"كلامي صائب": السائق المغربي يقود أحاديث التاكسي

شرع سائقنا في الحديث والمزيد من الكلام واللغو وسرد معطيات مختلقة من خياله، مع قليل من الحقائق المنشورة على "السوشال ميديا"، لينهي أخيراً كلامه: "هل فهمت الشْريف؟.. أيوا خلصني دابا" (هل فهمت يا أخي...إذن ادفع لي الآن ثمن الرحلة).
2023-07-13

سعيد ولفقير

كاتب وصحافي من المغرب


شارك
سيارات "التاكسي" في مدينة مراكش المغربية

"سائق التاكسي يتلقى أوامر الركاب ليوصلهم حيثما يريدون، وليست عنده فرصةُ اختيار.. هنا (أي في الخيال السينمائي) يقرر سائق التاكسي أن يقود نفسه بنفسه".
المخرج مارتن سكورسيزي

جلستُ في أمان الله على مقعدي، انتظرتُ امتلاء بقية المقاعد الشاغرة، أو "البلايص" (وهي كلمة "معرّبة" من place الفرنسية) كما يحلو للمغاربة تسميتها. ثم بدأتْ الرحلة مع السائق، وهو ليس مجرد حامل لهذه الهوية المهنية، بل أكثر من ذلك: محلل سياسي، واعظ ديني، مرشد سياحي، باحث اجتماعي ومعالج نفساني. وهو أحياناً يبدو كائناً "مزعجاً" في نظر الركاب، بآرائه العائمة في الكلام العمومي، ويبدو في أحيان أخرى مؤْنساً للطريق، بغية الحديث والنقاش والخوض في مواضيع شخصية وأخرى لا يستطيع التاكسي أن يسعها.

التاكسي المغربي: فضاءٌ تحرِّكه النقاشات

هل أضحية العيد سُنّة مؤكدة أم فريضة؟

احتدم نقاش الركاب بين مؤكدٍ بأن أضحية العيد تأخذ طابع السنّة، وطرحٌ آخر يشدد على إلزامية هذه العادة. شخصياً لم أُبْدِ أي رأي بخصوص هذا الموضوع. لزمت الصمت وتابعت مآلات النقاش عن كثب. وفي غمرة السجال الحامي بين طرفي القضية، كان السائق على غير عادته، مختلفاً عن السائقين إجمالاً. كانت ردة فعله غريبة، إذ قام برفع صوت إحدى الأغاني الغربية الصاخبة، الداعية إلى الرقص وعدم الاكتراث بهموم الحياة.

اشتاط غضب الركّاب بعد هذا الفعل "غير المقبول" من قبل السائق، ثم حوّلوا سجالهم غير المحسوم حول أضحية العيد إلى نقاش بيزنطي آخر: هل يجوز الاستماع إلى الموسيقى أثناء مناقشة أمور دينية؟ سائق التاكسي لا جواب لديه. ربما كان يرغب في الهروب من هذا الحديث، الذي لا يسْمن، بالاستماع إلى أغانٍ صاخبة.

"بالله عليكم يا الشرفا (أيها الشرفاء) ...هل يستطيع أن يعيش الواحد منكم بكلفة لا تتجاوز مئة درهم؟ مستحيل طبعاً".

تحدث راكب خلفي بنبرة غاضبة وبصوت جهوري، زاحم ضجيج محرك سيارة التاكسي التي كانت تقودنا ضمن رحلة سفر طويلة المسافة. لزم السائق الصمت مطولاً دون أن يرد على كلام الراكب، ثم فجأة، حرّك المقود بشكل متكرر ومضاعف ناحية اليمين والشمال على نحو سحري وسريع، كاد أن يوصلنا إلى التهلكة، وكأنه عَبَّر عن حنقه واعتراضه على كلام الراكب، إلى أن أفرج عما يجول في قرارة نفسه:

"يا أخي تتكلم وكأنك أنت الوحيد في هذا العالم الذي يعاني من هذا الغلاء، انظر إلى حالي وحال معظم الركاب، اسألهم ليجيبوك بقصصهم وباركه علينا (وكفاك) من التباكي".

