفال أكبرهم في المرحلة الابتدائية وأصغرهم رضيعة كانوا يُقيمون في أحد أحياء "الخرطوم بحري" حيث كان القصف عنيفاً، وقد تعرّض منزلهم للهجوم من مسلحين واعتُقل زوجها عند محاولته الدفاع عن أسرته، وغير معروف مكانه حتى الآن. بعدها ساعدها أهل زوجها والمنطقة في تدبير مبلغ للخروج إلى مصر، حيث أقامت بصورة مؤقتة مع طالبات سودانيات بالقاهرة. وقد أخبرتها مؤخراً أن المال الذي أتت به بدأ ينفد من الإنفاق على اللبن لأطفالها وحفّاضات الرضيعة، وهما بندان كفيلان باستنزاف أي ميزانية، كما تقول الناشطة السودانية، التي تدير مركزاً محليّاً لخدمة اللاجئين بالتعاون مع أفراد أو منظمات دولية. كما تقول بأنّ هناك حالات كثيرة في وضعٍ مشابه، حيث الاحتياجات أكبر بكثير من الموارد المتوافرة، ما يعجز المركز عن تلبيتها كلها، سواء لتوفير سلات غذائية وقد ارتفعت أسعارها كثيراً، أو لسداد إيجاراتٍ للأسر المهدّدة بالطرد.
ومنذ اندلاع الصراع في السودان وحتى 5 تموز/ يوليو 2023، حدّدت المفوضية وشريكتها جمعية "كاريتاس" أكثر من 7000 أسرة من الوافدين الجدد من السودان، بالقاهرة الكبرى والإسكندرية وأسوان، من المسجلين وغير المسجلين، مؤهلة للحصول على مساعدة نقدية طارئة "لمرة واحدة". بعضهم تلقى المساعدة بالفعل والبعض الآخر بانتظار صرفها. 73 في المئة منها أسرٌ ترأسها نساء. وتبقى مبالغ هذه المساعدات - التي تُصرف بالعملة المحلية - محدودة، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي العام في مصر.
تلفت الناشطة السودانية النظر إلى جانب آخر من تأثّر الأطفال السودانيين القادمين مع أسرهم إلى مصر بتداعيات الحرب. فمن المواقف المؤثرة التي مرّت عليها ما رأته حينما كانت في محطة مصر بالقاهرة لاستقبال أسر سودانية قادمة من أسوان بالقطار، وقد بدا على الأطفال الخوف، وانخرط عدد منهم في نوبة صراخ مفاجئة بمجرد رؤيتهم بعض الكلاب، واتضح أنهم كانوا قد رأوا كلاباً تنهش جثثاً في شوارع الخرطوم قبل قدومهم. وأشارت إلى حاجة هؤلاء الأطفال إلى دعم نفسي، وهو ما عملت على توفيره منظمات مثل "إنقاذ الطفولة" و"كاريتاس" وغيرهما - وفقاً لمتابعتها. كما أشارت إلى أنّ أسر الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة كالمصابين بالتوحّد صارت غير قادرة على إلحاق أطفالها بالجلسات العلاجية بسبب تكلفتها، وأن منظمات مثل "يونيسيف" توفر جلسات بالمجان، ولكن تتطلب الانتظار لفترات طويلة.
احتياجات مُلحّة بلا تمويل
الشكوى من نقص التمويل ظلت قائمة من جانب المنظمات المعنيّة باللجوء والهجرة على مدار سنوات، وقد بات الأمر الآن مع تفجّر الوضع في السودان أكثر إلحاحاً.
وبوجه عام، تمثُلت أبرز المشكلات التي واجهها السودانيون أثناء رحلتهم إلى مصر أو بعد الوصول إليها - كما يفيد مكتب منظمة الهجرة بالقاهرة - في التالي: " المشكلات أثناء الرحلة تتمثل في قلة السيولة النقدية، ارتفاع تكلفة المواصلات بين الخرطوم والحدود، صعوبة الحصول على الغذاء والماء والدواء، مخاطر الأمن والسلامة، بطء الإجراءات على الحدود. وبعد الوصول: الحاجة الماسّة إلى تلقي المساعدة الطبية، ارتفاع تكلفة الإيجار، غلاء المعيشة، قلة المعلومات عن الخدمات المتاحة، قلة فرص العمل". وقد قامت المنظمة بتوفير مساعدات مالية، وبدل سكن، ودعم طبي ونفسي.. لأعداد منهم. تشير المنظمة إلى أنّ استمرار الصراع في السودان وارتفاع معدلات النزوح يؤدي إلى "تفاقم الوضع الإنساني المتردّي في البلاد والمنطقة، إذ أنّ ما لا يقل عن 24.7 مليون شخص - أي حوالي نصف سكان السودان - بحاجة ماسّة إلى المساعدة الإنسانية والحماية، ثُلثهم في دارفور، حيث يتدهور الوضع بشكل كبير". مضيفةً أنّها تحتاج بصورة عاجلة إلى تمويل إضافي يمكّنها من الاستمرار في عملياتها وتلبية الاحتياجات المتزايدة للمتضررين من الصراع في مختلف المناطق.
من جانبها، قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو، تم تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط، من إجمالي المبلغ المطلوب البالغ 566.4 مليون دولار.
مساعدات أوروبية لمصر
في زيارته لمصر في شهر حزيران/ يونيو الماضي، حيث التقى الرئيس المصري ووزير الخارجية ووزير الدفاع في اجتماعات ثنائية لمناقشة قضايا التعاون المتبادل ومن بينها الهجرة، أعلن جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية بالاتحاد الأوروبي ونائب رئيس المفوضية الأوروبية، أثناء المؤتمر الصحافي الذي جمعه بوزير الخارجية المصري، تقديم الاتحاد الأوروبي 100 مليون يورو لمصر: لاستيعاب الأعداد الجديدة من اللاجئين السودانيين (20 مليون يورو)، ولإدارة الحدود وعمليات البحث والإنقاذ ومكافحة التهريب (80 مليون يورو). وقد أكد الوزير المصري ضرورة توثيق التعاون بين الاتحاد الأوروبي ومصر لتقديم الدعم اللازم للحكومة المصرية التي تستضيف ملايين اللاجئين، مشيراً إلى أن مصر أصبحت دولة مقصد للاجئين، ومحذراً من أنها يمكن أن تصبح مركز عبور للاجئين إذا تدهور الوضع، وهذا من شأنه أن يضع ضغوطاً كبيرة على الاتحاد الأوروبي ودوله (6).
وكان الاتحاد الأوروبي قد خصّص 5 ملايين يورو في عام 2023 كمساعدات إنسانية للاجئين وطالبي اللجوء الأضعف في مصر، تغطّي ثلاثة قطاعات رئيسية: التعليم في حالات الطوارئ، والاحتياجات الأساسية، والحماية. كما أنه يقوم بتمويل المساعدات المُنقذة للحياة كالغذاء والمياه ومستلزمات النظافة وغيرها للوافدين الجدد الذين يعبرون الحدود إلى مصر، بالإضافة إلى المساعدة النقدية الطارئة والدعم النفسي والاجتماعي للأطفال، وذلك استجابة لتداعيات الصراع في السودان. ومنذ عام 2015، بلغ التمويل الإنساني من الاتحاد الأوروبي للاجئين في مصر 37.9 مليون يورو - وفقاً لموقع المفوضية الأوروبية (7).
سوداني مصري
كان محمد عبد الله، مهندس تكنولوجيا معلومات حر وربّ أسرة، من الدفعات الأولى التي عبرت إلى مصر، فقد غادر بعد عشرة أيام من بدء القصف (نيسان/ إبريل الماضي). حينها كانت زوجته وأولاده بالإمارات في زيارة عائلية، بينما أصرت بقية الأسرة (والده ووالدته وشقيقتاه) على البقاء في الخرطوم وإن انتقلوا إلى حي آخر شرق النيل بعيداً عن الاقتتال، "عندنا عدد من القطط في المنزل عددهم سبعة جميعها مُنقَذة من الشارع. الخروج من الخرطوم معناه موت القطط دي.. روح اتعلقت فيك ما ينفع تسيبها". أما هو فقد كان الانقطاع المستمر للكهرباء في الخرطوم عقبة أمام قدرته على أداء عمله.
"نميري" سائق الميكروباص النوبي الأسواني في "وادي كركر" تعامل مع اللاجئين بتعاون وكرم، و"عاصم" موظف التذاكر بمحطة قطار أسوان وفّر لأسرة تذاكر للقاهرة على الرغم من صعوبة الحجز وشدة الضغط، وهناك مَن حَرَص على استضافة سيدتين قدمتا بمفردهما، في المنزل، لأخذ قسط من الراحة حتى موعد طائرتهما للقاهرة. والسؤال المتكرر من أهالي أسوان الذين يلتقيهم في طريقه عن أحوالهم وسلامتهم.
من حي "أركويت" ذي الدخل المرتفع بالخرطوم حيث كان يقطن والواقع في قلب الاشتباكات، تحرّك إلى محطة "قندهار" للحافلات بأم دُرمان، ليركب إلى وادي "كركر" على أطراف مدينة أسوان، في رحلة طويلة وشاقة. كانت الحافلة تضم 55 راكباً أغلبهم من دوائر أقاربه، بتكلفة 290 دولاراً للراكب، يقول إنها ظلت ترتفع فيما بعد، في صورة من صور الاستغلال التي كان الناس يتعرضون لها.
عندما وصلت حافلته إلى معبر "أرقين" كان عليهم الانتظار خلف طابور طويل للوصول إلى الجانب السوداني من المعبر، وقد كان الوضع على المعبر صعباً إذ لا توجد حمّامات أو مطاعم أو استراحات. كان الناس يفترشون الأرض في الصحراء حيث درجات الحرارة مرتفعة، جلوساً ونياماً، ويهربون من الشمس تحت ظل الحافلات، فإذا انحسر ظلها ينامون أسفلها، أو يبحثون عن ظل أحد الأعمدة. كان هناك عربات لبيع الطعام بجودة منخفضة وسعر مرتفع للغاية، كما تضاعف سعر زجاجة المياه بمقدار 5 أو 6 أضعاف. ومن صور الاستغلال أيضاً مجموعات تحويل العملة الموجودة هناك. يقول: كانت هناك نُدرة في كل شيء وحالة إرهاق شديدة خاصة للأطفال ذوي الحالات المرضية ولكبار السن وقد بدا بعضهم على وشك الموت. حالة الندرة هذه جعلت الناس يتصرفون بأنانية وليس كما كان يُتصوّر، بتضامن، مع محدودية الموارد والقلق بشأن ما يمكن أن يواجهوه في اللحظة القادمة.
الوضع في الجانب المصري من المعبر كان كما يصفه أفضل، حيث يقوم عدد من الشبان والشابات بتوزيع زجاجات المياه مجاناً ووجبات وبعض الحلوى والألعاب للأطفال. بمجرد دخلوهم إلى الحدود المصرية، احتفل ركاب حافلته بالغناء والرقص "حيث الوفرة والمسكن والأمن"، وقرب انتهاء عناء الرحلة.
يذكر "محمد" بقدر كبير من الامتنان مواقف إنسانية حدثت له عند وصوله لمصر: "نميري" سائق الميكروباص النوبي الأسواني في "وادي كركر" الذي تعامل معهم بتعاون وكرم، و"عاصم" موظف التذاكر بمحطة قطار أسوان الذي وفّر لأسرة صديقه تذاكر للقاهرة على الرغم من صعوبة الحجز وشدة الضغط، ومَن حَرَص على استضافة سيدتين قدمتا بمفردهما في المنزل لأخذ قسط من الراحة حتى موعد طائرتهما للقاهرة، والسؤال المتكرر من أهالي أسوان الذين يلتقيهم في طريقه عن أحوالهم وسلامتهم. لذلك هو يرى تجربته في مصر -التي ربما تختلف عن غيره - إيجابية جداً، أما التعليقات السلبية التي تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي تجاه السودانيين أو المصريين، فلا تعكس الواقع على الأرض كما يقول، وعادة ما تكون موجّهة لأغراض معينة من قبل جهات تستفيد من الشحن والشحن المضاد.
ألم "يمني" فوق جسر النيل
15-10-2019
طفولة سمراء وحيدة في القاهرة
09-04-2021
المميّز في حالة "محمد" حمله الجنسيتين السودانية (بالميلاد) والمصرية (عن طريق جدّته المصرية فوالدته)، وهو - من قبل حصوله رسمياً على الجنسية - يشعر بالامتنان والمحبّة لمصر التي عاش فيها لسنوات وتعلم فيها بأقل التكاليف. فقد تخرّج في كلية الحاسبات والمعلومات جامعة القاهرة، ولا يزال لديه أصدقاء فيها من أيام الدراسة. يقول إنّ ذلك منحه معرفة أكبر بالثقافتين وبالجوانب الإيجابية والسلبية في الشخصيتين، وإن هناك الكثير جداً من الأمور المشتركة بينهما، لكنّ المشكلات تظهر دائماً عندما يتعامل طرف على أساس فكرة مسبقة بالأفضلية: نحن أفضل بلد أو أطيب شعب، إلخ.. مما يؤدي إلى التصادم، بينما النضج يقتضي تقدير ثقافة المكان الذي تقيم فيه، مع عرض ثقافتك بصورة جيدة.
عن العنصرية يقول إنه ربما يكون قد اعتاد عليها، ففي مصر هو أسود أكثر من اللازم، وفي السودان ليس أسود بما فيه الكفاية "محتاج شوية أسودّ أكتر من كده". كما يجد أن تقبّل المصري لـ "السوداني المصري" أعلى من تقبل السوداني له، وإن درجة العنصرية تبدو عالية في القاهرة خاصة في السنوات الأخيرة، بخلاف المحافظات الأخرى.
**
لم تكن الظروف في السودان قبل الحرب جيدة اقتصادياً ومعيشياً، لكنّ "هادية" ورفيقاتها كنّ يتطلعنَ إلى توقف الحرب خلال فترة وجيزة للعودة. إلا أنّ الأخبار التي تأتي من هناك مخيّبة، وتبقى الخطط بشأن المستقبل غير واضحة، والخيارات تضيق.
1- تقرير للمفوضية بخصوص الأزمة السودانية، صادر في تموز/ يوليو 2023 https://tinyurl.com/56hwxd7f
2- الصفحة الرسمية لوزارة الخارجية المصرية https://tinyurl.com/5n8v8k9w
3- https://tinyurl.com/ye6e2jad
4- تقرير المفوضية الصادر في تموز/ يوليو، مرجع سابق.
5- الصفحة الرسمية لوزارة الخارجية المصرية، مرجع سابق.
6- الأهرام أون لاين – النسخة الإنجليزية https://tinyurl.com/3nehx2dy
7- https://tinyurl.com/2hu82emc