اشتاط غضب الركّاب بعد هذا الفعل "غير المقبول" من قبل السائق، ثم حوّلوا سجالهم غير المحسوم حول أضحية العيد إلى نقاش بيزنطي آخر: هل يجوز الاستماع إلى الموسيقى أثناء مناقشة أمور دينية؟ سائق التاكسي لا جواب لديه. ربما كان يرغب في الهروب من هذا الحديث، الذي لا يسْمن، بالاستماع إلى أغانٍ صاخبة.

سكت الكل، وكأنه فرض كلمته. أكمل حديثه، لكنه هذه المرة تحول إلى ما يشبه المحلل الاقتصادي: "واش سمعتي (هل سمعت) على شي حاجة اسمها التضخم؟ ها.. لا؟ إذاً اسكت".

بعد ذلك شرع سائقنا في الحديث والمزيد من الكلام واللغو وسرد معطيات مختلقة من خياله، مع قليل من الحقائق المنشورة على "السوشال ميديا"، لينهي أخيراً كلامه: "هل فهمت الشريف؟.. أيوا خلصني دابا" (هل فهمت يا أخي...إذن ادفع لي الآن ثمن الرحلة).

يبدو سائق التاكسي - في الغالب - شخصية متمركزة حول ذاته، ويعوض عدم امتلاكه لسيارة الأجرة باستحواذه على الكلام والنقاش وبـ "صوابيته"، وينتج استنتاجات وأحكام أخلاقوية و"سلطة خطابية"، تنفلت من قواعد النقاش الحجاجي، إذ يُلْزِم آراءه السابحة في العمومية على ركابه، ونادراً ما يتطاولون على سلطته ورؤيته، وهو يفرضها عليهم وكأنه "إله المعرفة".

موقف آخر حصل لي مع أحد السائقين، إذ كان حانقاً وغاضباً في إحدى نهارات رمضان القائظة، المتزامنة مع الإجراءات الاحترازية للحد من فيروس كورونا. لم أقاطع حديثه، تركته يتكلم دون أن أصحح مغالطاته:

"مكايناش (لا توجد) كورونا... كل ما هنالك أن السلطات تكذب علينا، يحتسبون الموتى العاديين على أنهم ضحايا هذا المرض"، ثم أكمل: "هل فهمت ما قلته؟ إنهم يخدعوننا لكي نجلس في منازلنا ونفلس ونبتعد عن التقرب إلى الله في بيوته.. إنهم يتحكمون فينا وفي عقولنا حول شيء غير مرئي... هل تراه أنت؟ أين هو؟ أعتقد بأن كلامي صائب ولا نقاش فيه".

"هو دائماً على صواب"..

كثيراً ما يصف قطاع من المغاربة سائقي التاكسي بأنهم يمتازون بصفات تُنَفِر بعضهم من الركوب في هذه الوسيلة الشعبية، إذ يعتبرونهم "مزعجين" وأحياناً "مستفزين" من خلال خوض بعضهم في الاستفسار عن أمور شخصية للركاب. وفي أسوء الحالات يعامل بعضهم ركابهم بجفاء، أو في كثير من الحالات يفرّغون شكاويهم المهنية والشخصية على الركاب، طالبين منهم ردة فعل أو كلام ينم عن التعاطف مع حالهم الأقرب إلى خطاب المظلومية.

في هذا السياق، وصفت المدوِّنة "أمل الزيتوني" ما وقع لها مع أحد سائقي التاكسي بأنه "مزعج" و"كثير الشكاوى"، وتخيلت نفسها - في هذه الحالة - أشبه ما يكون بمدرب/كوتش للتنمية الذاتية، إذ تعشم السائق بأن تتعاطف معه زبونته أو على الأقل أن تسدي له نصائح عملية لأزماته.

تقول أمل : "قال لي بأنه يقوم بمجهود أكبر من واجبه المهني كسائق تجاه مالك سيارة الأجرة، من غسلها إلى دفع تكاليف الركن/الباركينغ، والتغاضي عن نسبة الـ 20 بالمئة من أجرته أيام الويكاند. أكد لي بأنه طيب حد السذاجة، لكن لم يحصل مقابل كل هذه المجهودات على اعتراف بتضحياته من قبل مالك سيارة التاكسي، إذ كان يعامله بشكل سيء ويحتقره".

بالنسبة لأمل فكل ما حكاه لها السائق يعتبر أمراً شخصياً ولا يتوجب عليه أن يقوم بمثل هذه التصرفات التي تراها غير لائقة. على الخط نفسه، يرى الكاتب "محمد بنميلود" في إحدى تدويناته بأن سائقي التاكسي يميلون في العادة للشكوى والخوض في الأحاديث بالأسلوب نفسه وكأنهم يحفظون عن ظهر قلب هذا "المونولوغ"، كما أنهم يعتبرون أنفسهم على صواب دائماً حتى وإن كانوا مخطئين، سواء في النقاش أو في التعامل مع السير، ويسقطون أخطاءهم على الآخرين، وأي حادثة في الطرقية يتسببون بها يحملون مسؤوليتها للسائق الآخر. وردهم يكون في العادة: "شفتي عل حمار" (انظر كم هو حمار هذا السائق)، وفي هذه الحالة من غير اللائق أن يعترض الركاب على كلام سائقهم!

ومع ذلك، يمتلك حِسّاً إنسانياً

على الرغم من سيولة أحاديث سائق التاكسي وحالتها العائمة في الخطاب الشعبوي والجاهز، إلا أنها تشكل سبيلاً حيوياً للتنفيس عن مشاكل عالقة والترويح عن الركاب. بناءً على ذلك، يتداول المغاربة في منصات "السوشال ميديا" بأن هذا الشخص تحوّل بشكل ما من شخص "متهكِم" و"مستفز" و"مزعج"، إلى شخص ذي حس إنساني، يتقمص أدوار الطبيب النفساني، الذي يستمع لمشاكل وهموم الناس دون إدانة او إعطاء أحكام أخلاقوية ووعظية.

يبدو سائق التاكسي - في الغالب - شخصية متمركزة حول ذاته، ويعوض عدم امتلاكه لسيارة الأجرة باستحواذه على الكلام والنقاش وبـ "صوابيته"، وينتج استنتاجات وأحكام أخلاقوية و"سلطة خطابية"، تنفلت من قواعد النقاش الحجاجي، إذ يُلْزِم آراءه السابحة في العمومية على ركابه، ونادراً ما يتطاولون على سلطته ورؤيته

تحكي لي جارتي "نعيمة"، وهي سيدة خمسينية، بأن فضاء التاكسي بات مجالاً للفضفضة والتنفيس عن مشاكلها اليومية، خاصة وأنها اعتادت تفريغ متاعبها الشخصية لسائقِ تاكسي تراه "طيباً" و"مؤدباً" و"موثوقاً".

تقول نعيمة: "إنه يحسن التعامل، شاب هادئ يعاملني كأم وينصت بكل فرح لمشاكلي طيلة رحلتي ما بين المنزل والمصنع، إنه مؤْنسي في الطريق، أشعر بالراحة التامة بعد كل رحلة. يا ليت كل السائقين مثله".

ترى نعيمة وسواها من الركاب المتعاطفين مع سائقي التاكسي بأن نسبة منهم شوهوا صورة هذا الشخص، واختزلوه بشكل يسيء إلى البقية الذين يمتازون بروح إنسانية رائعة على الرغم من ظروفهم الصعبة التي لن يحس بمُرِّها وقسوتها سوى أصحابها، إذ كُتِبَ عليهم أن يتعاملوا طيلة الوقت مع شتى صنوف الطرقات، السلسة منها والمميتة.

باختصار، إذا كان سائق سيارة الأجرة يقود نفسه بنفسه في الخيال السينمائي وفق تصور المخرج مارتن سكورسيزي (مخرج فيلم "تاكسي")، فإنه (في الحالة المغربية) هو من يقود أحاديث هذا الفضاء المتحرك بمعية ركاب لا حيلة لهم سوى أن يتقمصوا دور المستمعين المؤيدين لآرائه. 

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه